صفحات الثقافة

الثقافة الأسدية ومكانة القيم في المشهد السوري


د. عماد شيّا

يشكل الانتهاك الصارخ والممنهج للقيم الانسانية والتعاليم الدينية والاعراف العربية الاصيلة، علامة فارقة في ممارسات النظام السوري بحق معارضيه على مدى اكثر من سنة ونيف. كما تعبّر ردات الفعل العربية والدولية الخجولة، ازاء المشاهد اليومية للمجازر وعمليات الاغتصاب والقتل الوحشي والمريع بحق المدنيين العزل من النساء والاطفال والشيوخ، عن ازمة قيم تسود العالم الذي يقف داعما او متفرجا او عاجزا امام هول هذه المشاهد، لا سيما خلال هذا الشهر الفضيل.

مقارنة بسيطة تبيّن مكانة القيم في الماضي البعيد وما تتعرض له من انتهاك في سوريا اليوم، وترسم صورة قاتمة ومقلقة عنها في المشهد السوري الراهن. ففي الماضي مثلا، كان يكفي أن يسمع الخليفة المعتصم باستجارة امرأة متألمة “وامعتصماه”، لكي تلقى هذه المرأة المساعدة السريعة والمناسبة. اما اليوم، فلا المشهد المستمر منذ سنة ونيف، لآلاف الامهات والنساء السوريات “المستجيرات” ولا مشاهد المجازر المرتكبة بحق الاطفال وحديثي الولادة في المستشفيات، استطاعت حتى ان تفرمل السلوك الاجرامي لحكام سوريا او تحرك ضمائر اصحاب القرار في كثير من دول العالم.

في سياق الحديث عن القيم والاحداث الراهنة في سورية، ثمة رواية تضمنتها مذكرات المجاهد المرحوم سعد كليب، وتتحدث عن الاحداث التي حصلت بين الدروز والبدو في جبل العرب، ايام الاتراك في الربع الاول من القرن العشرين. وقد جاء في الرواية، انه بعد سلسلة حوادث جرت بين الدروز ـ المزارعين المقيمين، والبدو – الرعاة المتنقلين، شن الدروز غارة على مضارب البدو وصلت الى تخوم منطقة السويداء /جبل العرب/. عقب ذلك اشتكى البدو للوالي التركي عن تعديات وممارسات شائنة ارتكبت بحقهم، فأمر بالاستعداد لحملة تأديب للدروز.

اثناء الاستعداد للحملة، حضرت شقيقة “الدحّام”، زعيم البدو على رأس وفد منهم لزيارة الوالي التركي. وبعد ان سردت ما جرى، سألها الوالي: هل صحيح ان الدروز ارتكبوا افعالا شائنة بحق النساء؟ اجابت شقيقة الدحّام “لا يا حضرة الوالي هذي الامور الدروز لا يفعلونها”. ويشدّد المجاهد سعد كليب على انه كان لجواب شقيقة زعيم البدو، تأثيره الشديد على الوالي الذي اصدر اوامره بوقف الحملة ودعوة وجهاء الدروز والبدو للالتقاء والتفاوض والتصالح. وهذا ما حصل بالفعل.

هذه الرواية تظهر مكانة متقدمة للقيم لدى الاطراف الثلاثة المشتركة في الحدث: الوالي التركي الذي كانت مسألة القيم والكرامة الانسانية وراء أوامره بالاستعداد للحملة والتراجع عنها. البدو من خلال شقيقة الدحّام، التي لم تتملكها الرغبة بالانتقام، وصدقت الوالي القول بعدم ممارسة الدروز افعالا شائنة بحق النساء. والدروز الذين لم يرتضوا ان تسجل عليهم سابقة التعدي على الاعراض.

في الواقع، تلقي هذه الواقعة الضوء على مسألة القيم في الحدث السوري الراهن، اذ من الظلم الشديد اختزال مسألة القيم ومكانتها في بلد عريق مثل سوريا بالمشهد الماثل فيها منذ سنة ونصف. ومن المنصف القول ان القيم الموجودة في اي مجتمع من المجتمعات هو مزيج مما هو موروث ومكتسب. ومن الواضح، ان انتهاك القيم في المشهد السوري هو نتيجة حتمية لما اكتسبه المجتمع السوري من “الثقافة” والتنشئة الاسدية على مدى اربعين عاما. ومن لم يفهم او يستوعب بعد، جوهر الثقافة والتربية الاسدية ومكانة القيم فيها، يمكن احالته الى فظائع النظام الاسدي الكثيرة، المرتكبة في لبنان وسوريا وبحق كثيرين من الفلسطينيين ماضيا وحاضرا.

يعبّر جزء كبير من المشهد السوري الراهن عن نزعات مكتسبة من التجربة الاسدية التي فرضت على السوريين بخلفية انقلابية غير ديموقراطية وتوطدت بوسائل دموية وقمعية. ومن الطبيعي ان تهيمن على ارباب هذه التجربة نزعة إلغاء الاخر بأي ثمن او وسيلة. ولا عجب لانعدام القيم السامية في هذه التجربة التي اتصفت بالازدواجية والتناقض بين الفكر والممارسة والشعار والتطبيق: ترفع شعار فلسطين والعروبة، وعلى الارض تقتل الفلسطينيين وتزرع الفرقة بينهم. تعقد اتفاقيات الاخوة والتنسيق مع لبنان وفعليا تضطهد اللبنانيين وتنكل بقادتهم. ترفع شعار الصراع ضد الصهيونية واسرائيل ولا تطلق طوال اربعين عاما، رصاصة واحدة باتجاهها. تحمل يافطة مكافحة الارهاب الاصولي وتدرب الارهابيين وترسلهم بحسب الحاجة، على سبيل المثال: العراق ولبنان ـ مخيم البارد وشاكر العبسي. نظريا يحكم حزب البعث العربي الاشتراكي بشعار الوحدة والحرية والاشتراكية وفي الواقع تحكم العائلة الاسدية بالقمع والاستبداد وتصادر ثروات السوريين وتعمل على تدجينهم.

اما الجزء الآخر من المشهد السوري، فيعبرعن قيم اصيلة موروثة للشعب السوري، هذا الشعب الذي حتما، سيضرب المثل بصبره وصموده وشجاعته النادرة في مواجهة ترسانة النظام الذي ادّعى طوال اربعة عقود بانه يعد العدة لمنازلة العدو الاسرائيلي، واذا به يستخدم هذه الترسانة بكل شراسة وبدون خجل، ضد شعبه وناسه بدعم وتشجيع روسي وصيني وايراني وفي ظل انكفاء عربي وغربي غير مسبوق.

نعم، تتصدر المشهد السوري اليوم، قيم اصيلة متوارثة يعبر عنها ثوار سوريا البواسل بصمودهم الاسطوري وعزة نفوسهم وتفضيلهم الشهادة على المذلة، ومن ناحية اخرى، نزعات دموية مكتسبة من التجربة الاسدية يعبر عنها شبيحة النظام وأزلامه، وبعضهم الذي يختبئ وراء الثوار او يتلطى بهم لارتكاب المجازر ونهب البيوت وهتك الاعراض، ثم هل هناك من دليل اوضح على طبيعة النظام الاسدي الدموي، المستهتر بالقيم الانسانية والتعاليم الدينية، من اغفال معاني شهر التسامح والرحمة والامعان في ممارسة كل ما يتنافى مع تعاليم ومبادئ هذا الشهر الفضيل؟!

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى