صفحات الرأي

المشاهد القاتمة لـ ”الديمقراطية” المسلحة

 

عبد الاله بلقزيز

من غير الممكن لمعارضة مسلحة أن تكون معارضة ديمقراطية، أو حاملة لمشروع ديمقراطي، حتى وإن هي زعمت أنها ما حملت السلاح إلا لتحقيق ذلك المشروع الذي امتنع عليها من طريق النضال السلمي، وحتى لو هي ادعت أنها أُجبرت على حمله للدفاع عن نفسها و”عن الشعب” ضد العنف المسلح للنظام، ذلك أن بين العنف المسلح والديمقراطية بوناً لا يقبل التجسّر والرتْقَ، ولا يمكن اختراع القرابة بينهما باسم أي مبدأ، فهما متجافيان متنابذان لا يقوم الواحد منهما إلا على أنقاض الثاني، وهما لا يتساويان في الوجود وإن تكافآ في العدم (على مثال نجاح نظام استبدادي في إعدام وجودهما معاً) . وثمة ثلاثة أسباب، على الأقل، تدعو إلى الاعتقاد أن الديمقراطية لا تخرج – بل لا يمكن أن تخرج – من جوف العنف “الثوري”:

أول تلك الأسباب ما تقوله الخبرة التاريخية والإنسانية من حقائق: ما من عملية تغيير اجتماعي حصلت، في التاريخ الحديث والمعاصر، بأسلوب العنف الثوري إلا واستتبعها قيام نظام ديكتاتوي أو كلاّني (توتاليتاري) أو هما معاً .

والعلاقة الطردية بين العنف والديكتاتورية مفهومة ومبررة تماماً في تجربة السياسة والسلطة، فالذين ينتزعون السلطة بالقوة لا يسمحون لغيرهم بأن يشاركهم فيها، فكيف بأن ينازعهم على حيازتها؟ تتحول السلطة عندهم إلى حق حصري باسم الثورة، ويصبح تسليمهم إياها لغيرهم تفريطاً ب”مكتسبات الثورة” . وإذا كان لنا في تجارب روسيا البلشفية، و”الديمقراطيات الشعبية” في أوروبا الشرقية، والصين، وكوريا الشمالية، وفيتنام، وكوبا . .، المثال الكوني لذلك، فإن لنا في لغة “الاجتثات” و”العزل السياسي” العربية الدليل على نوع السلطة التي يقترحها علينا تغيير جرى بالعنف المسلح: الأجنبي أو الأهلي أو هما معاً، فأوصل إلى سدة الحكم نخباً ليس بينها وبين الديمقراطية شبهة علاقة، بل ليس بينهما سوى “حجاب السّتر”، كما تقول العبارة العامية المغربية .

وثاني تلك الأسباب أن النضال السلمي الديمقراطي يسع نطاقاً فئات واسعة من الشعب، وطيفاً واسعاً من الجماهير المنظمة في الأطر والمؤسسات الحزبية والنقابية والشعبية . وهذه، إذ تشارك بفعالية في عملية التغيير الديمقراطي لأوضاع الاستبداد والفساد القائمة، تنتج تراكماتها النضالية، بالتدريج، ميزان قوى مختلاً لمصلحتها، على نحو يفتح الطريق أمام إرادتها في إزاحة النظام القائم، وإنفاذ مشروعها السياسي للتغيير الديمقراطي . وإلى ذلك فإن اعتمادها وسائل النضال السلمي يُجبر النظام المستبد على الإحجام عن ممارسة العنف المسلح، وتنزع عن وحشيته الأمنية ما يحتاج إليه من ذرائع . أما العنف الثوري فعمل غير شعبي وغير جماهيري، وإنما تمارسه نخبة تنوب عن الشعب في عملية التغيير، والحال إن الثورة حالة شعبية لا نخبوية . وحين تنوب نخبة عن الشعب – على الرغم من أن الأخير لم يُنبها عنه – تصبح السلطة الجديدة حقاً حصرياً لتلك النخبة، وقطعاً لا تخرج من يدها إلا بثورة أخرى أو بالانقلاب، أما الاقتراع فلا يكون من عدّة اشتغالها، ولا مما يقوم عليه نظامها السياسي .

وثالث الأسباب تلك، أن العنف المسلح ضد النظام في مجتمعات تعاني هشاشة حادة في الاندماج الاجتماعي، وتعيش انقسامات عصبوية: طائفية ومذهبية وعرقية، مثل المجتمعات العربية، لا يمكنه أن يقود إلا إلى حرب أهلية تطوّح بالدولة والمجتمع والوطن الجامع، وتفتح الباب أمام التقسيم، أو أمام تكوين نظام سياسي فئوي (مذهبي أو عشائري) للعصبية الغالبة، وإعادة تأسيس أزمة النظام السياسي في البلد . وظني أن ما من ثورة ديمقراطية أصيلة تقود إلى الحرب الأهلية وتفكيك الوطن وإعادة توليد الديكتاتورية المحمولة على فكرة فئوية عصبوية أو دينية . إن حمل السلاح هو أقرب طريق إلى تفكيك الوطن والدولة وخراب العمران، وقد يكون أقرب طريق إلى الانتحار السياسي . ولعله أثمن هدية يمكن لمعارضة ما أن تقدمها إلى نظام مستبد ليبرّر للشعب لماذا يستعمل السلاح، وليقنعه بأن الأمن هو أثمن ما يطلبه الناس: حتى قبل الخبز والديمقراطية . هذه أسباب تكفي لبيان ما بين الديمقراطية والعنف من اختلاف في الطبائع يتعصىّ على الجمع والتأليف . غير أن وجهاً آخر من مسألة العنف المسلح، لا يقل خطراً عن الوجه الأول، ينبغي أن يُشار إليه في هذا المعرض، هو أن اللجوء إلى السلاح لإحداث التغيير السياسي، يفضي بصاحبه – في لحظة من تطور الصراع – إلى اللجوء إلى الأجنبي استنجاداً بقوته أو بدعمه، ويُسقطه موضوعياً في نطاق جدول أعماله السياسي واستراتيجيته، ليتحول حامل السلاح – حينها – إلى أداة، مجرد أداة، في سياسات الأجنبي!

يحدث ذلك، عادة، حينما يكتشف حامل السلاح المعارض أن ميزان القوى القتالي ليس لمصلحته، وأن قوته النارية ليست بحجم القوة النارية النظامية، وأن النظام الذي يقاتله ليس معزولاً عن محيطه الاجتماعي، وليس مفكك الأوصال والأجهزة، ولا هشّ البنيان، وأن الحاضنة الشعبية للمعارضة المسلحة محدودة القاعدة . . إلخ . وهي أوضاع تُلجئ حامل السلاح إلى قوى أجنبية يتوسلها للتدخل أو لتزويده بالسلاح النوعي الذي يكافئ التفوق العسكري للنظام . في الحالين يرتضي، تحت وطأة الحاجة، الارتهان لقرار الأجنبي والتفريط بقراره الوطني . وبيان ذلك أن الأجنبي  ليس جيش مرتزقة جاهزاً لتقديم الخدمات لمن يطلبها، وإنما هو دول ذات استراتيجيات ومصالح، فهي لا تتدخل عسكرياً، ولا تقدم سلاحاً، إلا إذا كان ذلك يخدم أهدافها هي لا أهداف المستنجد بها، و- بالتالي – يكون على الأخير أن ينهض بخدمة أهداف الأجنبي حتى يحظى بدعمه!

ما هذه “الديمقراطية” التي تُفْقد المُعارض وطنيته؟!

الخليج

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى