صفحات المستقبل

روسيا جزء من المشكلة وليست جزءاً من الحل


يتخبط المثقفون اليساريون في سورية ويحتارون في تفسير أحجيات الموقف الروسي من النظام السوري ويذهب أستاذنا السيد “ميشيل كيلو” لاعتبار أن الحل السياسي في سوريا بيد الروس وحدهم ! وهذا ما يبرر بنظره الذهاب ٳلى موسكو لطلب دعمها لحل تفاوضي في سوريا يحفظ للبلد استقلاله.

يقول الاستاذ كيلو: “ليست لروسيا في سوريا الأهداف عينها التي لأميركا، بل إن أهداف روسيا معاكسة لأهداف الأخيرة، لأنها لا تستطيع أن توافق على تقويض دولتنا ومجتمعنا، ولا تقدر إلا أن تكون مع استمرارهما وبقائهما، موحدين ومحميين…”. لا نعرف كيف يستطيع مثقفنا الكبير تأكيد هذه “الحقائق”؟ مع ذلك فهو يتابع: “ليست روسيا كأميركا في هذه النقطة الفائقة الأهمية، التي تحدد مواقف الدولتين، فتجعل الثانية عديمة الاكتراث بمصير سوريا، وبالتالي قليلة الاهتمام بإنهاء الصراع الدائر فيها، قبل انهيار بنى دولتها ومجتمعها، بينما لا تفعل روسيا الشيء نفسه، وترتكب أخطاء جدية ليس في المسائل التي تتعلق بوجود دولتنا ومجتمعنا، بل بالصراع الدائر منذ نيف وعام في وطننا”. في موضع آخر يعتبر مفكرنا الكبير” أن المعارضة السورية لا تتطلع إلى إخراج روسيا من بلادها، بل ترى فيها قوة توازن مع الغرب بوسعها مساعدتها على حماية استقلال الدولة السورية الوطني، بعد تغيير النظام”

قوة توازن مع الغرب ؟ في حين يصرح لافروف وسيده بوتين “بأن هناك خلافاً في وجهات النظر بين روسيا وشركائها الغربيين”. شركاء وليس منافسين أو أعداء لا سمح الله. هل وصل ٳلى علم مفكرينا خاصة اليساريين منهم أن الحرب الباردة قد انتهت بخاسر كبير هو المعسكر الشرقي وبرابح وحيد هو الغرب الذي ضم ٳلى صفوفه الدول الشرقية السابقة ؟ لم تعد هناك منافسة بين شرق وغرب بل نظام روسي مشاغب يجد صعوبة في تقبل حقيقة أنه أصبح قزما سياسياً ودولة مافيا فاقدة للاحترام.

هل يتوقع مفكرنا الكبير من دولة يتوازع اﻷدوار فيها الشبيح “بوتين” و “المحلل” مدفيديف أن تقوم بتسهيل قيام نظام ديمقراطي في سوريا ؟ ومتى كان فاقد الشئ يعطيه ؟ ثم ما الفرق بين الدور الٳيراني والدور الروسي ؟ كلاهما يسلح النظام و يلعب وفق نفس المبدأ في التحالف مع جار بعيد ضد آخر قريب.

ٳيران تدعم اﻷسد ضد شعبه لكي يكون مطية لها وألعوبة بيدها، تهدد به دول الخليج وتركيا وتبتزهم، مثله مثل “نوري المالكي” رئيس وزراء العراق القادم على ظهر الدبابة اﻷمريكية التي حملته ٳلى السلطة قبل أن ترحل، على عكس الدبابة الروسية التي بقيت لتقتل العزل في الشام بقذائف صنعتها روسيا وسلمتها للأسد الذي تحميه ببوارجها.

كيف تكون روسيا صديقة للسوريين والسلاح الروسي يقتل اﻷبرياء في سوريا، بغطاء من الفيتو الروسي ؟ لماذا نعادي أمريكا ﻷن سلاحها يقتل الفلسطينيين بيد اﻹسرائيلي في حين نغفر ذنوب الروس ﻷنهم “أصدقاء للشعوب المسحوقة”؟ ما الفرق بين فيتو أمريكي يحمي الاستيطان والقهر في فلسطين وآخر روسي يحمي القتلة في سوريا ؟

روسيا تدعم اﻷسد للضغط على دول الخليج وﻹضعاف تركيا اﻷطلسية وللمشاغبة على اﻷمريكيين لا أكثر ولا أقل. بالمناسبة، فالروس سبق لهم وأن تدخلوا مباشرة في منطقتنا أثناء الحرب الروسية التركية السادسة، عام 1773 وأنزلوا قواتهم مع مدافعها في بيروت لمساندة أهلها في ثورتهم ضد الباشا الذي استسلم بعد شهرين. من هنا أتى اسم ساحة المدفعية في بيروت. التاريخ يذكر أن الروس زرعوا عملاءهم في المتوسط و جعلوهم يثورون ضد الحكم العثماني، قبل رميهم جانباً وتوقيع المعاهدات مع الباب العالي على حساب هؤلاء المغرر بهم. الروس لم يكونوا يوماً أصدقاء للشعوب ولا للأقليات التي تركوها لمصيرها بعد قبض الثمن، يستوي في ذلك الارثوذوكس والدروز وأخيراً العلويين.

ما الفرق بين نظام اﻷسد الحالي ونظام “أحمد سياد بري” في الصومال والذي تمتع بالدعم السوفييتي الغير محدود كرمى لعيون القاعدة البحرية السوفييتية هناك وليذهب الصومال ٳلى الجحيم وهو ما حصل فعلاً. شيء مشابه جرى مع نظام “بابراك كارمل” البائد في أفغانستان وقت الاحتلال السوفييتي.

ليقل لنا أستاذنا الفاضل ٳن كان هناك من فرق بين الماضي الامبراطوري الروسي والحاضر الكئيب ؟ بين حل اﻷسد اﻷمني في سوريا والحل العسكري لبوتين في الشيشان ؟ في الحالة اﻷخيرة هناك فرق، فالشيشان لم يكونوا يحكمون روسيا الارثوذوكسية بالتحالف مع أقليات أخرى على مبدأ العصابة الحاكمة في دمشق.

ثم لماذا يدفع السوريون ثمن طرد الروس من ليبيا ؟ ما الذي منع الروس من أن يهبوا هم لنجدة الليبيين في بنغازي وفق قرار مجلس اﻷمن الذي وافقوا عليه هم والصينيون ؟ وهكذا “يلهفون” الصفقات ويظهر الروسي بمظهر المحرر في عيون العرب والعالم. ما الذي يمنع الروس من التدخل مباشرة في سوريا وقلب نظام اﻷسد ثم السماح بانتخابات حرة وديمقراطية ؟ يكفيهم أن يوافقوا على أحد قرارات مجلس اﻷمن “المغرضة” ثم يدورونه لمصلحتهم وساعتها سيفرح بهم السوريون كمحررين وليس كداعمين للطاغية.

الواقع هو أن الروس اليوم لا يمكنهم التدخل ولو أرادوا، فروسيا بالكاد تتمكن من المحافظة على حدودها وعلى نفوذها في حلقة ضيقة هي المحيط الروسي المباشر وهي ليست في وارد التدخل أبعد من جورجيا والشيشان.

الحقيقة المرة والتي لا بد من أن يعترف بها أصدقاء روسيا هي أن هذه اﻷخيرة هي التي تحتاج لنظام مارق مثل نظام اﻷسد والذي يسمح لها بلعب دور خارج حدودها ويتيح لها التلهي بحق الفيتو الذي ورثته في ساعة غفلة من المجتمع الدولي. صحيح أن اﻷسد بحاجة لغطاء دولي وللدعم العسكري ولكن هذا الغطاء وهذا الدعم الروسي لا قيمة لهما على اﻹطلاق ٳن قرر سيد العالم اﻷمريكي التدخل.

الغطاء الروسي لم يحم صربيا ولا هو أنجى ميلوسيفيتش ولا أحد انتظر القرار الروسي حين قرر “بوش الصغير” التخلص من صدام حسين. روسيا تقدر أن تزعج ولكنها “لا تحل ولا تربط” حين يقرر الغرب التدخل. مشكلة السوريين هي في تخاذل “اوباما” عن نجدتهم وفي عدم رغبة هذا اﻷخير في ٳلقاء نظام اﻷسد ٳلى مزبلة التاريخ وليست في مهاترات سيد الكرملين وعنترياته. بوتين لا يفعل سوى اللعب في الوقت اﻷمريكي الضائع.

بالمناسبة، في أواخر الخمسينات، تقاسم اﻷمريكيون والسوفييت النفوذ في شبه الجزيرة الكورية. السوفييت تحالفوا مع نظام الرفيق “كيم ايل سونغ” الديمقراطي الشعبي في الشمال واﻷمريكيون بقوا في جنوب كوريا. بعد خمسين عاماً أصبحت كوريا الجنوبية أحد أغنى وأقوى دول العالم المتقدم، في حين ترتع كوريا الشمالية في “نعيم” الدولة الوراثية اﻷفقر في العالم.

مسكينة الثورة السورية المبتلاة بأكثر النظم قمعاً ودموية في تاريخ سوريا والمطلوب منها أن تنتظر الخلاص على يد صديق روسي والغ في دماء شعبها، مثله مثل اﻹيراني.

محكوم أيضاً على سوريا الثورة، وفق بعض مفكريها ، أن تكون معادية للامبريالية وللصهيونية وللغرب بشكل مطلق. ممنوع على الثورة السورية أن تصادق أمريكا التي لم تقتل أي سوري أو أن تصادق بريطانيا التي أنذرت فرنسا عام 1945 بوقف قصف دمشق. ممنوع على الثورة أن تتلقى الدعم من “دول الخليج الرجعية” التي لا تقتل مواطنيها بالجملة أو أن تتقرب من تركيا الجارة وشعبها الشقيق الذي عاش معنا بوئام طيلة أربعة قرون. مطلوب من السوريين أن ينسوا كل مآثر روسيا المعادية للٳسلام والعرب والداعمة ﻷكثر اﻷنظمة همجية وتخلفاً، من صدام ٳلى القذافي مروراً بالبشير وبسياد بري وليس انتهاء بنظام اﻷسد.

أيضاً، مفروض على الثورة السورية أن تكون أكثر عداء ﻷمريكا وﻹسرائيل من الفلسطينيين أنفسهم و أن تعتبر كل ما يأتي من أمريكي أو يهودي كمؤامرة مغرضة حتى لو كان ملاحظات ٳنسانية من ٳسرائيليين لا ناقة لهم ولا جمل، تألموا كغيرهم لما يرونه من سفك دماء السوريين. علماً أن ٳسرائيل قتلت من السوريين في كل حروبها أقل مما قتل اﻷسد الابن وحده في اﻷشهر الستة اﻷولى للانتفاضة السورية. خلال اثني عشر عاماً من الانتفاضة الفلسطينية قتلت ٳسرائيل ما يقرب من 6000 فلسطيني بما فيها مجازر جنين وغزة. بما يعني أن ٳسرائيل قتلت 42 فلسطينياً في الشهر، وليس في يوم واحد مثل اﻷسد “الوطني”.

بالمقابل، مسموح لنظام اﻷسد أن يقيم تفاهماً استراتيجياً واتفاق شراكة مع ٳسرائيل ما دام يسميه “اتفاق فض اشتباك”! أي اشتباك والجولان المحتل هو أهدأ بقعة في العالم منذ 1974؟ حلال للأسد اﻷب أن يستقبل في قصره ضباط الموساد القادمين بمعية الكتيبة النمساوية في قوات الفصل، بينما حرام على الثورة السورية أن تتلقى الدعم المعنوي ولو من يهودي يدعم حق الفلسطينيين في تقرير مصيرهم !

الويل والثبور للسوري الذي “يُضبط” وهو يفكر أن ٳسرائيل أقل عداءاً للسوريين من حاكمهم أو يحاول طرح هموم السوريين لدى الفئات المثقفة اﻷوربية واﻷمريكية، فهذا المثقف “زار ٳسرائيل” وذاك “غنى يوماً في تل أبيب” أما برنار هنري ليفي فهو “ليكودي الهوى” ولو أنه لم يقتل يوماً أي سوري ولم يبرر قتل أحد. هذا العداء العنصري ضد اليهود وصل ٳلى درجة دعت أحد جهابذة الثورة السورية للقول : “ٳذا كان انتصار الثورة السورية يمر عبر هذا الشخص، فبالناقص من هذه الثورة !!” هذا الرجل لم يسمع ابنه وهو يصرخ “سامحني يوب” وٳلا لربما كان قد غير رأيه.

في نفس الوقت، نرى هؤلاء الذين يشهرون العداء والحقد اﻷعمى لكل ما هو غربي، أمريكي أو يهودي، يجاهرون بالحب والولاء لزعيم الكرملين ؟! بٳمكان السيد بشار اﻷسد أن يطمئن لسلامة رأسه ما دام مفكرو ومثقفو سوريا والثورة يعتبرون أن الخلاص سوف يأتي من الشرق، على مبدأ “داوني بالتي كانت هي الداء”.

أحمد الشامي

http://www.elaphblog.com/shamblog

ahmadshami29@yahoo.com

نشرت في بيروت اوبسرفرالجمعة 20 نيسان 2012 http://beirutobserver.com/index.php?option=com_content&view=article&id=74687:2012-04-19-22-37-45&catid=39:features

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى