صفحات سوريةمنذر خدام

الثابت وراء تقلبات المزاج السياسي التركي


منذر خدام

إن من يراقب سلوك ومواقف المسؤولين الأتراك تجاه القضايا المطروحة على الساحة السورية، لا بد أن يندهش بعض الشيء لتقلب المزاج السياسي التركي تجاه سوريا، خصوصا أنها بدت انحرافا عن سياق المواقف التركية المعروفة من الثورات العربية.

لم تكن تركيا شديدة الاهتمام بما يجرى في تونس أو مصر أو اليمن، وكانت متحفظة كثيرا تجاه ما يجري في ليبيا، بل أعلنت معارضتها تدخل حلف شمالي الأطلسي فيها تنفيذا لقرار مجلس الأمن بهذا الشأن، الذي تحفظت عليه تركيا أيضاً. أما بالنسبة لسوريا المسألة اختلفت كثيراً. فمنذ اللحظة الأولى  لخروج السوريين إلى الشوارع مطالبين بالحرية والكرامة والديموقراطية، كان الموقف التركي داعما لهم ومؤيدا لمطالبهم، على خلاف ما هو متوقع.

من المعلوم أن الرئيس بشار الأسد وبعد أن استقر الحكم له، بدأ ينهج تجاه تركيا نهجا مخالفا لنهج والده، وفتح لها بابا عريضا وعاليا تجاه البلدان العربية عبر سوريا، ليس فقط في المجال الثقافي بل وفي المجالين الاقتصادي والسياسي. لقد قيل في حينه أن الرئيس الأسد نجح بجذب تركيا لتقف إلى جانب الحقوق العربية وخصوصا إلى جانب القضية الفلسطينية. وقيل أيضا أن الأسد نجح في موازنة علاقاته مع إيران و”حزب الله”، بتطوير علاقات شاملة مع تركيا.

بطبيعة الحال لم يكن كل ذلك بلا ثمن، بل كان مقابل التخلي الرسمي عن المطالبة بلواء اسكندرون (هاتاي) الذي ضمته تركيا إليها في عام 1939 بتواطؤ معلوم مع فرنسا، وتوقيع اتفاقيتين فيهما مس بالسيادة الوطنية: الاتفاقية الأولى تسمح لتركيا ببناء سد في الأراضي السورية، بالقرب من جسر الشغور، لري الأراضي في سهل العمق في لواء الاسكندرون (سهول أنطاكية)، والثانية اتفاقية أمنية تسمح لتركيا بتعقب مقاتلي حزب العمال الكردستاني في العمق السوري حتى مسافة خمسة كيلومترات بحسب ما أوردته بعض المصادر الصحافية.

إضافة لذلك فقد تطورت العلاقات الاقتصادية بين البلدين كثيراً حتى وصل حجم التبادل التجاري بينهما إلى نحو ثلاثة مليارات دولار، عداك عن فتح الحدود في الاتجاهين أمام مواطني البلدين. ولا يقل أهمية عن ذلك مساهمة سوريا في التعريف بالثقافة التركية من خلال دبلجة مسلسلاتها، ومن خلال تنشيط حركة السياحة بين البلدين. وفي المجال السياسي صارت تركيا وسيطا بين سوريا وإسرائيل، ورعت مفاوضات غير مباشرة بينهما. وقيل في حينه أيضا أن العلاقات الشخصية بين الرئيس بشار الأسد والقادة الأتراك، وخاصة بينه وبين رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي صارت من القوة والاستقرار بحيث صارت توصف بأنها علاقات إستراتيجية.

السؤال هو لماذا تضحي تركيا بكل هذه المكاسب دفعة واحدة، لقاء وقوفها إلى جانب الشعب السوري الثائر على نظامه؟

بطبيعة الحال من السذاجة القول جواباً عن السؤال السابق أن تركيا الديموقراطية تنطلق في دعمها لنضال الشعب السوري من مبادئها في نصرة قضايا الشعوب العادلة، إذ من المعلوم في العلاقات الدولية أن المصالح هي الأساس الذي تبنى عليه. ومن السذاجة أيضا القول جواباً على السؤال ذاته، بأن تركيا تبحث عن فضاء حيوي ديموقراطي لمصالحها يسمح لها بالضغط على دول الاتحاد الأوربي من أجل قبول عضويتها فيه، أو أن يكون بديلاً منه في حال رفضت ذلك. ومع أنه قد يكون في القولين السابقين بعض الصحة في الجواب عن السؤال المطروح، غير أن الجواب الأقرب للصحة  ينبغي البحث عنه في مجال آخر هو مجال تأثير ما يجري في سوريا على الداخل التركي، واحتمال انتقال الصراعات المتوقعة في سورية إليها نظرا الى العلاقات السكانية المتداخلة والمعقدة بين البلدين.

لقد نجحت سياسة حزب العدالة والتنمية في تحويل تركيا قوة اقتصادية وسياسية إقليمية يحسب لها حساب بعد أن كانت تابعة في كل شيء تقريبا للسياسات الاميركية والأوروبية. لم تعد تركيا تقبل بأن تعامل كخلفية للسياسات الأطلسية بل كجزء من الواجهة لها دورها الذي تؤديه. وما كان بإمكان تركيا أن تنجح في كل ذلك لولا تغيير وجهتها شرقا في اتجاه دول الجوار الإقليمي وفي مقدمها سوريا.  غير أن استمرار وتعزيز هذه النجاحات يتطلب قبل كل شيء استقرار دول الجوار وخصوصا تلك التي تتشارك معها المشكلات الناجمة عن التداخل السكاني.

من المعلوم أن تركيا تعاني من مشكلة مزمنة مع الكرد الأتراك الذين يخوضون ضدها حرب عصابات منطلقين من الأراضي العراقية والسورية. في عهد حافظ الأسد كانت سوريا قاعدة رئيسية لحزب العمال الكردستاني وكان زعيم هذا الحزب يقيم في سوريا برعاية شبه رسمية. غير أن تركيا ومن خلال ممارسة ضغوط عالية على النظام السوري وصلت إلى حد التهديد باستخدام القوة العسكرية ضده نجحت في إرغامه على طرد زعيم الحزب عبد الله أوج ألان من سوريا، الأمر الذي أدى لاحقا إلى اعتقاله ومحاكمته وسجنه في تركيا.

إضافة إلى ذلك عادت الحدود السورية لتغلق في وجه مقاتلي هذا الحزب في عهد بشار الأسد، وشنت السلطات السورية حملة اعتقالات واسعة على كوادره ومقاتليه، وسلمت البعض منهم إلى تركيا. في ظروف عدم الاستقرار الذي تعيشها سوريا بدأ حزب العمال الكردستاني بتحمية الجبهة السورية من جديد وهذا ما يشكل قلقا حقيقيا للسلطات التركية الأمر الذي استدعى توجيه إنذار لسوريا وتهديدها بعواقب وخيمة، على حد قول المسؤولين الأتراك، في حال سمحت من جديد لمقاتلي هذا الحزب بالدخول إلى تركيا عبر الحدود السورية التركية الطويلة.

من جهة أخرى يشكل العلويون الترك كتلة سكانية كبيرة  في تركيا وهي بمجملها متعاطفة مع النظام السوري، وتهدد بأنها لن تسكت في حال تعرضت الأقلية العلوية في سوريا لصراع طائفي. إذن الخوف من انعكاس عدم استقرار الأوضاع في سوريا على الداخل التركي هو السبب الحقيقي وراء المواقف التركية الحادة نسبيا ضد النظام السوري. لقد رغبت تركيا دائما إجراء إصلاحات حقيقية في سوريا بصورة سلمية ومتدرجة وآمنة، وقدمت الكثير من النصح للسلطات السورية في هذا المجال، وأرسلت لهم خبراء من عندها للمساعدة في ذلك، بل عرضت توسطها بين النظام السوري والإخوان المسلمين للسماح لهم بالعودة كدعاة وليس كسياسيين فكانت السلطات السورية ترفض المرة تلو الأخرى. لذلك عندما يقول الأتراك إن ما يجري في سوريا هو شأن داخلي تركي، فهم يعنون ما يقولون، وينبغي على الآخرين تفهمه.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى