الثورات العربية: فوضى ما بعد الثورة وانتهازية الدفاع عن الدكتاتوريات
يرى الأكاديمي والكاتب المعروف خالد الحروب في هذه المقالة أنه على الرغم من مرارة فوضى ما بعد الثورة التي يشعر بها البعض الآن، إلا أنه على المدى المتوسط والطويل هناك هواء الحرية والكرامة واحترام الذات والاندراج في المستقبل.
الثورة بالتعريف حدث بالغ الضخامة والتأثير والانعكاسات، ويتسم بفرادة اتساع نطاق المشاركة والمفاجأة والانقلاب الجمعي على الوضع السياسي القائم (status quo). وبكونها عملية بشرية تحدث في ظل صراع عنيف وغالباً دموي ولا تخضع بالضرورة للتخطيط الرياضي المحكم فإن الثورة، أي ثورة، مشوبة بالأخطاء والعيوب والعثرات. تندرج الثورة في مقامرة يغلفها التوتر والخوف عنوانها “الحياة أو الموت”، وجوهرها مواجهة أفراد عُزّل مع دكتاتوريات جاهزة لاستخدام كل آليات الدفاع عن النفس، الواقع منها تحت تصنيف القمع السلطوي الأقصى، أو المنفلت منها إلى تصنيف آخر كالإجرام الحقيقي. إذا طالت الفترة الزمنية التي تحتاجها الثورة لتغيير وإسقاط الوضع القائم فإن دموية التغيير تتضاعف ومستوى أكلافه تتسع.
خلال الثورة، وربما قبيلها أيضاً، لكن بعد انتصارها حتماً، تتدهور البنى السياسية والاقتصادية والأمنية وتنتشر فوضى تصدم الناس وتمس المستويات الأهم لحياتهم. لوهلة ما يحتار كثير منهم في ما إن كانوا صائبين في انحيازهم ومناصرتهم للثورة ضد الاستبداد. فالمعادلة المُتسرعة التي سرعان ما تطلع في الأفق مُستهزئة بتاريخية وروعة وعمق إنجاز التغيير الذي أنجزته الثورة تُختزل في أن الاستبداد وفّر الأمن والاستقرار، فيما الثورة جلبت الفوضى وعدم الأمن. تاريخياً وعملياً وواقعياً، يبدو أن لا مناص من المرور بمرحلة “فوضى ما بعد الثورة”. في هذه المرحلة تتحدد خصائص “ما بعد بعد الثورة”، وهنا فإن كل ثورة تأخذ منحى خاصاً بها يعتمد على أسباب اندلاعها، وطبيعة تحالفات القائمين بها، ومطالب ثوارها وسياستهم وايديولوجيتهم، والمناخ المحيط المجاور والعالمي.
“فوضى ما بعد الثورة”
طبيعة وعناصر وفاعلو الثورات العربية تدفعنا للتفاؤل بأن منحى الثورات العربية سيكون باتجاه أفضل ألف مرة ممّا كانت عليه الأمور المتكلسة والمتجمدة والمتعفنة تحت وهم الاستقرار المديد. مرحلة “فوضى ما بعد الثورة” لا يمكن التقليل من خطرها، ففي فوضى فوضاها تعيد قوى النظام المُسقط تجميع فلولها وإعادة إنتاج نفسها، وفي فوضى فوضاها قد تأكل هذه الثورة أو تلك أبناءها، وقد تتشتت البوصلة ويتفرع الشعار الجمعوي الواحد الذي ساد خلال الثورة إلى شعارات متصارعة بين مجموعات كانت حتى يوم قريب تناضل جنباً إلى جنب ضد عدوها المُستبد الواحد. بالمجمل العام، واستئناساً بشواهد تاريخية، يمكن القول إن “مرحلة فوضى ما بعد الثورة” تكون قصيرة المدى لكنها ثقيلة الوطأة على المزاج العام وتهدد بانفضاض سريع عن الثورة وإحباط أسرع للأحلام والتوقعات.
ليس من السهل معالجة ذلك بخاصة على مستوى الرأي العام الواسع (الشارع) الذي تستبطنه أحلام أو أوهام بأن التغيير الجذري الى الأفضل سيشرق مع صباح اليوم التالي لسقوط النظام الدكتاتوري. عندما تمر شهور ولا يتحقق ذلك يسود الشعور بالخوف والقلق على المستقبل الفردي والعام – وهنا تبدأ النخب الداعمة للاستبداد الذي لا يزال صامداً في وجه شعوبه في توظيف حقبة “فوضى ما بعد الثورة” كنموذج تفسيري وإقناعي لإثبات عدم جدوى الثورة بل وآثارها التدميرية عند المقارنة بجدوى الاستبداد وما يوفره ظاهرياً من استقرار. وهنا أيضاً يجب الوقوف بحزم ضد هذا المنطق التشويهي والانتهازي، بخاصة عندما يدافع عن دكتاتوريات فاشلة على كل الصعد.
منطق التخويف
يمكن للمرء أن يفهم المقايضة التي تقوم بها دكتاتورية “منجزة” تحاول أن تشتري الولاء من قبل موطنيها، هذا ومرة أخرى على رغم رفض المنطق الدكتاتوري برمته وأياً كانت درجته. لكن دكتاتورياتنا العربية كانت من طينة مختلفة: أرادت وتريد شراء ولاء الأفراد، وقمع حرياتهم السياسية، وحرمانهم من المشاركة في تقرير مستقبلهم ومستقبل بلدهم، مقابل لا شيء – مقابل تحكم نخبة حزبية، أو طائفية أو عائلية أو قبلية بمقدرات وثروات البلد ورهنه للتبعية الأجنبية أيضاً. لهذا فإن المنطق التخويفي الذي تسوقه نخب تسويغ الوضع القائم والدفاع عنه مقابل وضع الثورات العربية يجب أن يُرفض ويفكك ويُعرى، بخاصة والأوضاع الدكتاتورية القائمة فاسدة وقامعة وموغلة في العفن والاستبداد ولا يقوم هناك أي مبدأ “مقايضة” ممكن القبول به. صحيح أن “فوضى ما بعد الثورة” تنطوي على كتالوغ طويل من التخوفات والمعضلات وفقدان الإحساس بالثقة والضمان بأن مجتمع ودولة ما بعد الثورة يسيران وفق الحلم والأمل، لكن ذلك كله ينحصر في المدى القصير. على المدى المتوسط والطويل تستقر الأمور شيئاً فشيئاً وتسترد المجتمعات عافيتها تدريجياً، ولكن في مناخ جديد سمته الحرية والكرامة والمشاركة السياسية.
أمنياً وفي الصباح التالي لأي ثورة يشهد الناس وضعاً جديداً ومخيفاً، يتمثل في انهيار الأجهزة الأمنية والبوليسية التي كان يرتكز عليها النظام المنهار. صحيح أن تلك الأجهزة كانت عمود فقرات السياسة القمعية للنظام، لكنها، في نظر الكثيرين، كانت تضبط الأمور وتمنع الانفلات الأمني. على السطح الظاهري لا يمكن سوى تلمس مشروعية التخوف العام من انهيار المنظومة الأمنية الموقت وشيوع اللااستقرار والخوف والمجرمين، الحقيقيين منهم والمنتسبين لهم حديثاً من بقايا النظام السابق. لكن المبالغة في استخدام الوضع الانفلاتي الجديد هي مبالغة انتهازية بحتة، دفاعية وتسويغية، لا تهدف ولا تحقق سوى إطالة عمر الاستبداد.
“فوضى الحرية”
يُشير مسوغو الاستبداد أيضاً إلى “فوضى الحرية” التي تنتشر فجأة وباتساع “مخيف” ويستخدمها الناس “الذين لم يتعودوا على الحرية، وبالتالي لا تناسبهم”. لا يقول لنا هؤلاء المنظرون كيف يمكن أن “يتعود” الناس على الحرية إذا تم قمعها وقمعهم في كل وقت وزمن تنفتح فيه هذه الحرية عليهم. ومن ضمن هذه الفوضى في استخدام الحرية تتم إعادة استخدام فزاعة التطرف الديني، وكيف أن التيارات السلفية المتطرفة سرعان ما تملأ الفراغ. وهذا كله فيه أجزاء من المنطق والحقيقة، لكن كما هي عادة منظري الاستبداد فإنهم يشيدون على أجزاء الحقائق تلك قلاعاً من التنظير الذي لا يريد سوى إبقاء الأوضاع القائمة على عفنها. اقتصادياً، يُشير مسوغو الاستبداد إلى انهيار اقتصادات ما بعد الثورة، سواء داخلياً حيث يعمل الانفلات الأمني على إحباط عجلة الاقتصاد المحلي، أو خارجياً حيث يخسر البلد الثقة المالية من قبل الدائنين الخارجيين، وهكذا. نقرأ أيضاً في إبداعات منظري الدكتاتوريات العربية أن الثورات تفتح المجال للتدخل الأجنبي، وكأن هذه الدكتاتوريات التي ضمنت استقرار مصالح القوى الأجنبية وعلى رأسها الاحتلال الإسرائيلي، كما شهدنا في الخطابات «القذافية» و «الأسدية» لم تكن سوى ورق توت تافه يدرك كنهه الجميع. الدكتاتوريات العربية وتوحشها المنسوج مع غباء استراتيجي، هي التي قادت الى التدخل الأجنبي. هذه الدكتاتوريات التي تطحن شعوبها بالدبابات هذه الأيام في المدن الليبية والسورية واليمنية هي التي قلبت المزاج العربي الشعبي ليصير مرحباً بالتدخل الأجنبي العسكري لأنه الحل الوحيد الذي ينقذها من إجرام الأنظمة والموت الذي تجلبه على رؤوس المدنيين.
الثورة والوحدة الوطنية
جغرافياً وقبلياً وطائفياً، ترتكز أطروحة التخويف من الثورة على أنها تقود الى تمزيق “الوحدة الوطنية والجغرافية” للبلد. فجأة ينحدر النظام الدكتاتوري الذي كان يعتاش على شعار الوطنية وصهر الشعب في بوتقة واحدة، إلى مجرد عائلة أو قبيلة تهدد القبائل الأخرى، وتتوعد كل الشعب أو البلد بالتقسيم فيما لو سقط النظام. تسقط كل الشعارات الفارغة وتظهر الحقيقة المريرة معروضة على الشعب في شكل من الصفاقة السياسية والانتهازية يتجاوز كل حدود الوصف: إما بقاء الحاكم المذكور ودائرته العائلية أو الحزبية الضيقة جاثماً على صدر الشعب والبلد واستمرار نهب ثرواته، أو تقطيع البلاد والشعب طائفياً وقبلياً وجغرافياً.
تاريخياً وسياسياً انتهت أطروحة الوحدة القسرية المفروضة بالاستبداد. في الماضي كان لها معنى وكان يمكن لها أن تستمر، أما في عالم القرن الحادي والعشرين وما سيليه فإن هذه الأطروحة لم يعد لها أساس ولا يمكن الاعتداد بها في أي ميزان قوى. الوحدة الطوعية هي فقط التي يمكن اعتبارها مصدر قوة، وما عداها من الوحدات لا يتعدى كونه زيفاً تتربع على عرشه نخب دكتاتورية تخدم مصالحها وجيوبها.
كل ما تطرحه نظرية “فوضى ما بعد الثورة” لا يصمد إذا خرجنا من اللحظة الحاضرة إلى أفق التاريخ وخيارات المستقبل. لا بد من نقطة ما تبدأ فيها الشعوب نهوضها نحو الحرية والكرامة والعدالة الاجتماعية. في المدى القصير صحيح أن هناك مرارة فوضى ما بعد الثورة، لكن في المدى المتوسط والطويل هناك هواء الحرية والكرامة واحترام الذات والاندراج في المستقبل.
خالد الحروب
حقوق النشر: قنطرة 2011