الثورة في سورية وحذاء “الفيتنيس”/ عدنان الغجر
من حي يدعى «الجبل» على أطراف المدينة المتعبة حلب، تبدأ رحلتي كل صباح الى فرن الخبز الواقع في أحد شوارع الحي الممتلئة بالطين.
يجمع طابور الخبز الطويل الكثير من الناس. وكان يتقدمنا دائماً رجل يرتدي سروال جينز، مع بروز في خاصرته اليمنى نظنه سلاحاً، تغطيه جاكيت جلدية. هذا هو شكل رجال المخابرات، وهذا ما يقوله الناس عن هؤلاء الذين لم أجهد نفسي في البحث عن حقيقتهم. هل فعلاً كانوا رجال مخابرات أم ماذا؟
أذكر أيضاً كيف كان ذاك الرجل صاحب الزي البدوي يتقدمنا ليأخذ ما يزيد عن حاجته من الخبز ويمضي، من دون مبالاة بالآخرين. ويقال إن الكوفية التي على رأسه والعباءة المرمية على كتفيه، زي خاص بشيوخ العشائر ولا يصلح أن يقف مع الناس العاديين، لأن في ذلك تقليلاً من مكانته وهيبته.
يبدأ دوام المدرسة بنظارات طبية سميكة، وشعر مصفف على الطرف اليمين، مع رائحة عطر «اللابيدوس» التي تزكم الأنف، وارتبط هذا الشكل بمعلمي المدارس وأغلب الموظفين في القطاع الحكومي.
يرتدي بعض الشبان طقماً رسمياً لميعاً مع حذاء إيطالي لميع وخاتم ضخم في أحد أصابع اليد، ليتشبهوا بالممثل التركي الذي ظهر في أحد المسلسلات في شتاء العام 2008، بدور رجل مخابرات قوي لا يقهر.
ليقال إنك شاب مثقف، احمل كتاباً في يدك أو جريدة. ليحكى أنك تتابع المسرح أو تعمل به، عليك أن تسعى لتطيل شعرك ولحيتك.
كل هذه مسموعات ومشاهدات يومية، تبدأ بالخروج من المنزل ولا تهدأ حتى العودة إليه. ولكن لم تغرني كل تلك الأشكال، ولم أسع لأن أكون احدهم، إلا أن ذاك الحذاء الذي يرتديه الشبان الذين يقفون على زوايا الحارات، جعلني أتعلق برغبة في الحصول على حذاء مثله، بل وأصبح من أهم ما أرغب في ارتدائه حينها.
حذاء رياضي يرفع طول الإنسان عن الأرض ثلاثة أو أربع سنتيمترات، ويعطي مظهره قوة وشكلاً فريداً ومختلفاً عن الآخرين. لا يتسرب الماء إلى جوفه في الشتاء، ويساعد على المشي بشكل مريح أكثر من غيره، فضلاً عن أنه لا يتلف بسرعة، وقد تستمر متانته لعام أو أكثر. ولكن لم أكن أقوى على البوح حتى لأبي برغبتي هذه، ليس لأن ثمنه كبير أو لأنه صعب المنال، إنما لما يحمله من دلالات توصـــف بأنها غير لائقة اجتماعياً. إذ إن الفئة الأكثر ارتداء له هم الشبان الذين يعملون في تجارة الحبوب المخدرة وبائعو الدخان وأصحاب المشاجرات الذين يحملون سكاكين وشفرات تساعدهم على القتال. والذم بهم وصل إلى درجة يكفي معها أن تقول إن فلاناً من جماعة الـ «فيتـــــنيس» ليلصق به بعض من هذه الاتهامات، وليصنف على أنه رجل غير صالح في المجتمع.
مضت سنوات وأنا لا أحرك ساكناً سوى النظر إليه والتمتع بمظهره في أقدام الآخرين.
إنه حذاء «الفيتنيس» الرياضي الذي لم يكن بين رغبتي وبينه سوى ما سيحكيه الناس عني، ابتداء من عائلتي وليس انتهاء بزملائي في الجامعة.
أذكر المرة الأولى التي جعلتني مجرداً من كل أقاويل الناس وتصنيفاتهم، فالتظاهرة المسائية ستبدأ بعد قليل. وبدأ الناس بالاحتشاد في الأزقة، ينتظرون موعد انطلاقها ليخرجوا إلى ساحة الحي الذي أعيش فيه. أعطاني صديقي الحذاء، وانتعلته من دون أي تفكير بشيء، سوى بالدقائق التي تفصلنا عن الصيحة الأولى.
بدأت التظاهرة بالهتاف، وبدأ الناس يغنون ويهتفون، حينها لم أر أي شكل من الأشكال، ولم يشتت رغبتي في تحطيم القهر الذي في داخلي شيء. كان قلبي معلقاً بين لحظة الحرية هذه والرصاصة التي ربما ستستقر في صدري بعد دقائق قليلة. لم نكن نحدق بعضنا بوجوه بعض، نرقص ما بوسعنا قبل وصول الأمن. إلا أن الرجل الذي كان يهرب معي من رصاص الأمن الذي فتح علينا، كان يرتدي كوفية حمراء. كان يدفع أحدنا الآخر، للتخلص سوية من قبضة الأمن أو رصاصهم.
أذكر حينها كيف اختبأت في أحد المنازل التي لم يكن فيها رجال أبداً، في تلك الحارة المسدودة بعدما فتحت أم أحمد باب منزلها، ونادت للخائفين الهاربين لتؤويهم وتحجبهم عن عيون رجال الأمن وعناصر المخابرات المدججين بالسلاح.
منذ ذلك الوقت بدأت أسمع لغة جديدة، تتحدث عن المواقف لا الأشكال: فلان مؤيد وذاك معارض، وهذا فقد أخاه شهيداً وذاك شجاع لا يهاب الموت.
بدأت أشعر بأن اللغة القديمة قد ماعت، لأوان الحرية تسمو بنا جميعا ليعرف بعضنا بعضاً بشكل جدي أكثر من قبل، ولم يعد يطرأ على مسامعي أن هذا أجمل من ذاك، وفلان يشبه كذا.
انصهر السائد لأعوام قليلة، وظننت أنه لن يعود مرة أخرى. إنما القاسي والمر أنني اليوم عدت لأسمع الكلمات القديمة، وأشعر أنها زيت مغلي يصب في أذني، وسكينٌ تحز في أوردة قلبي وتصعد لتقطع أوصال ذاكرتي.
انت من جماعة «الفيتنيس؟»، السروال الذي ترتديه يجعلك تشبه الأستاذ. كيف ستقيم علاقة مع فتاة وأنت لا تملك مال؟
لا أدري اليوم ما السبب. ترى هل تعبنا من منطق الحرية؟ أم أننا لم نصمد أمام لغة القيم؟ هل عاد الناس إلى المنطق السائد لأنه الأسهل؟ أم أن آلاف الشهداء وكل شلالات الدماء غير كافية لقلب لغة جثت فوق صدورنا لخمسة عقود؟
الحياة