صفحات سوريةعمر قدور

الجماعات السورية إذ تحاصر الثورة/ عمر قدور

 بدل الوعود التي بدأت بها الثورة، والتي كانت تبشّر بانبثاق الوطن السوري على أسس المواطنة، صار واضحاً نجاحُ النظام في دفع الجماعات السورية إلى الانكفاء على ذاتها. وما تحاشى الكثيرون من السوريين الإفصاح عنه في مستهل الثورة، رغبةً منهم في تجاوز آثاره المدمّرة على النسيج المجتمعي، تعيّن عليهم مواجهته بأسوأ صوره ومن دون تهيّؤ له. في المحصلة بات من شبه المؤكد أن الجماعات السورية كانت أسبق من السوريين كأفراد في الحصول على قدر من الحرية، أو الانفلات، على حساب حرية المواطن التي تنادوا من أجلها بدايةً.

صار وراءنا القول بأن النظام عمد إلى وصم الثورة بالطائفية منذ الأيام الأولى، لأن مسؤوليته عن تخريب الاجتماع السوري أسبق من اندلاع الثورة، وهي معروفة لمن يريد حقاً تقصي ما أحدثه حكم البعث خلال نصف قرن من التغني بالشعارات القومية والعمل الفعلي على العصبيات ما قبل الوطنية. النجاح الذي يسجّل للنظام وقمعه الوحشي يتجلى في قدرته على محاصرة الثورة على صعيدين؛ الأول محاصرة الثورة طائفياً وإثنياً، والتالي محاصرتها على الصعيد الجغرافي.

فأولاً ينبغي عدم إنكار قدرة النظام على تحويل كذبته واقعاً، وأتى تقديمه لنفسه كحامٍ للأقليات بثماره لدى الجمهور المستهدف منها، لا يقلل من حجم نجاحه اصطفاف بعض مثقفي “الأقليات” مع الثورة، والذين لاقوا ضغوطاً شديدة من طوائفهم أو إثنياتهم. هنا لا ينبغي النظر إلى موالي النظام بوصفهم تكتلاً أقلوياً جامعاً، لأن النظام كان يخاطب الجماعات الأقلوية سراً قبل الثورة كلّ منها كجماعة منفصلة وهذا ما تعزز بعد الثورة، أي أن مخاطبة النظام لكل جماعة تؤكّد على استقلالها الخاص، مثلما يؤدي وصمه للثورة بالطائفية إلى التأكيد على استقلال السنّة كجماعة. وإذ يصعب على الأكثرية في الأصل أن تتحول إلى جماعة متماسكة فعلاً فقد تولى القمع تفكيكها ميدانياً، من خلال محاصرة البؤر الثائرة والاستفراد بكل منها على حدة، فباتت “الأكثرية” أمام سياقين متعارضين؛ أن تُبنى كجماعة على المستوى الرمزي، كما يروّج النظام وحلفاؤه والتيارات الإسلامية فيها، وأن تتفكك على المستوى العملي بما يسمح باستقلال كل فئة منها، وبخاصة استفادة الفئات الأكثر  تطرفاً لأن التطرف يتغذّى من الانعزال.

كان متوقعاً لو سقط النظام قبل سنتين مثلاً أن تستغل الجماعات السورية مناخ الديمقراطية للتعبير عن مصالحها، ولكن ربما كان ذلك سيحدث ضمن مناخ التنافس الديمقراطي الذي يتيح أيضاً للأفراد الانتظام في مجموعات وطنية. إلا أن فقدان النظام سيطرته على مناطق جعلها معزولة ومحاصرة أفقد الأفراد المعنيين القدرة على الانتظام ضمن تشكيلات وطنية على العكس من العصبيات الجاهزة التي وجدت لها متنفساً في الكانتونات الجديدة الإجبارية. لا تخرج عن هذا الإطار المناطق الآمنة الخاضعة لسيطرة النظام، لأن العصبيات انتعشت فيها أيضاً تحت دعاوى الأمن الذاتي برعاية وإشراف من النظام نفسه. أيضاً ليس ببعيد عن ذلك ترويج بعض الجماعات لنفسها على أنها في موقع الحياد من الصراع الدائر، طالما أن هذه الجماعات كلّها تتعاطى ضمن منطق الهيمنة على الحرية السياسية للأفراد.

إن دخول الجماعات على خط الصراع الأساسي آذن بانقسامات يصعب ردمها حقاً، فلا تخفى مثلاً الهوة التي باتت قائمة بين العرب والأكراد، بعد أن كان الأكراد مساهمين بقوة في الأنشطة الأولى للثورة، ولا يخفى كذلك أن الهيمنة عادت إلى الأحزاب الكردية التقليدية التي لم يكن لها فضل يُذكر في المساهمات الكردية الأولى. لا شك في أن النظام تواطأ مع لجان الحماية المحلية للأكراد بالتخلي لها عن الإمساك بالمناطق ذات الأغلبية الكردية، إلا أن إمساك المتطرفين الإسلاميين بالسلطة في المناطق المجاورة قد لعب دوراً حاسماً في الشقاق بين الطرفين. لا يخرج عن هذا السياق قيام المتطرفين بقمع الناشطين الوطنيين في أماكن تسلطهم، وقيام لجان الحماية الشعبية بالأمر ذاته في أماكن وجودها.

لقد اختار النظام أن يدفع السوريون الثمن الأغلى ضمن مقولة تنصّ على أن بقاء الاستبداد هو الضمانة الوحيدة لوحدة البلاد والإمساك بالاجتماع السوري؛ حالة الفوضى الشاملة التي تعيشها سوريا الآن هي الوسيلة الأمثل لتمزيق النسيج الاجتماعي، لكن من الخطأ النظر إليها كحالة عابرة تزول تلقائياً بزوال النظام. بل من المرجح أن تهيمن الجماعات السورية على التجربة السياسية لفترة ليست بالقصيرة جداً، وربما تقع سوريا بين النموذجين العراقي واللبناني على أمل أن تؤدي الديمقراطية المنشودة إلى ثورة أخرى لاحقة عمادها انقلاب الأفراد على جماعاتهم.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى