صفحات الثقافة

تحت كنف البروق المُستجيبة/ روني شار  

 

 

شهادتان

حين أقول عن روني شار إنَّه ريفيٌّ، فإنَّني أرغب أن أكون واضحاً في كلامي، خاصَّة في فرنسا حيث تقارب اللَّفظةُ صفة “فولكلوري” بما هي أتعس المآخذ. أريد أن أتكلَّم عن شخص هو شديد الارتباط بمشهد طبيعيٍّ إلى حدِّ أنَّه يجد فيه صوره الرَّئيسيَّة. إنَّه يذكِّرنا في هذا السِّياق بالشَّاعر ييتس وبالطَّريقة التي تُلوِّن بها المَشاهدُ الطَّبيعيَّة لغرب إرلندا، تلوِّن بها أعمالَه. ريح وماء. صخر وسحاب، والصُّورة المتكرِّرة للشَّاعر-الصيَّاد، كلُّها أجزاء من عمليَّة كان شار يتعرَّف عليها، والتي عبرها تتحوَّل الكائنات الحيَّة إلى رموز دون أن تفقد شيئا من حقيقتها المادِّية. هكذا يكتسب التِّين، والعلِّيق، وبلاطات البيوت حضورا…

جون مونتاغ

 

عندما ترك روني شار رجال المقاومة في مايو 44 قاصدا شمال إفريقيا، أقلعت طائرة في اللَّيل من الباس-ألب وحلَّقت فوق دِيرانس. وعندئذ لمح على طول الجبال النِّيرانَ المُشعَلة من قبل رجاله لتحيَّته مرَّة أخيرة.

في مدينة “كالفي” كان ينام (فيض أحلام). في الصَّباح ينهض ويرى رصيفا مغطَّى بأعقاب السَّجائر الأمريكيَّة. بعد أربعة أعوام من المقاومة وصرِّ الأسنان، تنبجس الدُّموع، ويبكي، طيلة ساعة، أمام أعقاب السَّجائر.

خليج صغير قبل مدينة تينس (الجزائر) عند أسفل السَّلاسل الجبليَّة. نصف دائرة ممتازة. عند الغسق فَيضٌ من القلق يُحوِّم فوق المياه الهادئة. عندئذ ندرك أنَّه، إذا كان الإغريق قد شكَّلوا فكرة اليأس والتَّراجيديا، فقد كان ذلك دوما عبر الجمال وما يَملكه من عناصر مُرهِقة. إنَّها تراجيديا تبلغ الأوج. بينما الفكر الحديث صنع يأسه بدءا من البشاعة والرَّديء.

إنَّ ما عناه شار دون شكٍّ، هو أنَّه بالنِّسبة إلى الإغريق، الجمال هو المنطلق. أمَّا بالنِّسبة إلى أوروبيٍّ فهو غاية قلَّما أُدرِكت. ما أنا بالحداثي.

صديق لشار. نموت في الأربعين برصاصة أطلقناها على القلب في العشرين.

شار. كتلة هادئة على الأرض واقعة من كارثة خفيَّة.

ألبير كامو.

 

منتخبات

 

المَكتَبةُ مُشتَعِلَة

 

إلى جورج براك

 

إنَّها تُثلج مِن فمِ هذا المورِدِ. كان الجحيم في الرَّأس يُقيم، والرَّبيع، في الوقت ذاته، على أطراف الأصابع يَمثُلُ. إنَّها الدَّعسة مِن جديد مُسوَّغة. الأرض عاشقة، والأعشاب في الحيويَّة مُفرطة.

 

الرُّوح أيضا، كما الأشياءُ كلُّها، قد ارتعَدت.

 

النِّسر في صِيغة القادم.

 

كُلُّ حركة توظِّف الرُّوحَ، وكم يحدث أن تكون الرُّوح جاهلة بذلك، يكون النَّدم أو الحزن خاتمة لها. لقد وجب القبول بذلك.

 

كيف جاءتني الكتابة؟ كما زغبُ الطُّيور على زجاج نافذتي، فصلُ الشِّتاء. في الحال قامت وسط الموقد معركة بين الجمرات، إلى الآن، ما كَفَّت.

 

مُدن دافئة نَظرتها رَتيبة مُدمَجة في مُدن أخرى، مُدن شَوارعُها مُسطَّرة من قبلنا نحن، تحت كنف البروق المُستجيبة لاهتماماتنا.

 

لقد وجب على كلِّ ما فينا ألاَّ يكون إلاَّ احتفالا بهيجا حين يَحدث أنَّ شيئا ما توقَّعناه، أنَّ شيئا لا نُوضِّحه، أنَّ شيئا سيؤثِّر فينا، أنَّه بوسائطه الذَّاتيَّة يَكتمل.

 

لِنُواصل سَبرَ الأعماق، والحديثَ دون انفعال، في كلمات مجمَّعة، وسننجح في إسكات كلِّ هذي الكلاب، وفي جعلها بالكلإ تمتزج، مراقبة إيَّانا بأعين يحيط بها الدُّخان، بينما الرِّيح تطمس أظهرها.

 

إنَّ البرق يُديمني.

 

لا يُوجد إلاَّ شبيهي، الصَّاحبة أو الصَّاحب، الذي بإمكانه أن يُفيقني من خمودي، أن يَعتق الشِّعر، أن يدفع بي إلى تخوم اليباب القديم حتَّى أنتصر عليه. لا أحد إلاَّه، لا السَّماوات ولا الأرض ذات الامتياز، ولا الأشياء التي نهتزُّ لها.

 

مِشعلٌ لا أراقص غيره.

 

نحن لا نقدر على البدء في القصيدة مِن دون قلامة من الخطإ على حساب الذَّات والعالم، من دون قشَّة من البراءة عند أُولى الكلمات.

 

في القصيدة، وجب أن تُستَعملَ كلُّ كلمة، تقريبا، في معناها البدئيِّ. منها التي، وهي عن بعضها تنفصل، تُصبح متعدِّدة الصُّور. ومنها التي تفقد الذَّاكرة. إنَّ كوكبة نجوم المتوحِّد مُتمدِّدةٌ.

 

سيسرق الشِّعر موتي.

 

لمَ القصيدة المهروسة؟ لأنَّه عند نهاية رحلتها باتِّجاه الموطن، بعد عتمة ما قبل الولادة والقسوة الأرضيَّة، يكون تناهي القصيدة ضياءً، يكون إسهاما للكائن في الحياة.

 

لا يَحتفظ الشَّاعر بما يكتشف؛ فبعد أن يكون قد دوَّنه، سرعان ما يُتلفه. في هذا تكمن جِدَّتُهُ، ولا نِهايتُه، ويكمن هلاكُه.

 

صِناعتِي صِناعةٌ أُولَى.

 

مع النَّاس نُولد، لا مُتأسِّين نموت بين الآلهة.

 

التُّربة التي تتلقَّى البذرة محزونة، والبذرة التي تعاني الكثير من الأخطار سعيدة.

 

من اللَّعنات ما لا تشبه غيرها. إنَّها تُبهر الأبصار في نوع من الكسل، ولها طبيعة جذَّابة، وتتَّخذ هيئة وجه تقاطيعُه مُريحة. ويا لطاقتها، بعد انفضاح الخدعة، يا للرَّكض رأسا إلى الهدف! هذا هو الأرجح، إذ أنَّ الظلَّ الذي تُجهِّزُ فيه خططها ظلٌّ خبيث، والمنطقة مخفيَّة بالكامل، إنَّها تُفلت مِن نداء، وتنسحب في الوقت المناسب. إنَّها ترسم على غلالة السَّماء بعيدة النَّظر، إلى حدٍّ، ترسم أمثالا مُفزِعة.

 

كُتب بلا حركة. لكنَّها كُتبٌ تندسُّ في لدانة داخل أيَّامنا، وتُطلِق منها عويلا، وتبدأ في الرَّقص.

 

 

الرِّفقة في البُستَان

 

ليس الإنسان إلاَّ زهرةَ ريحٍ يَحتجزها التُّراب، وتَلعنُها الكواكب، ويتنسَّمُها الموت؛ في بعض الأحيان، يرفعه التَّحالف بين العصف والظلِّ عاليا.

 

صَداقتُنا هي السَّحاب الأبيض المُفضَّل عند الشَّمس.

 

صَداقتُنا لِحاءٌ طليق. إنَّها لا تَنفصل عن مآثر حميَّتنا.

 

حيث الرِّيح لا تكفُّ عن اقتلاع الغرس، بل تجدِّده وترعاه، هناك أُولدُ: وحيث تبدأ طفولة النَّاس، أُحبُّ.

 

القرن العشرون: كان الرَّجلُ في أسفل الدَّرك. في سرعة تثقَّفت النِّساء وغيَّرن مواضعهنَّ، على شرفة ما كان يحقُّ دخولها إلاَّ لأعيننا.

 

بِوردة أَقترنُ.

 

يستحيل تسييرنا، السيِّد الوحيد المؤاتيُّ لنا: البرق، الذي يُضيئنا أحيانا وأحيانا يفلقنا.

 

الضِّياء والوردة، داخلنا، في زوالهما، لأجل إنجازنا، ينضافان إلى بعضهما.

 

مِن عشب أنا في يدكِ، يا مراهقتي الهائلة، أُحبُّكِ في ألف زهرة مُنقفلة.

 

هِبي البرعمَ، وأنت تفسحين له المستقبل، هِبيه كلَّ ألق الزَّهرة القاتمة. نظرتُكِ القاسية ثانية على ذلك تقدر. هكذا الصَّقيع لن يُتلفهُ.

 

لنمنع عنهم أن ينهبوا جزء الطَّبيعة الذي نحتويه. لنحتفظ بكلِّ سداة، ولنحتفِظ بكلِّ قطرة ماء.

 

ما كدنا، بعد انصراف الحصَّادين من هضبة ليل دي ­ فرانس، ما كدنا نضع هذا الصوَّان الدَّقيق والمنحوت والذي يطلع من باطن الأرض، ما كدنا نضعه في أيدينا حتَّى انبجست من ذاكرتنا نواةٌ معادلة، نواةُ فجر لا نرى، كما نعتقد، تبدُّلَه أو نهايته، نواةُ فجر لا نرى منه إلاَّ الخجل المهيب والوجه الحازم.

 

جُرمُهم: إرادة متلهِّفة على تعليمنا احتقارَنا الآلهةَ التي تقيم داخلنا.

 

المتشائمون همُ الذين يعظِّمهم الآتي. إنَّهم يرون في حياتهم موضوع تعلُّمِهم يُنجز. ومع ذلك فإنَّ العثكول، الذي تلا الحصَاد، فوق كرمته، يُعكِّفُ؛ وأطفال المواسم، الذين لم يتجمَّعوا حسب المألوف، يسرعون بتثبيت الرَّمل عند حدِّ الموجة. وهذا أيضا يدركه المتشائمون.

 

آه! يا للقدرة على النُّهوض على غير ما هو معهود.

 

قُولي، هل أنَّ ما نكونه سيجعلنا ننبجس في شكل غابة صغيرة؟

 

على الشَّاعر أن يترك آثارا عن مروره، لا أدلَّة. وحدها الآثار إلى الحلم تدفع.

 

 

المَنفَذُ

 

لقد أعتما:

 

النَّهار والضِّياء الدَّاخلي.

 

أيَّتها الكتلة المؤلمة

 

ما عدتُ أعثر على وقتي الحقيقيِّ،

 

على بيتي.

 

هملجة الأموات رديئيِّ الميتة

 

في كلِّ الفراغات ترنُّ؛

 

في سماء غائمة

 

كنتُ أعيِّن لي حدودا.

 

مغذَّى من طرف الذي هو من غير المكان،

 

خطوة خطوة، تقريبا تواسيتُ.

 

 

 

مليئة تصبح الكرمة

 

حيث منكبكِ يصارعُ،

 

الشَّمسَ البكر ذاتها.

 

نَتَسَاقَطُ

 

اختصاري دون قيد.

 

لثمات دعامة. أجزاؤك المبعثرة تكوِّن فجأة جسدا مُعمَّى.

 

آه يا ركامي الجرفيِّ المتراجع!

 

موثوقة بالكامل.

 

كما عشاء في مهبِّ الرِّيح.

 

موثوقة بالكامل. إلى الهواء مُرسَلة.

 

كما طريقٌ فوق الصَّخر مُحمرَّة. كما حيوانٌ هاربٌ.

 

عمقُ نفاذ الصَّبر والصَّبر ذو الخطِّ العموديِّ منذ هلان.

 

الرَّقص دائر. السَّوط حربيٌّ.

 

عيناك الرَّائقتان توسَّعتا.

 

تلك الكلمات اللَّطيفة الخالدة هي أبدا ثكلى.

 

اللَّبلاب في مقامه السَّاكن.

 

مقلاع كان البحر يقاربه. قامة النَّهار نقيضه.

 

خفِّضي ثقلك أكثر.

 

الموت يضربنا بقفا مذراته. إلى أن بان في داخلنا صباح معتدل.

 

طَلعَةُ اللَّيلِ

 

الزَّهرةُ التي أُدفِّئها، أُضاعِفُ بَتلاتها، أُعتِّمُ على تُويجاتها.

 

الوقتُ يُمزِّق ويَقطَع. وَميضٌ عنه يَنأى: مِديتُنا.

 

الرَّبيع يَحبسكَ والشِّتاءُ يَعتقك، يا مَوطنَ طفرات المَحبَّة.

 

النَّجم يعيد إليَّ نبلة الدبُّور التي تخفَّت داخله.

 

اسهَرْ، أيُّها الوجهُ المنحني. إنَّك تَروي قُلوبَ الماعزِ على قِمم الجبالِ.

 

لَنَا فِي ذَوَاتِنَا مَسَاحَاتٌ…

 

كلماتنا، على شاكلة الأرخبيل، تُهديكم، بعد الألم والفاجعة، تُوتَ الأرض الذي تعود به من جرود الموت، وكذلك أصابعَها المحترقة من البحث عنه.

 

أيُّها الطُّغيان، كما نهرٌ بلا موضع يجمع طميه، أيُّها الذي لا تُنيره الظَّهيرة أبدا، إنَّا لك النَّهار الذي قد هَرم؛ لكنَّك تَجهل أنَّنا، كذلك، أنَّنا العين النَّهمة، برغم أنَّها منذ البدء مستترة.

 

أن نبدع قصيدةً، فهذا يعني أن نتملَّك حياة ثانية عرسيَّة توجد بالفعل في هذه الدُّنيا، شديدة التَّعلُّق بها، وفي الوقت ذاته توجد على مقربة من مَرمَدة الموت.

 

وَاجبٌ، أَن نُقيم خارجا عن ذواتنا، على حافة الدُّموع، وفي فُلك المَجاعات، إذا كنَّا نريد لِشيء ما غيرِ عاديٍّ أن يحدث، شيء، ما كان ليحدث إلاَّ لأجلنا.

 

إذا كان الغمُّ الذي يُقوِّرنا قد هجر كَهفه الثَّلجي، إذا كانت الخليلة قد أَوقفت في القلب وابلَ النَّمل، فبإمكان النَّشيد أن يَنبعث.

 

في سَديمِ رُكامٍ حُرفيِّ، كان بإمكان حجارتين تقترنان ببعضهما عند القفز، كان بإمكانهما تبادل الحبِّ عاريتين في الفضاء. مَاءُ الثَّلج الذي ابتلعهما ذُهِل مِن تقلُّبِهما المحتدمِ.

 

لقد كان الإنسان بلا ريب نَذْرَ الظُّلمات الأكثر جُنونا؛ لذلك نَحن مُدلهمُّون، حسودون ومَسعورُون تحت الشَّمس النَّافذة.

 

كوكب أرضيٌّ كان جميلا بدأ في الاحتضار، تحت أنظار شقيقاته الجوَّالات، في حضور أبنائه الحَمقى.

 

*

 

لَنا في ذواتنا مساحاتٌ هائلة أبدا لن نَقدر على تَعقُّبها؛ لكنَّها نافعة لشَراسة مناخاتنا، ملائمة لانتباهنا وأيضا لِضَياعنا.

 

كيف نَرمي بقلوبنا السَّابقة في العتمات وبحقِّها في العَودة؟

 

الشِّعر هو تلك الثَّمرة التي نَضغط عليها، ناضجة، في بهجة، بأيدينا، في اللَّحظة التي تكون فيها قد بدت لنا، في مصير غامض، على الغصن الندي، في كأسِ الزَّهرةِ.

 

الشِّعر، طلعة النَّاس الوحيدة، الذي لا تقدر شمس الأموات أن ترمي به في عتمة اللاَّنهائيِّ والمطلقِ والهزلي.

 

*

 

أُحجيةٌ أَعظمُ مِن لعناتهم تُبرِّئ قُلوبَهم. لقد غرسوا في الزَّمان شجرة وناموا تحتها، وإذا الوقت جذَّابا يصير.

 

الحُبُورُ

 

تَحُطُّ السُّحبُ في الوِديان، تعبرُ السُّيولُ الفضاء. دون أسرٍ، تُولَدُ النَّهاراتُ حبَّات وتموت قبل أن تَنضج. زَمنُ الجوع وزمن الحصادِ، الواحدُ خلف الآخرِ في السِّيماءِ الرثَّةِ فسخا الفوارقَ بَينهما. معًا ينطلقان، معًا يَتعطَّلان! كيف يكون الخوف مُغايرا للأمل، أيُّها العابرُ المَثلُوم؟ ما عادت للبيوت عَتباتٌ، ما عادت هنالك أبخرةٌ في فَتحات الغاباتِ. سَقطت الرَّغبةُ في الهاوية المتحرِّقة، وكذلك سقط هذا القليل مِن العتمة خلفنا حيث كانت زهرة الرَّبيع في قَلَق حالَمَا كان المصير يُسبِل.

 

أَيُّها الجسرُ المنطلق إلى الغزواتِ، مُفتريا على المُنتصر، رَؤوفا بالمُنهزم، هَل سَنعرف، تحت قدم الموت، أنَّه ليس على القلب، هذا الكَدَّاسُ للسَّنابل، أن يسبق، بل عليه أن يَتَّبِع؟

 

انخِسَافٌ

 

للعنب مَوطنٌ:

 

أصابعُ قاطفةِ العنب.

 

وقاطفةُ العنبِ، مَن لها،

 

بعد عبور الدَّربِ الضيِّق إلى الكرمة القاسية؟

 

مِسبحةُ العنقودِ الوَرديَّة؛

 

هيَ الثَّمرة العاليةُ جدًّا،

 

التي في المساء الغارب تنزف آخر الألقِ.

 

غَابَةُ نَهرِ الإِبْتِ

 

ما كنتُ ذلك اليوم سوى ساقين تمشيان.

 

هكذا، جامدَ النَّظرة، بائسَ المحيَّا،

 

شرعتُ أتبع جدول الوادي الصَّغير.

 

عدَّاءٌ وضيع، هذا المتوحِّد التَّفه،

 

ما كان يتدخَّل في الذي لا شكل له،

 

حيث كنت دوما أتمدَّد إلى الأمام أكثر.

 

قادمتان من جدارٍ بِركن خرابة كان الحريق قد خلَّفها،

 

بغتة تغوصان في المياه العكرة

 

شجرتا ورد برِّيتان ممتلئتان مياه عذبة وإرادة صلبة.

 

كان يتخيَّل نفسه هناك من تجَّار الكائنات المنقرضة عشيَّة ظهورها ثانية.

 

الأجشُّ القرمزيُّ، في لطمه الماء أصلح

 

بين السُّحنة الأولى للفضاء وبين إدمان المسائل،

 

وأفاق الأرض في عبارات الغزل

 

ورمي بي إلى المستقبل ككائن جائع ومحموم.

 

على مسافة، كانت غابة نهر الأبت تبدأ في اتِّخاذ منعطف.

 

وما كان بمقدوري أن أجتازه، تاجر الحبوب العزيز ذو الأسعار المرتفعة!

 

كنتُ أستنشق، على الكعب نصف الدَّائريِّ، كنتُ أستنشق عفونة المروج حيث كانت دابَّة تلد،

 

سمعتُ ثعبان العشب المرتعب، سمعته يزلق؛

 

إلى الجميع ­ لا تعاملوني بقسوة ­ كنت أُتِمُّ، أدركتُ ذلك، كنتُ أُتِمُّ الأمنيات.

 

مُخَرَّمَاتُ بَلدَةِ مُنمِيرَاي

 

عند قمَّة الجبل، وسط الحصى، كانت أبواق الطَّفل المحروق، أبواق رجال الجَلَدِ القديم والأبيض، كانت تزقزق كما نسور صغيرة.

 

مع الألم الكثيف، إذا كان هنالك من ألم.

 

الشِّعر يحيا من الأرق الدَّائم.

 

يبدو أنَّ السَّماء هي التي لها الكلمة الأخيرة، لكنَّها تنطقها بصوت خفيض إلى حدِّ أن لا أحد أبدا يسمعها.

 

ليس هنالك من تراجع؛ هنالك فقط أناة الألف عام والتي عليها نحن نستند.

 

ناموا، أيُّها اليائسون، ناموا، قريبا نهار يطلع، نهار شتائيٌّ.

 

نحن لا نقدر على خداع الموت إلاَّ مرَّة: أن ننجز الإبداع قبله.

 

لا يمكن تجاوز الواقع إلاَّ بإثارته.

 

في عصور المحنة والارتجال، ما قُتل البعض إلاَّ من أجل ليلة والبعض من أجل الأبديَّة: من أجل غناء قبَّرة الأعماق.

 

البحث عن شقيق يعني دائما، تقريبا، بحثا عن كائن، مثيل لنا، نرغب أن نهبه تساميا نحن بالكاد انتهينا من تقويم علاماته.

 

الضَّريح المستقيم: كومة من الحبوب. البذرة في الرَّغيف، القشَّة للسَّماد.

 

لا تنظروا إلاَّ مرَّة واحدة إلى الموجة في البحر ترسو.

 

ليس الخياليُّ بريئا، إنَّه لا يفتأ يرحل.

 

لا يتأبَّد العظماء إلاَّ من قِبل العظماء. نحن عن ذلك نغفل. المعيار الوحيد مكدوم.

 

 

ماذا يكون السبَّاح إن هو ما أتقن التَّسرُّب كاملا تحت المياه؟

 

بقبضات كانت للَّكم صنعوا أياد هزيلة للعمل.

 

الأمطار العنيفة تُحابي العابرين الحميميِّين.

 

الأهمُّ هو من يرافق رَكبَنا، في الوقت المناسب، ممدِّدا الطَّريق. والأهمُّ أيضا مصباح لا يضيء، وسط العثن.

 

كان الخطُّ الأزرق الشَّبيه بنار القمم، والمتعجِّل، والمسنَّن، والرَّائع، خطُّ جبل فانتو، وكان إذَّاك صغيرا، كان على الدَّوام يعدو فوق جبل مونمِراي إلى حدِّ أنَّ حبَّنا كان يسحبني إليه وعنه كان يبعدني.

 

أنقاض ملوك ضراوتها حصينة.

 

للسُّحب مقاصد مُحكمة الغلق تماما كما التي للبشر.

 

ليست المعدة هي التي تطالب بالحساء السَّاخن، بل القلب.

 

سبات على الجرح كأنَّه الملح.

 

تطفُّل يتعذَّر وصفه نَزع عن الأشياء، عن الظُّروف، عن الكائنات، نزع مصادفاتها البارقة. بالنِّسبة إلينا لا وجود لتولٍّ إلاَّ بدءا من تلكمُ البارقةِ. هذي التي لا تتحصَّن.

 

ذاك الثَّلج، وقد كنَّا نحبُّه، ذاك الثَّلج ما كانت له طريق. كان يكتشف جوعنا.

 

المترجم: محمد بن صالح

ضفة ثالثة

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى