الجسد والمكان والرغبة
علي جازو
ليس بجديد قولنا إنّ فرادة الجسد تكمن في تجدد طاقته، في انبثاقه المتقدم وعريه الغامض. يأتي الجسدُ مزوداً بذاكرة من حركة سابقة حتى إذا لم يحرك الجسد ساكناً، وهذا الجسد الطاقيّ زمنٌ مطوي في قوة الحركة هذه، وطاقة الانتظار الذي يشغل الجسد انتظارٌ لتفتح الجسد في الجسد كتفتح برعم من شجرة. والجسد الراغب هو كلّ الجسد وجسد الكلّ، والزمن الذي يرهن ويرهق الجسد يحرق الانتظار، وليس الانتظار سوى جسد الجسد، كما هو التراب لحمُ اللحم وكما هي الساعة ماء الوقت السائل. إذن فالجسد محترق، ومبعث نور، وآلة رماد، ومشعل اخضرار. ونحن نحس بامتلاء الجسد كسؤال للرغبة في مجرد البنية المتعوية للجسد المنفتح؛ إذن هناك جسد آخر، وهذا الآخر فراغ قيد الوصل وجسر قيد البناء. إن الجسد بذلك معنى ناقص ووسيط عندما يكون راغباً في مبنى خارجه، وهو يراقب ويعاني امتلاءه بمعاني النقص كلما امتلأ بالرغبة، فهو يؤكد بذلك أنه ليس سوى جزء لأنه زمنٌ وحركةٌ داخل كل الزمن والحركة ككل. على هذا النحو فالجسد، على عكس ما أكدناه منذ قليل، جزئي في كليته الراغبة وكامل في معنى نقصه وجهة رغبته. الجسد هو الفضاء الذي تقدم فيه الرغبة ناقصة غير مكتملة. الرغبة فضاء الجسد والجسد عناء الرغبة، فماذا تعني والحالة هاته عبارة الجسد الكلي سوى التأكيد على أن الكل الموحد ينطوي على خصوصية كل جزء وبعده. إذا كان الجسد ناقصاً غير مكتمل، فهو يقيم في الرغبة الممتلئة، ولكنه يقوم على الحاجة والنقص والعوز، فالشهوة التي تشعل الرغبة ليست سؤالاً قدر ما هي خروج من الجسد إلى جسد آخر، سيرٌ وزحف ودخول وذوبان وتشكل وتجدد واكتساب. ويشكل الآخر هنا تقدماً وانفصالاً لسؤال الجسد وكماله. وما إن نتقدم داخل فاصلة الجسد إنما نضفي على التقدم حسية ملموسة. وإذا كان الجسد ناقصاً بما هو رغبة وحركة، فهو كامل في الجسد الآخر بما هو تلبية للرغبة وتسكين للحركة، فالحركة هنا نشاط قدر ما هي اضطراب، والتسكين احتفاء بالنشاط قدر ما هو تهدئة للاضطراب. ليس الجسد ناقصاً بما هو رغبة، إنه على العكس من ذلك، رغبةٌ تكتمل عندما تصفح عن نقصها وعوزها، عن انفصالها المضطرب. إن الرغبة تضع الجسد الذي هو زمنٌ مادي ملموس محل السؤال بما هو تجريد ذهني عن حركة حيوية داخل فحوى المادة، فتسمه بالغموض والثراء بفضل هذه الرغبة التي تظل تطلب وتؤكد في الطلب؛ الطلب الذي سوى شهادة مزدوجة على الميل والنقص. إن الجسد ليس القدرة، بل هو أيضاً النقص في القدرة، ولا ينبغي فهم ما سبق على نحو متناقض. فالتناقض سهل الملاحظة، لكن قوته مضمرة وقدرته منبثة في هذا الإضمار القلق، وهذا ما يجعل الجسد ظاهراً ومختفياً في آن واحد، كاملاً وناقصاً كعبور الساعات وتعاقب السنين، غير أن التعاقب لا يناسب الزمن كجسد، فالجسد وعاء للتعاقب وليس ميزاناً، وهو يقيس العبء دون حساب، فتسجيله للزمن نوعيٌّ في حين ينأى الزمن نحو كينونة كمية منغلقة، ولا شيء يؤلم الجسد سوى الانغلاق. وليس أدل وأكثر إغراء من الرغبة في جسد آخر، حتى يظهر الجسد قدرته ونقصه واحتفاءه وبهاءه في وقت واحد، وهو بذلك يؤكد على الامتنان الذي لا يقدر بثمن إذ ينقذه الجسد الآخر من الذوبان في تناقض بلا مخرج. وليس خروج الجسد من حالة الانتظار كسؤال وتوق إلى مرتبة جسد آخر من الرغبة كنقص خروجاً نهائياً، فما ينشأ هنا بين جسدين تجاوزا زمن الانتظار كفيل بخلق جسد لا يشبه أحدهما ولا يشبه الآخر. فهو ليس حاصل جمع مادي صرف قدر ما هو نتيجة وإزهارٌ وتوليد وملئ للمسافة التي تفصل وتقرب جسدين من بعضهما، والتوليد هذا لا يفضي إلى تكوين جسد ثالث قدر ما يسمح له في الامتداد خارجه داخل الرغبة بما هي نقص وحاجة، اكتمال وامتلاء. وهذا الامتداد داخلي كما هي حركة الجسد داخلية. نحن لا نعرف الجسد قدر ما نحمله، وهو بذلك وزرٌ وسؤالٌ ملح، ولا يمكن لمعرفتنا له أن تبدأ دون إحساسه بجسد آخر، دون تخلصه من الحمل بالغرق في قوة الحمل ذاته، فالجسد مزدوج بسبب الشقاء في حمل لوح الزمن وبهي بسبب الرغبة التي لاتعرف زمناً حابساً، فهو ناقص لأنه قادر، وسائل لأنه راغبٌ، ولا يمكن لازدواجه أن يفك دون خلط ومزج، فحينما يبدأ الجسد بخسارة حد من حدوده إنما يكتسب من حدود الجسد الآخر سمة، وهذه السمة ليست تتعلق بذكورة أو أنوثة، فهما معطيان طبيعيان، غير أن طبيعتهما المختلفة تمنحهما طبيعة ثالثة لا هي مذكرة ولا مؤنثة، وعلى هذا يمكن للرغبة المطلقة أن تلتقي مع صرخة ملاك سجين رقّته ولا انتمائه. وليس الملاك بحل ملغٍ للجسد قدر ما هو ابتكار له، ولا يمكن للابتكار أن يسعف كل جسد، فكل الجسد ناقص، وهو لا يقترب من نقصه إن لم يكن من قبل قد تغذى من بذرة مزدوجة ومهجنة، فالهجين هنا إعادة تذكير بنقاء بدئي مرغوب ومستحيل، وما يطلبه الجسد من المستحيل هو ما يسأله جسد إلى جسد، وليس للسؤال مكان سوى الجسد الذي يحركه السؤال، وعلى هذا يكون الجسد مكاناً طالما كان سؤالاً ونقصاً ورغبة وحيرة وحظوة. وإذ نحمل الجسد إنما نعتل السؤال القلق إلى فم المكان المطمئن الجامد المستقر، وهذا المكان لا ينطق إن لم يكن جسداً، إذن فالجسد كلام المكان والمكان صمتٌ منتظرٌ يصغي إلى جسد ناظرٍ، ولا يمكن للكلام أن يوجد دون رغبة، وهذه الرغبة صمتٌ يتكلم ويتقد ويتحرك من جسد إلى جسد كما يتحرك نسغ ويرتقي من وراء لحاء. كلّ رغبةٍ ريانةٌ، وهي تُنحَتُ وتندغم بصمت الجسد وصمت المكان وصمت النار، وقد انضووا في قلب الزمن مثلما تعمل النواةُ متحركة برسوخٍ، بحياء، من لبّ الثمرة.
المستقبل