التعذيب بين نظام قديم وآخر يخلفه: مؤشرات الثورات العربية غير مطمئنة
فيكين شيتيريان
شكل التعذيب جزءاً أساسياً من النظام السياسي العربي القديم. واعتُبر وسيلة لانتزاع الاعترافات بالقوة من الناشطين السياسيين المنشقين. وكما كان الفساد بمثابة الإسمنت الذي يعزّز لحمة الطبقة الحاكمة، شكل التعذيب وسيلة لإبقاء الشعب بعيداً من السياسة. ويكفي ذكر أسماء سجون من مثل أبو سليم في ليبيا، والمزة ولاحقاً عدرا وتدمر في سورية، وبرج الرومي في تونس، وأبو زعبل في مصر، أو أبو غريب في ظل العراق البعثي، والأميركي، لكي تقشعر أبدان شعوب بكاملها.
وفيما انتقل النظام السياسي العربي من السلطوية المستنيرة إلى الديكتاتوريات الفاسدة، باتت ممارسة التعذيب شائعة. وقال عبدالوهاب هاني، الناشط التونسي في مجال حقوق الإنسان إنه كان يتم اللجوء إلى التعذيب في تونس قبل بن علي خلال الاستجواب للحصول على اعترافات، ولكن في عهده، بات منتشراً حتى في السجون، بعد انتهاء الاستجواب، كطريقة لنشر الخوف.
التعذيب مورس بصورة نظامية في البلدان العربية، وشكل جزءاً لا يتجزأ من النظام السياسي القديم. فهل يغير الربيع العربي ذلك؟
تبعث الطريقة التي انطلقت فيها شرارة الربيع العربي الأمل بأن المسائل المرتبطة بحقوق الإنسان، وخصوصاً مسألة التعذيب والمعاملة المحقّرة للمواطنين، ستبقى من أهم الأولويات على الأجندة السياسية العربية الجديدة. وقد أحرق محمد البوعزيزي نفسه احتجاجاً على سوء معاملة الشرطة له، وبدأت التظاهرات المصرية للاحتجاج على مقتل الشاب اللامع خالد سعيد تحت وطأة التعذيب في مقر للشرطة في الإسكندرية، وفي سورية، انطلقت تظاهرات درعا بعد إقدام الأجهزة الأمنية على اعتقال تلاميذ مدرسة وإساءة معاملتهم.
ليل طويل
«إن الربيع العربي ثورة في مجال حقوق الإنسان»، على حد تعبير خوان منديز الذي يتبوأ منذ تشرين الثاني (نوفمبر) من السنة الماضية منصب المقرّر الخاص لدى الأمم المتحدة حول موضوع التعذيب. ويعرف منديز الموضوع الذي يتناوله جيداً: فكونه محامياً يدافع عن المنشقين السياسيين في موطنه الأرجنتين في ظل الديكتاتورية العسكرية، تم اعتقاله لمدة 18 شهراً وتعرض لسوء المعاملة، قبل أن يتم ترحيله. ومنذ ذلك الحين، استقر في الولايات المتحدة حيث مارس القانون للدفاع عن العاملين المهاجرين، وعمل أستاذاً في الجامعة.
وتحدث منديز عن ليل طويل من الاضطهاد السياسي في العالم العربي، حيث يتم اللجوء إلى التعذيب وسيلةً لقمع المعارضة السياسية. ويرى منديز أن الربيع العربي ثورة ضد هذا الواقع، خرجت فيها الشعوب إلى الشارع، مطالبة بالانفتاح وحرية التعبير، معتبرةً أن الأنظمة القديمة تتساوى مرتبةً في ظل القمع والممارسات التعذيبية.
ومنذ وقت ليس ببعيد، كان الناشطون في مجال حقوق الإنسان مجموعة صغيرة ومنعزلة تسبح عكس التيار. فميرفت رشماوي، الناشطة في مجال حقوق الإنسان في فلسطين سألت: من منّا سمع بمجزرة سجن أبو سليم؟ وطوال عقود، تناقشت الجماعات العربية المعنية بحقوق الإنسان حول الموقف الواجب اعتماده إزاء السياسة، والآن، استنتجت رشماوي أن الناشطين في مجال حقوق الإنسان في اليمن وسورية وأماكن أخرى أصبحوا جزءاً من الثورة. وثبت أن النظام السياسي العربي القديم محصن ضدّ الإصلاح.
وهل تشهد الممارسات التعذيبية تغيّراً منذ مطلع الربيع العربي؟ زار خوان منديز، في سياق مهمة استكشاف، دولة تونس بين 15 و22 أيار (مايو)، وتنبّه للخطوات الإيجابية، ولكنه لاحظ أيضاً الأخطار. قال إن الحكومة المنبثقة من الثورة التونسية وضعت حداً فاصلاً وواضحاً مع الماضي، معلنة عن نهاية الممارسات التعذيبية. ومع ذلك، لاحظ خلال المهمة بعض الممارسات المثيرة للقلق. وقال إنه ما بين كانون الثاني (يناير) وأيار (مايو)، حصلت احتجاجات متعددة، لجأت فيها الشرطة إلى القوة على نطاق واسع.
وقال إنّ مجموعته جمعت معلومات عن الناس الذين تم تعنيفهم على أيدي رجال الشرطة بعد احتجازهم. وأضاف أنّ الأمر غير كافٍ للإعلان عن وضع حدّ للتعذيب، لكن من الضروري إجراء تحقيق في كل حالة لإيقاف هذا النوع من الممارسات.
وينطوي اعتماد الحكومة «البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب» و «نظام روما» (المحكمة الجنائية الدولية) على أدلة في الاتجاه الصحيح، ويجعل من تونس الدولة العربية الثانية التي تتمسك بالمحكمة الجنائية الدولية بعد الأردن. فضلاً عن ذلك، يظهر التزام واضح في أوساط الطبقة السياسية بمؤسسات الإصلاح وباعتماد معايير حقوق الإنسان العالمية. ويشكل «البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب» آلية إضافية لتجنّب التعذيب، وذلك من طريق إرساء عملية تفتيش مستقلة وطنية، وكذلك دولية، لأماكن الاعتقال.
هل يشكل الطريق التونسي معياراً جديداً، أم إنه استثناء؟
في مصر، كان الجميع في الأشهر القليلة الأولى مؤيداً لإصلاح مؤسسة الشرطة. لكن مع انتشار انعدام الأمن في أعقاب الثورة،، يطالب كثيرون الآن بوجود أكبر للشرطة في الشوارع، أكثر مما يطالبون بإصلاحها، على حد تعبير كريم مدحت عنارة.
لكن عنارة أضاف «أن الوضع لن يدوم، في الأماكن التي تحصل فيها مواجهات يومية بين الشرطة والمدنيين، وحيث تواجه وحشية الشرطة بهجمات العصابات وعمليات إحراق سياراتها ومكاتبها. وعلى المدى الطويل، ما من طريقة أخرى غير إصلاح الشرطة وممارساتها».
تعمل إســــتر شوفلبرغر خبــيرة في شــؤون الشرق الأوسط وشمال أفريقيا في «رابطة منع التعذيب» في جنيف. وهي تشدد على أن الشفافية تشكل عنصراً أساسياً لوقف ممارسات التعذيب، مضيفة «أن السلطات في المنطقة كان جوابها على طلب زيارة السجن، أن ذلك يشـــكل خرقاً لســـيادتها، ورفضت فتح أبواب ســجونها للزيارات الدولية. إلا أن هذا الواقع يتبدل الآن، ويلاحظ عدد متزايد من الدول منافع الشفافية».
ويلفت النائب اللبناني غسان مخيبر إلى أن المزاج العام موجه نحو حقوق الإنسان في الوقت الحالي، وأي نائب لن يعترض على ذلك. وفي حين أن لبنان صادق أخيراً على «البروتوكول الاختياري لاتفاقية مناهضة التعذيب»، إلا أن لدى مخيبر شكوكاً في أن نصف النواب لم يقرأوا نص المشروع قبل أن يصوتوا تأييداً له. ويفسح وضع من هذا القبيل المجال أمام سن قوانين مواتية، لكنه يفرض أيضاً تحديات جدّية: إذ إن أي قانون، ليصبح نافذاً، يجب أن يترجَم إلى مناهج دستورية ستكون بحاجة إلى إرادة سياسية لتتجسد.
من الربيع العربي إلى الحروب الأهلية
أفسح الربيع العربي المجال أمام الثورات السلمية، لكنه واجه أيضاً قمعاً عنيفاً تحول إلى حروب أهلية في حالات عدة. لقد سألت نديم حوري حول ما إذا كانت أفلام الفيديو التي تصوّر تعذيب المنشقين في سورية من صنيع رجال الشرطة، كوسيلة لبث الذعر في أوساط العموم، فأعرب حوري الذي يعمل لمنظمة «هيومن رايتس ووتش» التي أصدرت للتو تقريراً عن التعذيب في سورية عن شكه في ذلك، لكنه أضاف أن التعذيب ما عاد يعطي مفعولاً. والآن باتت المعارضة هي التي تصوّر ضحايا التعذيب وتنشر ما صوّرته على موقع «يو تيوب». وفي الوقت ذاته، يلفت حوري إلى وجود حس عميق بالظلم وإلى رغبة متزايدة في المعاقبة.
وما إذا كانت السلطات السياسية الجديدة ستميل إلى الانتقام بعد أشهر طويلة من القمع العنيف على أيدي النظام القديم أم إنها ستفرض حكم القانون بالتساوي على الجميع؟ يلفت خوان منديز إلى مؤشرات لا تنبئ بالخير تصدر عن ليبيا. وأشار إلى أحداث مثيرة للقلق، لا تقتصر على قتل القذافي، إنما تشمل أيضاً مؤيدين آخرين للنظام وُجدوا مقتولين بعدما اعتقلوا.
موقف خوان منديز كان مشوباً ببعض الحذر، إذ إن فرض الديموقراطية لا يعني تلقائياً احترام حقوق الإنسان، بما يشمل اختفاء التعذيب. ويقول إن تجربة أميركا اللاتينية تظهِر أن إلغاء التعذيب ليس سهلاً. وهناك ميل إلى العودة إليه في مكافحة الجريمة والمخدرات، ولضمان الأمن القومي. وهناك ميل مشابه في دول الغرب ساد خلال العقد المنصرم، يقوم على تقبّل متزايد للتعذيب وللمعاملة المحقّرة باسم «الحرب على الإرهاب»، أو لمكافحة الهجرة غير المشروعة.
ويتابع منديز قائلاً إن التحدي الكبير الذي تواجهه الديموقراطيات هو أنه مع الحرية الصحافية، بتنا نسمع أكثر عن الجريمة، وخصوصاً في التقارير التلفزيونية المثيرة. وبالنتيجة، هناك تقبل أكبر في أوساط الرأي العام لمبدأ مكافحة الجريمة، حتى وإن كان الثمن انتهاك حقوق الإنسان. ومع ذلك، أضاف منديز أن الحرية الإعلامية المثيرة، تُعتبَر تقدماً بالمقارنة مع التعذيب الذي يحصل في الكتمان.
الحياة