حمّود حمّودصفحات الرأي

“الجغرافية الملعونة”: أصولياً وقومياً، لكنْ أيضاً طائفياً/حمّود حمّود

 

 

ربما كان أفضل تعبير يمكن أن نطلقه اليوم على الصراعات الإسلاموية التي تشهدها بيئة المشرق المريضة هو «حروب النماذج الأصولية»، حربٌ لا ضد أعدائها «الغرباء» (= الغرب، على الأقل، كجهة إثنية، لكن دينياً) فحسب، بل كذلك ضد الجماعات الفرعية في ما بينها والمتهيكلة وفق مرجعيات دينية متقاربة، أي الجماعات المنسلّة كلها من داخل نظيمة أصولية عريضة واحدة. وسورية اليوم هي من أهمّ البلاد المشرقية التي تعاود البرهنة على أصالة الأصولية بعد أن تحولت من بؤرة في الأصولية القومية إلى بؤرة في الأصوليات الدينية. فإذا كانت في يوم ما تستبسل وراء مقولات قلب العروبة النابض في عالم عربي لا قلب له إلا دمشق، فإنّ نبضها اليوم أخذ جهة دلالية أخرى: النبض الأصولي، لكن النبض الذي يثبت مقدرة أقوى في اجتذاب معظم أشكال «القبعات الأصولية»، أياً كان اللون أو الرائحة.

في يوم ما كانت سورية تُعتبر من أهمّ البلاد العربية «المقطّرة»، كولونيالياً؛ وكلّ من يؤمن بهذه الدولة فهو «مثقف مُقطّر»! (كما أفاد عمالقةٌ في التنظير القومي). وكان من أهم سمات هذا «التقطير» هو التسخيف لا بالثقافات المتعددة فحسب، بل كذلك التحقير بالجغرافية والحدود لصالح «حدود أُميّة» أوسع («أميّة» من أمة)، حدود مرنة أكثر: حيث بالإمكان فيها «اقتصاصُ» بلاد و «زرع» بلاد، وذلك فقط بجرة مخيال (من «أمة عربية» إلى «أمة إسلامية»، أو بالعكس، لا فرق). ما هو مهمّ في هذا التقطير أنه لا يوجد بالمعنى الأيديولوجي أية جغرافية. وما «القطر العربي السوري» إلا مرحلة موقتة على طريق الأمة الشاملة. أما اليوم، فإنّ زوال الجغرافية يجد تجسيده على نحو أقوى، لكن وفق خريطة الأصولية (ربما الواسعة أكثر من خرائط القوميين). وإذا ما وضعنا في الاعتبار نقـــطة بالغة الأهمــــية بأنه لا يمكن لجغرافية مقدس الأصولي أن تُقسم بحدود دولة، فإنه من المهمّ إدراك ذاك التلاقي اللاعرضي في نفس البقع الجغرافية بين المخلوقين الكبيرين: الأصولي والقومي، اللذَين لم يكلا وهما يتبادلان الأدوار في اللعب والحكـــم بالــــدم، من جـــهة، وأنّ سمة اللادولة هي من إحدى أهمّ سمات جغرافية الديانة القومية والأصولية، من جهة ثانية.

هكذا، فإن من السهل إدراك كيف تتحول الجغرافية الملعونة إلى سوق في تفريخ وجلب الأصولية. سورية اليوم تثبت، بالفعل، أنها غدت لا ملعباً للسياسيين فحسب، بل حتى «سوقاً أصولية» كبرى: حيث تمازج المقدس والسياسة يأخذ أشكالاً فريدة في تاريخ الأصولية؛ ومن الصعب ضبط هذا التمازج، نقدياً، وفق المعـــطيات التي تقـــدمها الحروب الأصولية، أو على الأقل إلى هذه اللحظة في ظل ثقل الحدث الدموي الجاري في هذه البلاد.

إلا أنّ نظرة فاحصة، وسريعة، تكشف أنّ من أهمّ سمات هذه الحروب اليوم، ذاك التداخل الآخر المرعب: بين الحوامل الأصولية من جهة، والحوامل الطائفية من جهة أخرى. حيث تبرز هذه الحوامل، مجتمعةً، وكأنها من أهم ما يسيّر قوى «حرّاس السماء» على الأرض. وإذا صح، نقدياً، ما اقترحه مرةً بسام طيبي في الاصطلاح الذي نحته Ethno-Fundamentalism الذي ناقش فيه حالة اندماج العامل الإثني بالأصولي (على رغم أنّ هذه النقطة بحاجة إلى تفحص)، فإنّ المشرق، اليوم، وسورية قلبه، يشهد حالة اندماج بين المظهر الأصولي والطائفي: تُعاد مأسسة الطائفة أصولياً، وتُبعث الأصولية من خلال كاريزما الجماعة، أي الجماعة الطائفية، لكن مع الإصرار على «قتل الجغرافية».

وإذا كان من المهم إدراك أنّ أشد ما يُسند الصعود الأصولي هو العامل الطائفي، وبخاصة في ظل حروب المقدس والمعنى، على الصعيد الاجتماعي والثقافي والسياسي، فليس من المفاجئ إذا ما رأينا الجغرافية وهي ممحيةٌ تماماً من خريطة الطائفي لصالح جغرافية مخيالية هي «جغرافية الطائفة»، والتي هي الأخرى لا تقوم إلا في زواريب التاريخ وعلى هوامش الدول. من هنا لا نجد من الغريب، والحال هذا، أنّ سمة لعن الجغرافية كما أنها تنطبق على جغرافية الأصولي، فكذلك الأمر تنطبق على جغرافية الطائفي. إنّ الجهاد، أو الحرب المقدسة، باسم هذه الجغرافية من إحدى أهم الوسائل لا للحفاظ عليها فحسب، بل لإحيائها وبعثها كذلك. وبالفعل، إننا نشهد حالات انبعاث للأصولية لا يعاد إنتاجها وفقاً لاستحقاقات البارادايمات الأصولية فقط، بل وفقاً لما تتطلبه «جغرافية الطائفة» الخالية من أيّ ترسيم حدودي.

من هنا أهمية النظر إلى الجهاد من زاوية هذه الجغرافية (جهاد «حزب الله» و «الدولة الإسلامية في العراق والشام»، و «جبهة النصرة»…الخ ليسوا سوى أمثلة قليلة عن لعن الجغرافية والدولة). لهذا من الطبيعي أن تكون سورية محجاً لصراع الطوائف (وقد تنبأ باحثون أميركيون سابقاً أن الحرب بين السنة والشيعة هي التي ستصوغ الصورة النهائية للشرق الأوسط. ويأتي هذا بعد أنْ صُرعت الرؤوس في التشنيع على «الشرق الأوسط الجديد» الأميركي. لكن ها هم اليوم أصوليو-طائفيو هذا المشرق هم الذين يقومون بصناعة شرق أوسط جديد «يشبههم»). وفي الواقع، إن الذي أثبته المشرق أنّ حروبه المقدسة المديدة عبر التاريخ لم تكن سوى الترجمة الفعلية لقوة المقدسات الطائفية فيه، لم تكن سوى الترجمة لقوة الطوائف على حساب بناء الدولة.

نشير أخيراً، سريعاً، إلى نقطة ترتبط بهذا الإشكال. لطالما تحدث مستشرقون عن المعنى الكثيف الذي تتخذه لفظة «الهجرة» في الفكر الديني المشرقي: الهجرة لا بمعنى الانتقال من مكان إلى آخر، بل من الناحية الإيسكاتولوجية، حيث الهجرة «بحثاً عن المقدس»، عن إشباعه، عن الحرب أو الجهاد باسمه…الخ، وذلك بغية تحقيق الخلاص الأخروي (من هنا دلالة من تلقّب من الحركات الأــــصولية فــــي العصر الحديث بلقب «المــــهاجرين»). لكن من المهم إدراك أنه لا يمكـــن تحقـــيق الهــــــجرة وهناك شكل واحد من أشكال الجغرافية أو الدولة. اليوم، تثبت ســـورية، مــــرة أخرى، امتلاءها بـ «المهاجرين» المعبأين بالعنف والدم، سواء من داخل محيطاتها الثقافية أو من خارجها، تثبت أنها في حلٍّ من الدولة على يد الجهاديين المهاجرين، لكنْ أيضاً الدولة التي كان الــــقوميون في يوم ما هم من يلعنون قطريتها السايكس-بيكوية.

* كاتب سوري.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى