بشير عيسىصفحات سورية

الثورة السورية: أين المشكلة؟/ بشير عيسى

 

 

تنفرد الثورة السورية بميزة استثنائية عن مثيلاتها في العالم، ألا وهي امتلاكها لجيش جرار من القيادات والنخب المثقفة. واستطاع هذا الجيش بزمن قياسي، أن يحتل معظم الشاشات في الخارج، فور انسحابه من الميدان!. قد تكون هذه الظاهرة مُبررة، لو أن الشعب لم يقم بالثورة، أما وقد فعل، فهذه مشكلة كبرى! باعتبار أن الدور الذي يتحتم على الانتلجنسيا القيام به، كرافعة للتغيير، لم يُنجز.

وهذا بطبيعة الحال، مناف لبديهيات الفعل والحراك التغييري، والذي يفرض على المثقف الثوري، التواجد في صلب الحراك، بحيث يشكل مع أقرانه طبقة أو شبكة أمان تكون ناظمة وموجهة لقيادة هذا الحراك.

ولأن أي ثورة هي بالضرورة مسار وفعل مقاوم، تنتجه مجموعة عوامل، وفي مقدمتها الحرية، كمدخل لتحقيق الديموقراطية، مقابل الاستبداد والاستئثار بالسلطة، وعامل اقتصادي يتصدى لنهب المال العام ويحارب كل أشكال وأنواع الفساد والاستغلال، عبر تبني سياسات اقتصادية – انتاجية، تعتمد التوزيع العادل للثروة، وحق تكافؤ الفرص. وحديثاً ثمة عامل معاصر، فرضه الإعلام الفضائي والشبكة العنكبوتية، يتمثل في انفتاح طيف واسع من الشباب على العالم ككل، ما يعني إعادة انتاج الحلم، من خلال تحفيز التفكير، في الخروج من الدولة المنغلقة والبوليسية، إلى الفضاء الإنساني الحر. ولإنجاح هذا المسار والفعل، يتعين التمسك بمجموعة من القيم والمُثل الإنسانية الجامعة، والتي تشكل محور ارتكاز، يخترق ويجمع كل شرائح المجتمع، بحيث يعطي الثورة مناعتها الذاتية، في مواجهة أمراض الانقسامات العمودية التي يعمل النظام على توظيفها لمصلحته.

من هنا كان التعويل على الدور العضوي للمثقف، لما يملك من ذخيرة ثقافية، وتاريخ من التضحية والعمل السياسي المعارض، يؤهله ليشكل معرفياً وأخلاقياً، الوجدان أو الضمير الذي تنشده الغالبية الشعبية. لكن الذي حدث أن معظم المثقفين حين احتدم الصراع، فضلوا مغادرة وطنهم، إما بشكل علني أو سري، بذريعة النشاط سياسياً وإعلامياً.

فكانت هذه الظاهرة، بمثابة انفصال الرأس عن الجسد، حيث تُركت القواعد الشعبية، الفقيرة بإمكانياتها المادية والمعرفية، تقود حراكها منفردةً. وليصبح الضمير المعوّل عليه الحضور في المناطق المحررة، ضميراً غائباً!. ومع هذا الغياب الذي أدى لتصحر هذه المناطق، كانت القوى الإسلامية، تملأ الفراغ الذي خلفته القوى العلمانية. وهنا كان النظام بالمعنى السياسي والديموغرافي، يتقدم على المعارضة في استمالة الكتلة الوسطية، التي نجمت عن أمرين، وهما، الفوضى العارمة بين الفصائل المسلحة، وهيمنة الفكر المتشدد، الذي شكل تربة خصبة لنمو واحتضان الجهاد المعولم، فكانت المفاضلة الوسطية، بين السيء والأسوأ.

في الضفة المقابلة، كان المثقف المعارض محكوماً بثلاثة خيارات، الأول: خطر الاعتقال والتعذيب، الذي قد يصل به الى حد الإعاقة أو الموت. والثاني: الاستسلام للواقع الذي تفرضه البيئة الحاضنة للنظام، والاكتفاء بالسقف السياسي والأمني، الذي يحدده له النظام. الخيار الثالث: الانتظار أو السعي إلى إيجاد فرصة تمكنه من مغادرة البلد، وهذا ما فاقم من المشكلة، إذ بدل أن يقرر الالتحاق بـ «الثوار» للأسباب الموجبة، فضل ممارسة سلوكه التبشيري، من خلف الحدود ومن على المنابر، وبشراسة موصوفة، متعهداً باستمرار الثورة، حتى آخر نقطة من دم!. وعذرنا في ذلك أن ثمة فائضاً نخبوياً وقيادياً في الخارج، كان الداخل في أمس الحاجة إليه.

ومع تفضيل الخارج، واستثماره لما يجري على الأرض، لغايات شخصية وفئوية، وصلت الى حد النظر الى الأزمة من منظور مصالح الدول المستضيفة، تحول المثقف إلى داعية دونكيشوتي. فلو نظرنا بموضوعية، إلى كيفية تعاطي المعارضة في كثير من المحطات، لوجدنا أن ثمة رؤية افتراضية شكلت المعيارية التي وفقها انبرى خطابها السياسي، الذي لامس جزءاً من طبيعة المشهد السياسي للحراك، فيما عكس بقية المشهد، الدوافع الإيديولوجية والأحكام المسبقة، مقرونةً بالرغبات والأمنيات. وهذا ما يفسر سبب النكبات والخيبات المتراكمة التي منيت بها.

بهذا النهج والمسار، كانت إشكالية العلاقة بين المعارضة الخارجية والمقاتلين على الأرض، تأخذ منحى صدامياً في كثير من المحطات، والسبب في ذلك هو سعي المعارضة إلى الحصول على الشرعية من الخارج، والتحدث في المنابر الدولية بالنيابة عنهم وعن كل الشعب!.

لاشك في أن المعارضة استسلمت لمجموعة من الخيارات المغرية، أولها: فكرة نجاح دومينو تغيير الأنظمة العربية، فلم تكلف نفسها عناء البحث، لا في الخصوصية السورية، ولا في تفكيك النظام، الذي تعاطت معه ككيان متجانس. ثانياً: الرهان على تدخل خارجي، واعتبار الموقف الروسي تفصيلاً. ثالثاً: الوقوع بفخ الإغراء الجهادي، حين شرعنت «كل البنادق، شريفة، طالما أنها موجهة صوب النظام»!.

وبكل أسف تدخل الأزمة عامها الرابع، ونحن ندور في حلقة مفرغة، فيما يتعذر على الولايات المتحدة العثور على قوى معتدلة، لتمدها بأسلحة مضادة للطيران، ما يعني حقيقةً، أننا أمام حضور إسلامي متشدد، غير معني بإقامة الدولة المدنية وتحقيق الديموقراطية. وهنا لا يعود مجدياً تقديم المجاهد كثوري، ولا كافياً، التفنن في وصف وحشية النظام، وتحميله وحده مسؤولية انحراف وتحول الثورة.

ما يهمنا الآن، اجتراح خطاب يحمل «إمكانية الخروج من الأزمة»، طالما الجميع يقر بضرورة الحل سياسي!. مؤسف ألا يلقى طرحنا للحل، ولو نقاشاً يشارك فيه الجميع. لقد هالنا تبديد فرصة «جنيف2»، إذ لم يكن مقبولاً تمسك المعارضة بفقرة هيئة الحكم الانتقالي، على أهميتها، ورهن حياة الناس إلى أجلٍ مجهول. فالحنكة السياسية تقتضي إراحة الحليف وإحراج الخصم، فإذا كانت تمتلك الأدلة على إرهاب النظام، لماذا إذن لم تسحب من يده هذه الورقة، وتكون هي من يطالب بها؟. أليس كسب النظام بالنقاط أفضل من الرهان على ضربة قاضية، غير متاحة، أقله في المدى المنظور والمتوسط؟.

* كاتب سوري

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى