الجهاد البعثي وناقوس الأفول
مازن السيّد
“لم تكن العلوم التى انشأوها (العرب) والفنون التي ابدعوها والعمران الذي رفعوه… إلا رجعا خافتا لصدى ذلك الصوت السماوي الذي سمعوه، وظلا باهتا لتلك الرؤى الساحرة التي لمحوها يوم كانت الملائكة تحارب في صفوفهم، والجنة تلمع من بين سيوفهم”. لم يقلها حسن البنّا، ولا أبو مصعب الزرقاوي، ولا أبو محمد الجولاني، بل قالها ميشيل عفلق، أحد مؤسسي حزب “البعث”.
نعم، قالها عفلق في محاضرة بعنوان “ذكرى الرسول العربي” في جامعة دمشق يوم 5 نيسان 1943. وفي العام 1989، أثارت الجهات الرسمية العراقية جدالاً بعثياً حاداً عندما تحدثت عن إسلامه قبل وفاته، ممهدةً الطريق لدخول كلمة “الله أكبر” إلى العلم العراقي.
هي “طريق الرجعة” إلى الإسلام، التي وضعها “البعث” في أدبياته، وسلكها حين تقطعت به سبل الايديولوجيا القومية.
أما دعوة “المجلس الأعلى للإفتاء” التابع للنظام السوري البعثي الحاكم، إلى الجهاد “دفاعاً عن سوريا” ك”فرض عين” لا على السوريين فحسب بل على كلّ العرب والمسلمين، فمن الخطأ إدراجها ضمن تناقضات هذا النظام بين “علمانية” و”دين”، لأنها في الحقيقة تقوم على “إسلام بعثي” غير مستجدّ.
هذه “العلمانية القومية” لحزب البعث، ممتزجة أساساً بقراءة خاصة للإسلام على أنه “روح العروبة” و”رسالتها”، يرتكز عليها الفكر البعثي لينفي عن نفسه تهمة استنساخ الفكر القومي الأوروبي وكوارثه الفاشستية: “وما دام الارتباط وثيقاً بين العروبة والاسلام، وما دمنا نرى في العروبة جسماً روحه الاسلام، فلا مجال اذن للخوف من ان يشتط العرب في قوميتهم. انها لن تبلغ عصبية البغي والاستعمار”، يقول عفلق مستفيضاً بالقول إن “توسّع” العرب لم يكن لغايات امبريالية واقتصادية، “بل ليؤدوا واجباً دينياً كله حق وهداية ورحمة وعدل وبذل”.
عندما يكون “البعث” في أوج سلطته وسطوته، لا يكترث إلى الفروع الفقهية في عقيدته، ويحيلها إلى شطحات ميشيل عفلق “الأدبية”، وهو فعلاً نموذج صارخ لرجل أقرب إلى الرومانسية تورّط في السياسة ودفع الثمن غالياً. أما مع تهاوي صرحه داخل مجتمع مفلس عقائدياً إلا من الشعور شبه-الغريزي بالانتماء إلى الإسلام، يستنهض “البعث” ادواته الدينية للقتال.
في معارك الملائكة، لا بدّ له من البحث عن مخلوقات مجنّحة في صفوفه. هكذا، يتحوّل “البعث” في مراحله الأخيرة إلى فريق إسلامي آخر. وتحلّ الكارثة حين يتماهى “الإسلام البعثي” مع إسلام أحد المذاهب التقليدية القائمة، مهيئاً بذلك لتغذية الصراعات المذهبية حتى بعد سقوط منظومته السلطوية، كما شهدنا في تحوّل صدام حسين، من أحد رموز “العلمنة العسكرية” في المنطقة إلى “بطل السنّة”، حتى تكنّت إحدى كتائب المعارضة في سوريا باسمه.
مهما حاول تبرئة “بعثه” من تهمة تقليد الغرب، لم يفعل ميشيل عفلق ورفاقه الأوائل سوى محاولة دمج للعامل الديني في فكرهم القومي المستقى مباشرة من التجربة الاوروبية، لا بل من الفكر الاستشراقي الاستعماري الأوروبي الذي كان يبشّر العرب ب”قوميتهم” ويعدّ في الكواليس لتقاسم الأراضي “العثمانية”. وفي عملية الدمج هذه التي كانت تتطلب قراءة “تاريخية” للإسلام على أنه “إنتاج العرب” و”رسالتهم القومية”، عمد “البعث” إلى نهج “شبه تاريخي”، خلط فيه بين رؤية “الرسول العربي” على أنه عبقريّ العروبة وبين مشهديات الملائكة المقاتلة والجنة بين السيوف، ولم يفلح في وضع خريطة جديدة مستديمة لمواقع الدين بين المساحتين الخاصة والعامة.
نداء الجهاد النظامي مؤشر آخر على أفول تجربة “البعث” عربياً، بعدما استنزفت مثاليات “الهوية المشتركة” حتى ساهمت كثيراً في تنفير العرب أنفسهم من بديهيات هويتهم العضوية والفطرية. هو مصير “أسلمة القومية” التي لا تختلف في العمق عن “ديموقراطية الإسلام” السائرة إلى الحكم اليوم: تلقيح مفاهيم الهوية الغربية، بقراءة استشراقية هزيلة للمثاليات المحلية.
فهل يتشابه المصيران، ليكون الإيمان ضحية “الإسلام السياسي” كما كانت العروبة ضحية “القومية”؟
المدن