إحسان طالبصفحات سورية

الجذر الأيديولوجي لانحيازات الثورة السورية


احسان طالب

إن الاصطفاف الأيديولوجي دون اعتبار حقيقي لقيم الحرية والديمقراطية والإنسان، يتسبب بانزلاقات سياسية خطيرة ويديم الصراع، وعندما لا يكون الهدف تحقيق الأفضل بل هو تحقيق المطلوب المحدد، نكون أمام أزمة مستدامة، وإذا كنا غير متفقين على الأفضل، فإننا بلا شك مختلفين حول المطلوب الوصول إليه، فإعادة تقويم الحدث وفق معايير ثابتة ونماذج مسبقة دون الأخذ بالنظر إلى تطورات الحدث أو تشكله وفق أنماط مستحدثة ومستجدة سوف يتسبب بإعادة التجربة وفق الشروط السابقة ما سيؤدي إلى تكرار ذات النتائج التي رغبنا بتغييرها.

يتحرك كثيرون ممن كانوا عادة من دعاة احترام حقوق الإنسان والمناضلين في سبيل حقوق المرأة والطفل عندما تنتهك تلك الحقوق جزئيا أو كليا، إلا أنهم صموا وعموا أمام ما يحدث في سوريا، بل وانحاز بعضهم لصف الجاني ودافع عن المجرم، وبدا جليا في سياق الصراع الجذر الأيديولوجي لمواقف التأييد أو الاحتجاج بعيد عن الجذر الإنساني والقيمي، من هنا التبست المواقف بخصوص الحدث السوري الراهن المتمثل بثورة جماهيرية تطالب بتغيير جذري لنظام حكم شمولي عائلي يحكم سوريا منذ ما يربوا على أربعة عقود أثبتت الأحداث الدائرة في البقاع السورية مدى انفصال الشعب عن حكم متشبث بسلطة يراها أبدية لا مجال لتغييرها أو تصويب مسارها، كما تؤكد الأحداث من جهة أخرى الصلابة والصرامة والشدة البالغة لتمسك حكام سوريا بالهيمنة المطلقة على مقدرات البلد والناس مهما كلف ذلك من أثمان باهظة بالأرواح والممتلكات، وبالسلم الأهلي والوفاق الاجتماعي المهدد بصورة بالغة بسبب تنازع إرادتين بدا للبعض أنهما متعادلتين إلا أنهما ليستا كذلك، الإرادة الأولى هي إرادة الشعب الباحث عن الكرامة والحرية ونظام حكم يشبهه، والثانية إرادة سلطة حاكمة تخلت عن ماء وجهها ورمت بكل أقنعتها واستخدمت كل ما لديها من بطش وقوة وعنف وصل درجة تصف فيه منظمة العفو الدولية سلوك النظام : “تصاعد مروع في عمليات القتل والتعذيب والاحتجاز التعسفي والتدمير المتعمد للمنازل في سوريا يدل على مدى الحاجة الملحة إلى اتخاذ إجراءات دولية حاسمة.” كما وصفت قواته الخاصة ومناصريه ومؤيديه وجنوده بالقول : إن “الجنود وميليشيات الشبيحة أحرقوا المنازل والممتلكات وأطلقوا النار بشكل عشوائي على المناطق السكنية، ما أسفر عن مقتل وإصابة مدنيين من المارة، في حين أن من يعتقل يتعرض للتعذيب بصورة روتينية وأحيانا القتل، بما في ذلك المرضى وكبار السن،” لقد أصدرت منظمات حقوق الإنسان والمنظمات الأممية عدة تقارير أفادت بالدلائل القاطعة وجود جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب ارتكبها النظام السوري بحق الشعب السوري

(وقالت دوناتيلا روفيرا وهي مستشارة الأزمات في منظمة العفو إن “هذا دليل جديد مثير للقلق من نمط منظم من الانتهاكات الجسيمة يسلط الضوء على الحاجة الملحة لاتخاذ إجراءات دولية حاسمة لوقف موجة الهجمات على نطاق واسع ضد السكان المدنيين، بما في ذلك جرائم ضد الإنسانية وجرائم حرب) رغم ذلك يتنطع عديد من المثقفين العرب للدفاع عن السلطة ونعت الشعب السوري بالمرتزقة أو الإرهابيين أو الرعاع، وفي ذلك تجنب للحقيقة ودفاع عن الجريمة الممنهجة والمنظمة بل دفاع عن إرهاب دولة بحق شعب كامل.

لا يمكن تجاهل الجذر الأيديولوجي للصراع الحاصل في سوريا ، فعلى الرغم من كشف بنية النظام السوري القائمة على الفساد واحتكار السلطة والثروة بيد فئة ذات صبغة عائلية إلا أن انخراط نظام الأسد في المشروع الإيراني غدا محل تمفصل وتركيز في مجريات الحدث السوري الراهن.

يتساءل عامة الشعب السوري عن سبب معاداة جماهير حزب الله في لبنان والعراق للثورة السورية ويتعجبون كثيرا من الدفاع المستميت الذي يبديه كتاب ومثقفوا المقاومة المزعومة للعنف والتصدي الوحشي للمظاهرات السلمية ويجاهدون ليثبتوا أن معظم الحدث السوري مفبرك ومغرض في حين يقف خطباء الجمعة في إيران يصدرون الفتاوى بوجوب الجهاد لحماية نظام الأسد .

بدأت واستمرت وتعاظمت الثورة السورية من جذر وطني إنساني، يبحث عن الحرية والكرامة والعدالة والمساواة وسعى ثوار ومعارضون لإبقائها كذلك ، إلا أن الاصطفاف الأيديولوجي المنحاز لخلفية دينية مذهبية في مواجهة الثورة في كل من العراق ولبنان المجاورين وإيران، القريبة البعيدة، أرغم الجميع على استقطابات دينية مذهبية في حين ما زالت الثورة السورية في جوهرها محافظة على تمحورها الوطني واستقطابها الإنساني رغم ما يعتري المسار من شوائب وزلات أفرزتها ممارسات سلطوية قاهرة وتدخلات خارجية منحازة،

إن تداخل الأيديولوجيات بالدين أمر بدهي ، فالمنظومة الدينية هي في حقيقتها منظومة أيديولوجية صارمة، كما هو الحال في النظريات الفكرية المرتبطة بأنظمة حكم كالنظرية الشيوعية أوالقومية ، وإذا كانت الأيديولوجية الدينية تتمتع بقدر من البراغماتية، التي تضادها وتناقضها، إلا أن التفسير البشري للنص الديني أتاح على مر العصور فرص دائمة لإيجاد مخارج ومسارب يمكن من خلالها تحقيق مواءمة بين الأصالة والمعاصرة رغم ما يعتري تلك المهمة من صعوبات تاريخية، لكنها تبقى قيد الإمكان وفي حيز المشروع القابل للإنجاز، ربما كان الحال مماثلا لتوصيف الأيديولوجية الماركسية باعتبار مؤسسيها عوملوا كأئمة معصومين وعوملت نصوصهم كنصوص مقدسة، ما أفرز جمودا ومنطقا أيديولوجيا يعيد معيارية الحكم على الأمور ( للدزاين ) لنموذج مسبق وقوالب جاهزة مقياسيه توزن بها الحوادث والظاهرات ، ولست أدري إلى أي مدى يمكن تحلي الأيديولوجيين بالمرونة الكافية لمواكبة الظاهرات الجديدة ، ظاهرة الثورة السورية نموذجا ، بحيث ترتقي المدارك المعيارية للتحرر من الأنموذج المسبق المعتبر الأفضل والأكمل، والوصول إلى مستوى من الحرية والتحرر يسمح لوعينا بادراك ما هو الأفضل دون حكم مسبق أو إرادة مستلبة.

كل سعي لاختزال الثورة السورية باصطفافات أيديولوجية دينية أو وضعية، سينعكس صراعا دمويا حادا سيهزم فيه الجميع وسيكون الخاسر الأكبر فيه هو الوطن والإنسان.

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى