التفاوض وحسن النيات/ مالك ونوس
يستوجب التفاوض بين أطراف صراعٍ توفر، أو بالأحرى توفير، شروطٍ يجب أن تتساوق والعملية التفاوضية وتغلّفها، أقلها وقف الحملات الإعلامية التي يشنها كل طرف ضد الطرف الآخر، وَقفاً يأتي تعبيراً عن حسن نيات الطرفين المتعبين من الحرب، بالضرورة. وهذا (الأقل) هو ما لم يتحقق خلال جميع جولات العملية التفاوضية بين أطراف الصراع في سورية، تلك العملية التي كان يعوّل عليها الشعب السوري الكثير. ولئنْ كانت الهدنة القائمة حالياً أطولَ تجربة سلام في سورية، على الرغم من خروق كثيرة مسجلة خلالها، فلربما يستطيع رعاة العملية التفاوضية، في مراحلها المقبلة، فرض خفض لهجة العداء، إن تعذّر وقف الحملات الإعلامية المضادة.
فكثيراً ما كان يجري التوافق على هدنٍ في هذه المنطقة أو تلك، أو حتى على وقف إطلاق نار شامل لكل المناطق. لكن، سرعان ما تُنقض، فيعود القصف والعمليات القتالية والاقتحامات من جديد، ويعود الإعلان المتبادل بين النظام السوري والمعارضة عن تحرير قطعةٍ من الأرض هنا، أو قطعة من الأرض هناك. ويعرف المواطن البسيط الذي تسمح له ظروف الكهرباء أو الهدوء أو توفر الوسيلة، التّسمرَ إلى جهاز التلفزيون أو الراديو، يعرف أنه، منذ الطلقة الأولى التي تلي الإعلان عن أي هدنة، فإن الاتفاق بقي حبيس الأوراق في الأدراج، ولن يتسنى لشروطه الفرصة لتأخذ طريقها إلى التنفيذ على أرض الواقع، فيعود مسلسل القصف والهجمات فالتفاوض والاتفاقيات الهشة.
في هذه الأوقات، تكون هنالك عائلات وأناس محاصرون، أو لاجئون، أو عالقون، على الحدود، ينتظرون إشارة صغيرة، أو نوراً خفيفاً يعطيهم أملاً أن شيئاً ما حقيقياً يلوح في الأفق. وهؤلاء ضائعون، تتناقض الأخبار التي يسمعونها من هذه القناة الإخبارية أو تلك، فتزيد في ضياعهم وفقدان آمالهم في عودةٍ قريبة. يتابعون سير الهدنة، فيرون أن ضامنها هو أول من اخترقها، فزاد من قصفه ووسَّع نطاقه، كما في العملية الأخيرة في حلب التي أعقبت اتفاق القوى الدولية في ميونخ على تطبيق هدنة في غضون أسبوع، وهو ما لم يتحقق، حين خرقها الضامن الروسي لها، موفراً غطاءً لقوات النظام البرية، فأسفرت عملية التصعيد، أول ما أسفرت، عن تهجير حوالي مائتي ألف مواطن سوري، أصبحوا عالقين على الحدود مع تركيا، فيدركون أن العملية برمتها لا تتعدّى الشكليات والبروتوكولات التي يتبنى محركوها التفاوض عملية تجميلية لواقع ثقيل وأسود على الأرض.
ويستمر مسلسل التفاوض، ومسلسل توقيع الاتفاقيات والتفاهمات، التي صارت من الكثرة،
“تستحق الجولة الحالية من المفاوضات السورية تنسيقاً أميركياً روسياً مشابهاً للذي سبق الهدنة” بحيث بات المتابع بحاجة إلى داتا خاصة، يجري عليها تعديلات دائمة ويومية، من ناحية التواريخ والأماكن والشروط الجديدة، حتى يستمر في تذكّر هذه الاتفاقيات والتفاهمات، فما بالك بالمواطن المحروم من أي وسيلة توصل إليه الخبر أو تعطيه الأمل. ولا شك أن العائلات والأفراد الهاربين من القصف، أو المدمرة بيوتهم، والعالقين على الحدود السورية مع تركيا أو الأردن، هم بالضرورة فاقدون أسباب التواصل ومعرفة الجديد الطارئ على مسارات التفاوض. هؤلاء هم أكثر الناس تعلقاً بأي جديد، يعيد إليهم الأمل في الهدوء أو الشروع في إيجاد حلولٍ تعيدهم إلى ما تبقى من بيوت أو بساتين، لكن دخان التفجيرات التي يرونها تنطلق من قراهم وبلداتهم المطلة على الحدود هي الخبر الحقيقي الذي منه يعرفون أن عليهم إدارة ظهرهم وركوب الأمواج نحو الغرب.
يتابع العالم، هذه الأيام، اللقاء التفاوضي الجاري بين المعارضة السورية والنظام في جنيف، لإيجاد تسوية للنزاع في سورية. وتأتي هذه الجولة من المفاوضات، بعد الهدنة التي بدأت في 27 من فبراير/شباط الماضي، بناءً على الاتفاق الروسي الأميركي لوقف إطلاق النار في سورية. وهي هدنة عُول عليها الكثير، حتى إن الرئيسين الأميركي، باراك أوباما، والروسي، فلاديمير بوتين، تحادثا هاتفياً بشأن اتفاق الهدنة هذا، وشدّدا على أهمية تطبيقه. وأمل البيت الأبيض الأميركي أن يكون الخطوة الأولى التي تتبعها محاولات إحراز تقدم في العملية السياسية على طريق الحل. كما عزّز المبعوث الدولي، ستيفان دي مستورا، الآمال، حين صرح لوسائل الإعلام، يوم 12 مارس/آذار الجاري، بأن الهدنة الحالية ليست محددة بمدة معينة، مقللاً من تهديد الخروق المسجلة بإنهائها.
وبناءً عليه، تستحق الجولة الحالية من المفاوضات تنسيقاً أميركياً روسياً مشابهاً للذي سبق الهدنة. مستندين على مناخ السلم الذي لاح في سورية خلال هذه الهدنة، والآمال التي رافقتها بأن تستمر فتتكرّس سلاماً. كما يمكنهم الاستناد على الخطاب التسامحي الذي ظهر على صفحات سوريين كثيرين على مواقع التواصل الاجتماعي، لفرض وقف الحملات الإعلامية، وخطاب الكراهية الذي تخلِّفه. وهذه جميعها آمالٌ لا تتحقق سوى حين يبدأ السوريون المحاصرون برؤية الأدوية والأغذية، وقد وجدت طريقها إليهم، ويلاحظون تلاشي أصوات المدافع والانفجارات، شيئاً فشيئاً، وصولاً إلى اليوم الموعود بالسلام.
العربي الجديد