صفحات الرأي

الثورة باحثة عن عقلها الثقافي!


مطاع صفدي

تبلغ الثورة في سورية حدّ التقاطع مع أشدّ عوامل التشويه والتحريف والاستغلال التي تنتابها من كل جهة؛ حقيقة الثورة على الأرض مختلفة دائماً عن التصورات والتحليلات التي تطلق على إنجازاتها، حتى الثوار أنفسهم تفاجئهم أفعالهم أحياناً، لا يعرفون كيف يسيطرون على مجراها، أو يتحكمون بنتائجها. مع ذلك فالثورة تسجل تقدما بارزا على دربها، بعد أن باتت ثورة مسلحة في وقائعها الكبيرة، لم يعد يمكن التعامل معها إلا عبر ساحات القتال المفتوحة، وقد انقلبت ميادين المدن المشتعلة من مسارح لانتفاضات الجماهير المدنية، وأمست أشبه بجبهات عسكرية.

إنها حروب الشوارع التي تعم المدن والأرياف الثائرة. فالثوار طغت عليهم صفة الرجال المقاتلين، صحيح أن المظاهرات الشعبية لم ينقطع تيارها، لكنها تحولت إلى عمق الصورة اليومية وراء شباب البنادق المحتلين للخطوط الأمامية.

لم يحدث هذا التطور، من ثورة الكتل الجماهيرية السلمية إلى حراك الكتائب الشبابية المسلحة، إلا تحت تأثير مباشر من عنف القمع السلطوي الذي لاقته الشوارع المسالمة؛ فقد ارتكبت سياسة القمع المطلق هذه كل ما يمكنها من الفظاعات الفردية والجماعية، ما يجعل الجماهير الضحايا باحثة عن وسائل حمايتها، التي لن تكون إلا بالسلاح المقاوم ضد السلاح الظالم، فنن يكون للشعب الثائر جيشٌ جديد ثائر من نوعه، تلك هي الواقعة المركبة والفاصلة في وقت واحد لمقاومة شعبية شاملة، جامعة لحديها السلمي والحركي في آن معاً، غير أن هذا التطور ليس كله إيجابياً، إذ أنه يعلق مصير الثورة بتمامه على ناصية الصراع العسكري وحده.. فليس في مقدور المقاومة أن تنشئ جيشاً كاملاً يكافئ جيش الدولة مهما أصابه على يد الثورة نفسها من حركات انشقاق أو تضعضع هيكلي، يلازمه تناقض في العقيدة العسكرية وتشتت في صفوفه. فالثورة قد تنتج شراذم من المقاتلين، كما هو الحال اليوم، لكنها لن تخترع جيشاً حقيقياً بين عشية وضحاها. فمن العبث الاعتقاد أن انتصار الثورة هو أمر عسكري أولاً، هذا فضلاً عن أن ثورة شعبية صامدة تحت وطأة أشقى القطاعات منذ أكثر من سنة ونصف السنة لن ترضى لذاتها أن تنتهي إلى مجرد انقلاب عسكري.

لكن بالمقابل لا يمكن التقليل من أهمية معارك الشمال السوري، فإن لها تأثيراً على مجرى الصراع وطبيعته في آن. لا شك أن السلطة فقدت الشيء الكثير من نفوذها ومعانيها. معارك (حلب) جعلت دولة الأسد تُختزل إلى ميليشيا تصارع ميليشيات أخرى، وتخسر إزاءها الشيء الكثير من قدراتها المادية والمعنوية.

فالشمال السوري يمكن أن يتحول كله إلى منطقة عازلة، لا وجود لدولة دمشق شبح لها في ربوعها. هذا الهدف الاستراتيجي الذي طالما طالبت به قيادات سياسية للثورة بمعونة الغرب، وبعض العرب، لكن الشباب هم الذين يحققونه بقواهم الخاصة المتواضعة من حيث التسلح، وإن صاحبتها بطولات وتضحيات إنسانية رائعة. ههنا القتال لا يزال متمتعاً بصفته الثورية الخالصة تقريباً، حتى عندما يمارس التخطيط والتنفيذ جنود وضباط منشقون عن الجيش، فإنهم أصبحوا عسكريين ثواراً، قرروا مع بقية الشبيبة الناهضة استردادَ الدولة من لصوصها القَتَلة، الغادرين بالشرف العسكري ومشروعية الحكم ونزاهته الأخلاقية والقانونية.

من وجهة النظر هذه تصبح العسكرتاريا مجندة في خدمة الثورة، وهما معاً يستظلان بالشرعية الوطنية الشاملة. فتقع على عاتقهما مسؤولية التغيير التاريخي المنشود من كافة مكونات المجتمع، محفوفاً بمناقبية الأخلاق العامة؛ فلا مجال للسقوط في مخالب السلوكيات الميليشياوية المعتادة، ولا تقليدَ لغدْر العدو بالوحشية الانتقامية المماثلة لأفعاله الدنيئة؛ فهل هذه الفروقات ترفع عن المعارضة صفة العسكرة، أم أن المعارضة سوف تظل مدنياً هي المسؤولة الأخيرة عن مجمل النشاط القتالي وسلوك أفراده. لا مهرب من هذه المسؤولية حتى في ظروف النضال اليومي الصعب الذي يفرض أن يتقدم العسكريون صفوفَ الساحات المفتوحة في شتى أنحاء الوطن. ذلك أن ميادين القتال تحدد قوانين اللعبة السياسية قبل أن يتفكرها السادة السياسيون القابعون وراء مكاتبهم.

ماذا نقول إذاً عن مصير ثورة سورية، أنها أمست حرباً ثورية، دفعاً لأن تكون حرباً أهلية. فالقتال الفعلي لم يعد صدفة طارئة، أصبح هو محور الحراك العام، والثوار هم مقاتلون، نموذج المقاتل يتضمن نموذج الثائر وقد يتخطاه، وربما يصير نداً له أو نقيضاً فكرياً وسلوكياً. نظام القمع الأسدي يتطلب كفاحاً مادياً مباشراً للحد من سطوته. كأنه ألغى عهد النضال السلمي بعد أن حرمه من أبسط جوائزه في جنيْ الحد الأدنى من الانتصارات السياسية والاجتماعية. فما كان لنظام القمع المطلق أن يقبل بإصلاح نفسه، إما أن يبقى كما هو، ممارساً لعادات شخصيته المتعالية المتجبرة، أو أنه يتهاوى كله دفعة واحدة كبناء كرتوني أجوف وهو المصير الذي سبقه إليه آخر طواغيت العرب. فالصراع مع هكذا نظام يحدد مقدماً طبيعة المقاومة المتصدية له.

إسقاط نظام القمع أمر قائم في حد ذاته، لا يمكن التفكر في وسائله والانخراط في وعثائه من دون التقدير الدقيق لامكاناته. مبدأ القوة هو الحاكم الرئيسي، والأخص منها جانبها المادي، فانتقال الثورة من صيغة المظاهرة إلى حلبة ‘الميادين’ حتم تغييراً جذرياً في البنية البشرية وفي الاعداد والتنفيذ، وفي الانتظام والحراك العام. لقد اتخذت الثورة فجأة طابع الهجوم عندما شنت ما يشبه الغارات على أحياء معينة في عاصمتي سورية، دمشق وحلب، كأنها تحاول احتلالات مُعَسْكَرة، تتجاوز محدودية الغارة الطارئة، تتسلح بنموذج قتال الشوارع التي قد تحيلها إلى جبهات كرّ وفر، لا يمكنها الاستقرار طويلاً على أحوال من انتصارات أو نجاحات جغرافية أو ظرفية. معنى ذلك أن سورية تدخل مرحلة مربعة تحت مصطلح حروب المدن، وفيها يتقاسم المتقاتلون مساحات جغرافية من أحياء موالية قسراً للسلطة وأخرى متعاطفة مع الثوار نسبياً أو كلياً. هذا يعني أن النظام فقد أجزاء مهمة من المدن والأرياف، لم تعد خاضعة لدولته، وبالتالي ينسلخ النظام عن جسم الدولة التي كانت تحميه بشرعيتها المغتصبة، وينحدر دونها إلى مستوى حجمه الأصلي، كفئة أسروية مدعية لاحتكار طائفة؛ في هذه الحال يصبح الرهان على الحرب الأهلية قاب قوسين أو أدنى من الواقع الفعلي.

إنه الانقسام العمودي/الأفقي الذي يتهدد نوعية حروب المدن، ومن الواضح أن ثمة تصميماً على دفع البلاد في هذا الاتجاه المشؤوم. أبشع ما في هذا الاتجاه أن حروب المدن لا نهاية لآجالها، تنقل الصراعَ من مبدئيته نحو التفرع إلى جبهات هامشية، إنها حروب استنزاف عقيمة، ممتصة لمعاني الثورة، ومقبرة مفتوحة لأهدافها المتهاوية أو المنسيّة. لقد عانى لبنان من أمثالها طيلة عشرين عاماً، خرج منها جميع المقاتلين مهزومين، وكان البلد هو الخاسر الأكبر الذي ضحى بحضارته على مذابح حقاراتها وآثامها غير المسبوقة؛ فهل يقع ثوار سورية في التجربة الثانية اللبنانية عينها وما هو أفظع.. حين تتعمق القسمة البنيوية للنسيج الاجتماعي على أساس طائفي ثم جغرافي جهوي. حتى تصبح شَرْذمة الخارطة السورية حقيقة ملموسة على الأرض، بانتظار أن تكتسب القسمة أشكالَها الدستورية المزعومة. فالنظام مستعد للسير في طريق الأشواك هذه إلى نهايتها، بعد أن وضع مصالح الوطن السوري كله في كفة موازية لمصلحة الأسرة الحاكمة وحدها. في حين تقع على عاتق الثورة أعباء هذه المهمة المزدوجة: حذف الأسرة المتسلطة مع المحافظة على وحدة الوطن أرضاً وشعباً، ولا شك أمسى هدف إسقاط النظام شرطاً لحفظ الكيان الوطني، وعلى العكس، فما دام ثمة وجود ما لهذا النظام فالبلد مهدد بالتشظي والتفاني الذاتي المتبادل بين مكوناته إلى ما لا نهاية.

هذا على الرغم من أنه ليس لمبدأ التقسيم أية قواعد شعبية تطالب به أو ترضى به عن إرادة وطواعية. فالشعب السوري متلاحم بطبيعته على مرّ المحن التاريخية الكبرى. والفتن الفئوية التي تعتريه في العصر الحديث تحديداً هي أحوال طارئة وشاذة مفبركة بأصابع أجنبية غالباً، سرعان ما يمتص آثارها السلبية تسامحٌ أهلي متبادل ما بين أطراف الصراع أنفسهم. فمن العبث حقاً أن ينتصب فخ التطويف الدموي تلقائياً من دون افتعال مقصود بخبث وعناية. وهذا ما دأب النظام على صناعته واصطناع ظروفه وأسبابه اليومية. فالنظام منذ تأسيسه قبل حوالي نصف قرن، كان متذرعاً بالتكوين الطائفي عبر كل تعدياته على حقوق المواطنة العامة، فقد زَرَعَ ونمَّا وفجّر أخطر أوبئة التفرقة انطلاقاً من نشر وباء العنصرية العرقية؛ كان يتشدق بأشمل أهداف الأمة في الوحدة والحرية، وهو كان العدو الأول لأبسط شروط هذين الهدفين بدءاً من مصادرة الرأي الحر حول أي شأن يمس مصالح الناس ومصائرهم.

الثورة والحرب الأهلية ضدان لا يجتمعان إلا ليزيل أحدهما الآخر. والمرحلة الراهنة تشهد ذروة هذا التعارض، حافلة بأفخاخ منصوبة للثورة كيما تنجرف في طرق لا تختارها بوعي وتصميم. ما يميز هذه الثورة أنها ما زالت أقرب إلى عفوية السلوك الجماهيري منها إلى الانقياد وفق ثقافة ثورية حقيقية! من هنا قابليتها للتلاعب بهوياتها النضالية وإرادتها الحركية. فالمسألة ليست في مدنية الثورة أو عَسْكَرتها بقدر ما هي في نوعية العقل المدبّر الذي لا يزال يقودها بحسب منطق الصدف الطارئة وحدها. غير أن الخطر الأكبر الذي يترصدها هو انزلاقها نحو بؤر الاقتتالات شبه الأهلوية.. مدنياً وعسكرياً. ولا سبيل حتى الآن إلى وقف الانزلاق الأهوج إلا بإعادة اللحمة بين الثوري والثقافي، إذ في طلاقهما المستفحل يضيع كل شيء، تسير الأمور تلقائياً خبطَ عشواء، يصير مبدأ القتل وحده غايةً في ذاته لا تُسوّغه إلا كميةُ الدم المستباح، تلك هي لعنة الكارثة التي تجهل نفسها.

‘ مفكر عربي مقيم في باريس

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى