صفحات الثقافةعمر قدور

شانتال في عامها الدراسي الجديد


دمشق ـ عمر قدور

كان من المفترض أن تذهب الطفلة «شانتال عواد» إلى مدرستها في هذه الأيام، على الأقل هذا ما يُفهم من ذهابها هي وأمها «سماهر الدرة» بقصد تسجيلها في إحدى المدارس، حين تعرضتا للتفجير الإرهابي، الذي أودى بحياتهما بالإضافة إلى آخرين قضوا في الانفجار. وكان من المتوقع ألا يعيق عامها الدراسي حدث مؤلم كالذي وقع، لأن أهلها اختاروا مدرسة في منطقة قريبة إلى سكنهم، فضلاً عن كونها منطقة آمنة نسبياً بحكم نأي أهلها بأنفسهم عما يحدث في البلد، إلا أن سياسة النأي بالنفس في غير منطقة لم تجنب الأهالي الهدايا المفخخة التي يرسلها إليهم النظام.

إذاً كان من المؤمل أن تذهب شانتال إلى مدرستها، وهي مدرسة لم تقصفها وتدمرها طائرات النظام على غرار ما حدث لأكثر من ألفي مدرسة سورية في المناطق الثائرة، مع ملاحظة تكثيف الغارات على المدارس في الأيام السابقة على بدء العام الدراسي الجديد؛ الغارات الذي يطلق عليها إعلام النظام اسماً غامضاً هو «عملية نوعية». مدرسة شانتال ليست أيضاً من ضمن نحو ألف مدرسة أصبحت مأوى للنازحين السوريين؛ أولئك الذين أنذرتهم جهات أمنية أو حكومية بإخلائها قبل بداية العام الدراسي، ووصل الأمر إلى تسريب أخبار عن النية في قصفها «ضمن عمليات نوعية» ما لم يغادروها طوعاً، هذا فضلاً عن التضييق عليهم ومنع الخدمات الأساسية عنهم، كما حدث للنازحين المقيمين في السكن الجامعي في حلب الذين قُطعت عنهم المياه.

جرياً على العادة؛ كان من المرجح أن تتلقى شانتال العظة المدرسية المعتادة عن واجبها في الحفاظ على نظافة المدرسة، بوصفها بيتها الثاني، وهذا حظ كبير في الواقع لأنها لم تصبح بيتها الأول أسوة بأقرانها من أولاد اللاجئين. ولو بقيت أمها حية أيضاً فمن المؤكد أنها ستكابد القلق اليومي مع ذهاب ابنتها وإيابها من المدرسة، إذ لا يُعرف بالضبط في أي جزء من الطريق ستسقط قذيفة لتغتال طفولتها، ستفكر الأم مراراً ويومياً فيما إذا كانت المدرسة تستحق كل هذه المخاطرة، وستفكر بالمعيار نفسه في أن البيت أيضاً ليس بمنجى من تلك القذيفة. السيدة الأم، جرياً على عادة الأمهات، ستتركز مخاوفها على الطفلة، وقد تستهين بأنها معرضة للخطر ذاته، وربما لا تخطر في بالها إطلاقاً القرابة بين لقبها ولقب طفل فلسطيني اغتاله قناص إسرائيلي قبل سنوات طويلة، كان اسمه «محمد الدرة»، هذه القرابة التي تعدت اللفظ لتصبح قرابة دم؛ محمد الدرة أيضاً لم يذهب إلى المدرسة.

على رغم المخاطر التي تتربص بهم، سيذهب الأولاد إلى ما تبقى من مدارس، تحرياً للدقة: سيذهب ما تبقى من أولاد، فهناك الآلاف من الأطفال السوريين الذين قُتلوا على يد قوات النظام، وهناك أطفال لم يتسنَّ إحصاؤهم بدقة من بين أربعة ملايين نازح. النسبة الغالبة من هؤلاء لن يتاح لها الذهاب إلى المدرسة، بل ستكون فكرة المدرسة بحد ذاتها ترفاً بالنسبة إلى الذين ينامون في العراء، وقد لا تتعدى أمنياتهم أن يتأخر الشتاء في القدوم إلى حين تأمين سقف مؤقت؛ ذلك في وقت يتوالى فيه انهيار الأسقف تحت القصف، ليزيد عدد المباني التي دمرها النظام عما نسبته 15 في المئة من إجمالي المباني السكنية في البلد. لكن هذا كله قد لا يمنع بنتاً أو ولداً نازحاً من أن يحلم بحقيبة مدرسية ودفاتر وعلبة ألوان، وقد لا يمنع أماً من أن تحلم بخاصة بتلك السندويتشات التي كانت تعدّها للأولاد فيما مضى؛ الأم التي تندم اليوم لأنها، بسبب الحرص الزائد على صحتهم فيما مضى، منعت الأولاد من تناول كل ما يشتهونه من الآيس كريم والشوكولا والشيبس.

بالطبع ليس حظاً كبيراً أن يتمكن الأولاد الذين لم ينل منهم النظام بعد من الذهاب إلى مدارسه، فهم سيتلقون فيها دروساً تقادمت بفعل الثورة، ولن يحتاج الأمر نباهة كبيرة من بعضهم ليدرك الفجوة الشاسعة بين ما يتلقونه والواقع، وأيضاً بين ما يتلقونه وما بات إعلام النظام نفسه يروج على النقيض منه. كالمعتاد سيردد الأطفال «النشيد الوطني» الذي يُستهل بعبارة «حماة الديار عليكم سلام»، التحية الموجهة لأفراد الجيش، ولا نعلم أية غصة ستنتاب طفلاً دمّرت قوات النظام بيته، أو قتلت أفراداً من عائلته، وهو يضطر إلى تحية أولئك الذين تسببوا في مأساته. سيرى الأولاد شعارات البعث الباهتة ذاتها مخطوطةً على جدران المدرسة «أمة عربية واحدة»، بينما يواظب الإعلام الحكومي على شتم الدول العربية و»مؤامراتها» المزعومة، ويستضيف محللين عروبيين و»مقاومين» ينعتون الجامعة العربية بوصف «الجامعة العبرية». سيحَيي الأطفال علماً لم يعودوا متأكدين من أنه حقاً علم وطنهم، وقد يخطئ بعضهم إن طلبت المعلمة منهم رسم العلم، فيضع ثلاث نجمات بدلاً من اثنتين، وربما تختلط عليه صورة علم الثورة وما بات يُعرف بعلَم النظام فيرسم علماً هجيناً. ربما، على المقعد ذاته، يلتقي ابن القاتل بابن القتيل، ويتشاجران أيضاً ثم يتصالحان من أجل ممحاة ليس إلا.

من جهته لم يعد النظام معنياً بواقع هذه المدارس، فالأولوية بالنسبة إليه تنحصر في أن تفتح أبوابها، وأن تصوّر كاميرات إعلامه التلاميذ لإثبات روايته عن أن الحياة طبيعية جداً، وأن لا شيء يعكر صفو مواليه. لا يهمه إن كانت بعض الصفوف ستضطر إلى حشر 60 طالباً في غرفة واحدة، ولا يهمه أن دوام الطلاب لن ينتظم إذ لن يندر أن يعيقهم القصف أو الاشتباكات في الطريق إلى المدرسة، أو أن تُضطر معلمتهم إلى التغيب أياماً بسبب محاصرة قواته لمنطقة سكنها. لكن هذا لا يعني أبداً أن تسهو مخابراته وأعوانها ضمن الصفوف عما قد يشكل خطراً على النظام، وعلى الأولاد أن يتذكروا مصير أقرانهم من مدينة درعا، أولئك الذين خطّوا على حائط مدرستهم شعارات مناهضة للديكتاتورية؛ على الطلاب تقوية أظافرهم جيداً ليتعذر اقتلاعها كما حصل لأطفال درعا.

كانت هذه الكلمات ستُخصص لشانتال، لولا أن الذاكرة تستدعي تلقائياً ما يقارب خمسة آلاف طفل وطفلة قتلتهم قوات النظام، وربما لم يجد الأهالي مدفناً لائقاً للبعض منهم. لكن القتل والتدمير والتشريد لن يمنعوا الاهتمام بمستقبل الحياة المناط بأطفال ينبغي أن يذهبوا الآن إلى مدارسهم، وأن يتغلب من يبقى منهم على المعوقات والمخاطر الجمة التي تعترض طريقه. لم يعد لدى غالبية السوريين ترفُ الحيطة والخوف الزائدين، لقد تغلبت إرادة الحياة على الخوف الذي لم يمنع الموت عنهم. في الواقع لم يعد الموت يمنع حتى الانشغال بالمصائر المضيّعة للقتلى، فلم تكن نادرة حالات الأمهات والآباء الذين راجعوا مراكز الامتحانات في العامين الدراسيين الماضيين لمعرفة نتائج أبنائهم الشهداء، ومنهم من اطمئن إلى أن الراحلة أو الراحل قد حقق مبتغاه وتحصّل على مجموع يؤهله لاختيار الاختصاص الجامعي الذي يرغب فيه!.

في الصفوف الدراسية العليا ينال الطلاب شهادة تخرج، وقد بات معلوماً أن الكثيرين من السوريين نالوا «الشهادة» مؤخراً قبل التخرج. شانتال لم تحظَ بفرصة العيش لتدرك الفارق بين الأمرين، ربما هي على نحو لا تزال في طريقها إلى المدرسة، ربما تربت الآن بجناحيها على كتف طفل نازح يحلم بدوره بأن له بيت ومدرسة وأخت تقاربه في السن، يحلم ويعد نفسه بأنه، إن عادت، سيحبها جداً ولن يحطم ألعابها ثانية.

المستقبل

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى