الثورة السورية على مفترق طرق
رضوان السيد
وصل المراقبون العرب إلى سوريا كما هو معروف، وهم يحاولون منذ ثلاثة أيام البدء بتنفيذ «البروتوكول» الذي يقتضي إيقاف القتل وسفك الدم، وسحب الجيش والقوى الأمنية من المدن والبلدات، وإطلاق سراح الأسرى والمعتقلين، والتفكير في طرائق لإغاثة الشعب السوري في المحنة الهائلة التي نزلت به نتيجة حروب الإبادة التي يشنها عليه نظامه منذ عشرة أشهر.
ولست مهتما هنا بهل ينجح المراقبون في مهمتهم أم لا، وهل يستجيب النظام أخيرا أم لا. فكل ذلك لم يعد مهما ولا ممكنا. إذ لو تجاوب النظام، وحل نوع من الهدنة يتيح الانصراف لإغاثة الناس؛ فإن هم الناس لن يكون الأكل والشرب والكهرباء ومداواة الجراح، والسؤال عن المعتقلين. بل ما سيفعله الباقون على قيد الحياة بحمص وريفها، ودرعا وريفها، وإدلب وريفها، ودمشق وريفها، وحماه وريفها، وكل البلدات والقرى – سيكون النزول إلى الشارع وبسلاح ومن دون سلاح، لمقاتلة النظام القاتل ولو بالأيدي والأذرع العارية. فنحن نتحدث عن نحو السبعة آلاف قتيل، والأربعة عشر ألف مفقود، والسبعين ألف معتقل، وما يزيد على المائة ألف مشرد من مكان إلى مكان. وهذا فضلا عن الذين لجأوا إلى تركيا ولبنان والأردن والعراق. فقد كان في سوريا قبل عام أو بقي فيها نحو المليون عراقي، أما اليوم فإن أعداد العراقيين اللاجئين لا تكاد تذكر، وبدأ السوريون أنفسهم يهربون إلى العراق!
فلو أن النظام عاد إلى رشده – وهذا أمر مستبعد جدا – فمعنى ذلك أن ممثليه خلال شهر سيجلسون مع المعارضين بالداخل والخارج بالجامعة العربية، للتفاوض حول «حل سياسي». ولو أن المعارضين فعلوا ذلك (هم يقولون إنهم لن يفعلوا)، فلا شك أن الجمهور سينبذهم، ولن يقبل بالبقاء دقيقة واحدة تحت سلطة هذا النظام القاتل. فما مات من اليمنيين خلال عام لا يزيد على الأربعمائة، وها هي ملايينهم تخرج إلى الشارع فيما بين تعز وصنعاء لتطالب بمحاكمة علي عبد الله صالح، بدلا من إعطائه ضمانات قانونية هو وأقاربه ورجالات نظامه! ولذا فالواضح اليوم، وبل ومنذ ثلاثة أشهر أن الثائرين الذين وطنوا أنفسهم على عدم الخضوع مهما كلف ذلك، سيمضون قدما في ثورتهم، وسيزداد استعمالهم للسلاح للدفاع ثم للهجوم، وسيقاتلون مع «الجيش السوري الحر» لحين بلوغ القدرة على إسقاط النظام من طريق المقاومة الداخلية، والعقوبات العربية والدولية. فالحرب الأهلية بين السنة والعلويين مثلا لن تقع. أما الذي سوف يقع أو بدأ يقع فهو أن قسما من الشبان الريفيين المشاركين في الاحتجاجات، يحملون السلاح الآن. والنزاع الداخلي الذي يكثر الحديث عنه سيكون بين الشبان الثائرين والمنشقين عن الجيش من جهة، والجيش والقوى الأمنية من جهة أخرى.
وإذا كانت هذه هي مآلات الثورة والثوار، فكيف يفكر النظام، والذي يفعله أو سيفعله. ما تزال لدى النظام آمال داخلية وخارجية. أما الآمال الداخلية فتتمثل في اعتقاد القدرة على إخماد الحراك. ورجالات النظام يقولون إن ذلك ممكن لأن مناطق الالتهاب الحقيقي محدودة أو أنها لم تتطور منذ ثلاثة أشهر، وهي تتمثل في درعا وريفها، وإدلب وريفها، وحماة وريفها، وحمص وريفها. ويبلغ حجم هؤلاء أكثر من مليونين، لكنهم الآن متعبون جدا، ويمكن أن ينكسروا؛ أو أن هذه هي آمال النظام. أما في الخارج فهناك إيران والمالكي بالعراق وحزب الله بلبنان، وهذه جهات معروفة دوليا، وقد توحدت الآن تقريبا في جهد مشترك استماتةً في الدفاع عن نفسها ونظام حليفها الرئيس الأسد. وقد ظل حزب الله على لسان أمينه العام ولعدة أشهر يعلل هذه «النصرة» الشرسة للنظام السوري بأنه نظام ممانعة ومقاومة. وقد كان الحزب بالاتفاق مع النظام السوري قد انقلب على حكومة سعد الحريري وأتى بميقاتي رئيسا للحكومة بلبنان. ومنذ ذلك الحين صار يعد لبنان وليس الحزب فقط ضمن محور الممانعة الذي فيه طهران والعراق وسوريا وحزب الله. وميقاتي ينكر ذلك بالطبع، لكن التركيبة التي أتى بها خاضعة للحزب والجنرال عون، ويشكل لبنان في وضعه الحالي منفذا ماليا وتجاريا للنظام السوري المعزول، ويستطيع أركانه ورجال أعماله أن يتنفسوا من خلال نظامه المصرفي الذي بدأ يتعرض للرقابة الأميركية والدولية الشديدة.
وشأن المالكي رئيس الوزراء العراقي مع النظام السوري، لا يختلف عن شأن حزب الله. لكن موقفه لم ينكشف إلا عندما تفاقم الأمر وتدخلت الجامعة العربية، وظهر موقف لبنان والعراق متمايزا أو مناقضا للموقف العربي العام. وفي حين صمت رئيس الوزراء اللبناني في أكثر الأحيان، كان المالكي قبل انفجار صراعه مع السياسيين السنة بالعراق، أكثر كلاما وفصاحة. وقد تظاهر بالوساطة، وأرسل وفدا بالفعل إلى دمشق. وقال إنه على استعداد لاستقبال وفد من المعارضة. إنما الطريف كان ما علل به موقفه الداعم للنظام. قال المالكي: أنا قضيت في سوريا 16 عاما (أي إن النظام له عليه جمائل)، والنظام هناك قوي وليس إسقاطه سهلا، ثم إن الوضع هناك معقد، وعدم الوصول إلى إجراء الإصلاحات بالتوافق سيؤدي إلى مشكلات كبرى. وهو يقصد بتعقيد الوضع الطبيعة الطائفية للنظام السوري، وأن العلويين (والأقليات الأخرى) لن يتخلوا عن النظام الحالي دونما قتال، فتنجم عن ذلك نزاعات طائفية تشبه الحرب الأهلية. وتحليل المالكي هذا يبدو مبالغا فيه إلا إذا وضعناه في السياق الكامل الذي يقصده، والذي عبر عنه الإيرانيون وبعض السياسيين العراقيين، وهو النزاع السني/ الشيعي. فهؤلاء يرون أن الثورات العربية تمثل صحوة سنية، ولدى بعض تيارات تلك الثورات (= السلفية) عداء للشيعة، وهذا فضلا عن البعد السياسي والاستراتيجي، فالمحور الإيراني محور شيعي، والعلويون بالمعنى الاستراتيجي، وليس الديني أو المذهبي، صاروا جزءا من الامتداد الإيراني بالمنطقة مثل شيعة لبنان أو بعض شيعة الخليج. فإذا كان حزب الله قد تغطى (دونما نجاح كبير) بورقة توت المقاومة؛ فإن المالكي مضطر للإفصاح أو الغمغمة بما يتجاوز واجبات الجوار والصحبة. ولا شك أن النظام السوري تلقى مساعدات من عند المالكي وبواسطته (من إيران)، أكبر مما تلقاه من جهة لبنان. فالطائرات الإيرانية مراقبة من تركيا، ولذلك هناك الجهة البرية من طريق العراق، والجهة البحرية الأكثر تعقيدا لتعرضها للمراقبة الإسرائيلية والأميركية. ويقال إن مقتدى الصدر أو الخزعلي المنشق عنه (في الحضن الإيراني)، أرسلا عناصر لمساعدة النظام السوري في محنته مع شعبه.
لقد أطلت بعض الشيء في إيضاح «المنظومة» التي يستند إليها النظام السوري من الناحيتين المذهبية والاستراتيجية. ويمكن أن نضيف إليها هنا روسيا الاتحادية التي تورد إليه السلاح، والتي تدعمه في الأمم المتحدة. كما يمكن أن نضيف إلى عوامل دعمه الخوف الإسرائيلي من نظام ديمقراطي في سوريا يكون عدوا لها بالفعل وليس بالشكل مثل نظام الأسد، ودعك من خنزوانات حزب الله بشأن المؤامرة الأميركية على النظام المقاوم! إذ من أسباب تطور الأزمة إلى هذه الأبعاد الخطير التردد الأميركي الشديد في التدخل، ليس بسبب الموقف الروسي فقط، بل وبسبب الموقف الإسرائيلي!
لقد كان منتظرا إذا طالت مدة الأزمة دونما مخرج عربي أو دولي أن تتطور خصومة الشعب السوري مع النظام إلى صراع مسلح. وفي هذا الصراع يقف نحو المائة ألف مقاتل مع النظام بتسليح وتدريب جيد، في مواجهة نحو المليوني متظاهر ومحتج وثائر، بينهم تقديرا خمسة عشر ألفا ينتمون إلى الجيش السوري الحر، وخمسة عشر ألفا آخرون حملوا السلاح. وليس لدى هؤلاء تسليح جيد ولا تدريب أو انتظام حقيقي كما في الجيوش، لكنهم قد لا يحتاجون إلى ذلك لأنهم يشنون حرب عصابات اقتصرت حتى الآن على الدفاع عن النفس بقدر الإمكان، لكنها تتطور إلى الهجوم إذا انهارت المبادرة العربية علنا، بملاذات آمنة أو من دون ملاذات!
الشرق الأوسط