صفحات الرأي

“دين الدولة” في الدستور السوري/ محمود الزيباوي

 

 

مع اقتراب الذكرى السادسة لاندلاع الأزمة السورية، تزداد التساؤلات حول هوية “سوريا المستقبل” وهويتها السياسية. في هذا السياق، أعلنت روسيا وتركيا وايران مؤخرا التوصل إلى تفاهم حول خريطة طريق لحل الأزمة السورية حملت عنوان “إعلان موسكو”. قبلها، قدّمت مسؤولة الشؤون الخارجية في الاتحاد الأوروبي فيدريكا موغريني وثيقة أوروبية رسمية  تقترح أن يتضمن الوضع النهائي في سوريا أربعة عناصر هي: نظام مساءلة سياسية، لامركزية أو تفويض سلطات، مصالحة، وإعادة إعمار. كذلك أدلى وزير الخارجية الروسي سيرغي لافروف بحديث لصحيفة إيطالية تحدث فيه عن الرؤية الروسية لمستقبل سوريا، وقال إن حكومته تعمل لكي يظهر لدى السوريين الأمل في مستقبل أفضل والعيش في دولة علمانية حرة تعيش فيها كل المجموعات الدينية الإثنية بسلام ووئام.

تعيد هذه المشاريع إلى الذاكرة، السجال الذي أثير في ربيع 1950، يوم أقرت لجنة الدستور مادة دين الدولة. جعلت هذه اللجنة من الإسلام ديناً للدولة، فاجتمع رؤساء الطوائف المسيحية في دار بطريركية الروم الكاثوليك في دمشق، وتداولوا في الأمر، وأصدروا في 7 نيسان-ابريل البيان الآتي: “بناء على انقسام الشعب السوري حول مادة من مواد الدستور فريقين: فريق تقدمي يرى وضع الدستور كما وضعته الأمم الناهضة، وسار في طليعة هذا الفريق المفكرون والمثقفون من مواطنينا المسلمين مما يتفق مع مبادئ الانقلاب الأخير. وفريق آخر أراد أن ينص في صلب الدستور على دين الدولة. بناء على ذلك، رأى رؤساء الطوائف المسيحية في سوريا، ان رأي الفريق الأول هو الرأي الصائب الذي يعبر عن رأيهم ويتمناه كل مخلص للوطن، وأن يعلنوا احتجاجهم الصارخ على القرار الذي اتخذته لجنة الدستور بأكثرية ضئيلة، وبغياب عدد كبير من أعضائها، متضمناً النص على دين معين للدولة، لما في هذا القرار من التمييز والتفريق بين ابناء الوطن الواحد، والنتائج التي تترتّب عليه في التشريع الداخلي، مما يخالف مقررات منظمة الأمم التي أعتنقتها سوريا بصفتها من أعضائها، معلنين استياءهم من ذلك القرار بالاعتذار من قبول التهاني بعيد الفصح المجيد، آملين من حكمة الجمعية التأسيسية الموقرة، بهيئتها العامة، أن تكون أكثر تفهّما لحاجة البلاد ولمصلحة الوطن العليا”.

أثار هذا البيان سجالاً واسعاً في سوريا، فدعا رئيس مجلس الوزراء بالوكالة فتح الله اسيون، رجال الصحافة إلى مؤتمر صحافي طلب منهم فيه التوقف عن الحديث عن هذه القضية وترك الأمر إلى الجمعية التأسيسية، “لأن الأخذ والرد في هذا الموضوع يسيئان إلى الطوائف والأديان في سوريا ويثيران النعرات الطائفية”، وأعلن أن الحكومة ستطبق قانون حماية الاستقلال على كل صحافي يثير هذه المسألة من جديد. جاء هذا القرار بعدما ألقى البطريرك مكسيموس الرابع الصايغ، في كاتدرائية الروم الكاثورليك، عظة جريئة، حمل فيها بشدة على المادة الثالثة من مشروع الدستور القاضية بجعل الإسلام ديناً للدولة. أشار البطريرك إلى الخلاف الجوهري بين العقيدة المسيحية والعقيدة الإسلامية في الشأن السياسي، وقال إن المسيحية تأمر باعطاء ما لقيصر لقيصر، أي انها تقبل بفصل الدين عن الدولة، بينما يخلط الإسلام بين العقائد وبين السياسة والإدارة، فهو في الوقت نفسه عقيدة وتشريع. وأضاف: “ان الفقرات الأربع التي تتألف منها المادة الثالثة متناقضة، فبينما تنص الفقرة الأولى على تحديد الإسلام دينا للدولة، تنص الفقرة الثانية على أن السوريين متساوون مهما كان دينهم، ولكن تحديد دين الدولة في الدستور يعني التفريق بين المسلمين وغير المسلمين، وإذا أخذنا بعين الاعتبار آراء واضعي مشروع دين الدولة، تبين لنا أن غير المسلمين سيكون لهم وضع خاص يعرفه الجميع، وليس من مصلحة أهل وصفه طالما أن عهد أهل الذمة ليس بعيدا جدا. ان أصاب فكرة دين الدولة لم يوضحوا حتى الآن كيف يريدون التوفيق بين هذا النص وبين عقيدتهم القرآنية، وهذا ما يقلق السلطات الدينية لمختلف الطوائف المسيحية”. وختم البطريرك هذا الخطاب بقوله: “ان واجبنا نحن كمسيحيين هو الدفاع عن حقنا ووجودنا كسوريين وكمسيحيين. نحن نرفض أن نعيش كمحميّين، لأننا لسنا دخلاء على هذه البلاد، نحن أصحاب سوريا الأصليين، وسكانها الأول قبل الإسلام. نحن لا نطالب بامتيازات، ولكننا نطالب بحقنا في الحياة. اننا نريد أن نحيا كرجال أحرار في بلد حر”.

تجاوز هذا السجال حدود الدولة السورية، وبعث ملك الأردن، عبد الله، إلى الرئيس السوري هاشم الأتاسي، رسالة أبدى فيها “عدم ارتياحه لمحاولة البعض الغاء نص دين الدولة من مشروع الدستور”. في هذا الخضمّ، اجتمعت لجنة الدستور ولجنة الأحزاب المشتركة في تموز-يوليو، فأقرتا التعديلات الجديدة على المادة الثالثة، وبات “دين رئيس الجمهورية الإسلام”، و”الفقه الإسلامي المصدر الرئيسي للتشريع”، و”حرية الاعتقاد مصونة، والدولة تحترم جميع الأديان السماوية وتكفل حرية القيام بجميع شعائرها على ألا يخل ذلك بالنظام العام”، و”الطوائف الدينية مصونة ومرعية”. كما تقرّر أن يضاف إلى مقدمة الدستور النص الآتي: “ولما كانت غالبية الشعب تدين بدين الإسلام، فإن الدولة تعلن استمساكها بالإسلام ومثله العليا، ويعلن الشعب عزمه على توطيد التعاون بينه وبين شعوب العالم العربي والإسلامي، وعلى بناء دولته الحديثة على أسس الأخلاق القويمة التي جاء بها الإسلام والأديان السماوية الأخرى، وعلى مكافحة الإلحاد”.

في المقابل، أذاع رئيس رابطة العلماء في دمشق، ابو الخير الحمداني، بياناً طالب بجعل دين الدولة الاسلام، مع النص على ربط القوانين بالتشريع الإسلامي. وبعث إلى المراجع العليا برقية تقول: “ان رابطة العلماء التي يؤيدها الشعب السوري الكريم رأت أن المادة الثالثة في مشروع الدستور التي فازت بتأييد الأكثرية وجاءت وفقا لدساتير الدور المجاورة ومماثلة لدساتير الدول الأجنبية الكثيرة التي تنص على ارتباط الدولة بدين الأكثرية، وكانت مؤيدة بألوف العرائض الكثيرة من جميع هيئاتها وطبقاتها، أصبحت لازما لا يصحّ انتزاعه ولا تعديله. ورابطة العلماء ترجو أن لا يفجع الشعب بأعز شيء عليه”. كذلك، أذاع عميد “الجبهة الاشتراكية الإسلامية” الشيخ مصطفى السباعي بيانا طالب فيه “الرأي العام الواعي أن  يدرس هذه النصوص الجديدة بهدوء وتجرّد”، وقال “ان هذه النصوص حققت وحدة الصف ودفعت عن الوطن كارثة انقسام طائفي مخيف لا يرضى به كل متدين عاقل، وكل وطني مخلص”.

تابعت صحيفة “النهار” اللبنانية فصول هذه القضية، وكتبت في تعليقها: “تقول الأوساط المطلعة ان رجال الدين المسيحي قد وافقوا على النص الذي أقرّته لجنة الأحزاب المشتركة، وان بيان رابطة العلماء ليس سوى رد على اجتماع رجال الدين المسيحي والقرارات الخطيرة التي اتخذوها عندما بدا على الجمعية التأسيسية انها تميل إلى جعل الإسلام دين الدولة”.

السؤال المطروح اليوم، هل يعيد التاريخ نفسه؟ وهل تتبنى سوريا اليوم من جديد صيغة توفيقية تلفيقية شبيهة بتلك التي تبنتها منذ أكثر من 66 عاماً، بعد كل هذه الأهوال التي عاشتها في زمننا الحاضر؟

المدن

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى