التمدّن في مواجهتها/ إبراهيم غرايبة
لماذا لم يساعد إسقاط النظام السياسي في العراق والانتخابات النيابية والبلدية التي جرت بعد ذلك في تشكيل منظومة للازدهار والاستقرار؟ ولماذا لم تؤسس الثورات على الظلم والاستبداد حالة جديدة من الحريات والعدالة الاجتماعية والاقتصادية؟
ربما يكون أسوأ (وأهم) ما أظهرته موجة الجماعات والتنظيمات الإسلامية والحروب الطائفية والدينية التي اجتاحت العالم العربي أن الدولة العربية الحديثة، على رغم كل ما بذلته من تحديث وما أنفقته على التعليم والثقافة، لم تنشئ في واقع الحال مجتمعات مدينية تتشكل حول مصالحها وأولوياتها وتنشئ في ذلك مؤسسات اجتماعية وثقافية وأسلوب حياة تجعلها بذاتها ومستقلة بنفسها قادرة على حماية قيمها، ولكن الدولة الحديثة ألحقت المجتمعات والثقافة بها، وكانت عمليات التحديث والتعليم التي بذلتها بحسن أو بسوء نية غير قادرة على التحول الى منظومة اقتصادية اجتماعية متماسكة ترتبط بها مصالح الناس وتطلعاتهم، ولعلها في مواصلتها لرواية الاستقلال والحشد القومي والوطني لم تكن اقل خطلاً من الرواية الدينية، ذلك أنه وببساطة تقوم المدن حول الأسواق والموارد والمصالح، وتتشكل حول ذلك قيم الحياة الكريمة والحريات العامة والفردية والثقافة والفنون على نحو يلهم الناس والمجتمعات بأهدافها الكبرى والنضال لأجلها، ويفترض ألا يسمح بالعودة إلى تسلط عصبوي على المجتمعات والأسواق، ولكن يبدو واضحاً اليوم أن المدن العربية لم تكن مدناً، بل هي ليست سوى تجمعات عملاقة عشوائية، ولم تكن في أسواقها وتنظيمها وحياتها الثقافية والاجتماعية وقياداتها ونخبها سوى دائرة حكومية!
يفترض أن المدن قادرة حتى في غياب السلطة المركزية على أن تدير وتنظم وتمول احتياجاتها وخدماتها وسلعها الأساسية، الأمن المحلي، والتعليم الأساسي، والصحة، والأسواق، والثقافة والعبادة والتنظيم والحياة اليومية، هذه وظائف المدن والمجتمعات ويتجمع الناس وينظمون انفسهم على أساسها ويعرفون في ذلك أنفسهم وقادتهم، وفي إدارتهم وتنظيمهم لحياتهم هذه تنشأ البرامج والثقافة والفنون، وتتعدد وتختلف البرامج والآراء والاتجاهات، ولا يغير في ذلك كثيراً (كما يفترض) تبدلات السلطة المركزية واتجاهاتها وضعفها وقوتها.
«داعش» لم تكشف ضعف الدولة وغيابها ولكنها أظهرت مدى هشاشة المدن والمجتمعات وعجزها حتى عن تدبيـر الحد الادنى لشؤونها واحتياجاتها، وهي خطوة أساسيــة وأولى تـسبق كل أعمال التــنــويـر والتـحـديـث والأفــكار على اتجاهاتها! بل يفترض أن هذه تحلّ في مجتمعات قائمة تشكل نفسها ووعيها لذاتها أو تبحث عن هويتها، وستظل (كما يفترض) هذه المدن والمجتمعات قادرة على التماسك وتنظيم وحماية نفسها في الحد المعقول حتى في حالة الاحتلال او تسلط عصابات عليها وجماعات مسلحة، وتستطيع غالباً أن تنظم العلاقة مع المعتدين والمحتلين بالمقدار الذي يحمي سكانها وقيمها الأساسية ويوفر احتياجاتها وأولوياتها.
العرب في مدنهم وتجمعاتهم وروابطهم يتعددون ويختلفون دينياً وسياسياً ويتجادلون على الخلافة والوحدة العربية ومقاومة الاستكبار العالمي والاحتلال ويشكلون أنفسهم في ذلك. ولكنهم نسوا كيف يعيشون حياتهم وكيف يعملون أو حتى يموتون لأجلها!
* كاتب أردني
الحياة