الجثة بين ترجمتين
روجيه عوطة
ثمة تشابه بين حادثة تزوير خطاب محمد مرسي في قمة عدم الإنحياز التي عقدت في إيران، وتحريف سيرة نبي الإسلام في المقطع الفيلمي المعروف باسم “براءة المسلمين”، بحيث يستقيم التقاطع بينهما من حيث الوسيلة المعتمدة والغاية المرجوة من توظيف الحدثين دعماً لنظام البعث السوري، المسيء إلى البشرية إنسانياً وسياسياً.
بينما كان الرئيس المصري يتحدث في خطابه عن الثورات، حذف المترجم الفوري على القناة الرسمية في إيران عبارة “سوريا” واستبدلها بـ”البحرين”، وحذف “الربيع العربي” واستبدله بـ”الصحوة الإسلامية”، كما أسقط أسماء الخلفاء والأئمة من ترجمته، فضلاً عن تحريف كامل لموقف مرسي حيال نظام الأسد، من تأييد الثورة السورية إلى الولاء للبعث. بدا واضحاً وبديهياً للكثير من المراقبين، أن النظام الإيراني تعمّد هذه الترجمة وتقصّد مطابقة خطاب مرسي على خطابه الموجّه إلى المجتمع الإيراني.
من ناحية أخرى، تتحدث آنا غورجي الى صحيفة “دايلي ميل”، وهي الممثلة الرئيسية في فيلم “براءة المسلمين”، العنصري والرديء خطابياً وسينمائياً، أن صانع الفيلم خدعها، مثل باقي زملائها الممثلين، فدبلج السيناريو المكتوب انطلاقاً من قصة وقوع نيزك في منطقة الشرق الأوسط وتنازع عدد من القبائل عليه ظنّاً منها أنه مقدس. غير أن الرجل حرّف قصة الفيلم لتصبح مستفزة وناعرة دينياً وسياسياً على السواء، ما أدى إلى اندلاع الإحتجاجات الغاضبة في بلدان عدة، التي انجرف بعضها إلى العنف الموجّه ضد أهداف بشرية بريئة، فنجح الصانع، وهو نموذج الإسلاموفوبي والصهيوني الساذج، في إثارة النزعات وتشويه صورة الشارع الإسلامي من خلال خداعه الممثلين بالترجمة التحريفية.
يستوي التقاطع بين الترجمتين في سياق توظيف الدعاية النظامية في البلدان المناوئة للثورات الشرقية. فـ”الصحوة الإسلامية” التي تحدثت عنها الترجمة الزائفة في قمة عدم الإنحياز، تجد معناها في التظاهرات المنفلتة من عقال التنديد والإحتجاج السلمي، التي اعتدت على السفارات والبعثات الديبلوماسية، فينصرف الربيع عن حريّته ليصبح غوغائياً دينياً، لا صحوة فيه، بل ذهاب بأزمة المجتمعات إلى أقصى أطرافها البربرية. وكما تستبدل الترجمة ثورة الكرامة السورية بثورة اللؤلؤة البحرينية لغاية سياسية استبدادية واضحة، لا علاقة لها بالدفاع عن حرية الشعب البحريني، تستبدل دبلجة الفيلم، ونتائجها الإحتجاجية، الثورتين ببربرية تتقصد الأنظمة المناهضة للتغيير تصويرها على أنها خلاصة الثورات في الشرق، وتتوجه بهذا الخطاب التحريفي إلى خصومها السياسيين وتسدي إليهم خدمة المحافظة على التوازن في الصراعات الإقليمية والدولية التي تدور بينهم. يصل التطابق بين الترجمتين إلى أوج دلالته، في الخبر الذي تناقلته وسائل الإعلام، أي القبض على عدد من المعتدين على السفارة الأميركية في بنغازي، والتحقق من علاقتهم بتنظيم “القاعدة”، وترحيل بعضهم إلى سوريا بعد الكشف عن جنسيّتهم السورية. تالياً يلمح نظام البعث السوري إلى أن استمراره في الحكم هو الضمان الوحيد لمصالح النظام الأميركي في سوريا، التي ما إن يسقط البعث فيها حتى يجتاحها البربريون والغوغائيون، الذين يقيمون في زمن الكهوف المظلمة ويتماثلون مع الصورة الرائجة للإرهابي الطالباني المختبئ في ملجئه الحجري في جبال أفغانستان التي يحذر البعض من تحوّل سوريا منطقة إرهابية مثلها أو مثل تلك الصحراء التي أظهرها الفيلم العنصري كأرض للدم والعنف الدائمين.
وبما أن الثورة السورية هي الركيزة الدلالية لكل خطاب نظامي في الشرق، فمن الممكن تحديد موقع كل ترجمة بحسبها. إذ يتضح أن الترجمة الأولى، في قمة عدم الإنحياز، هي كناية عن محو سوريا وشعبها المذبوح. أما الترجمة الثانية، فهي استعارة عن خراب الممحو إذا ظلت بعض أجزائه حاضرة خارج سياسة الزوال، التي بارك بشار الأسد اتباعها ضد ثورة اللؤلؤة في البحرين. بمعنى آخر عكسي، سوريا الترجمة العنصرية والبربرية، هي ما سيؤدي إليه خروجها من ترجمة المحو، وفي الترجمتين، يمثل طرفا الإزالة والدمار بالجثة السورية، إما ببراميل البعث المتفجرة، الشبيهة بالترجمة الأولى، وإما بإدخال التنظيمات المتطرفة المعادلة الإقليمية وتفعيل دورها العنفي في سوريا، وهذا يماثل الترجمة الثانية، التي تحافظ على توازن سياسي بين الأنظمة المتصارعة بحجة درء الفتنة المزعومة استشراقياً بين الحضارات. تقع الثورة في سوريا، وكل الثورات الأخرى، بين هاتين الترجمتين، وتُحاصر من كل الجهات بممارسات فجة، ثبتت فضائحيّتها بالقطيعة المستحيلة بين الخصوم الدوليين الذين تواطأوا على مضاعفة موت الجثة السورية في خطاب “الصحوة” وفي صحراء الإسلاموفوبيا على السواء. ففي زمن تهاوي الأبد، يتصحر الخطاب كي يصبح مقبرة.
النهار