الجولة الثالثة من الاندماج الوطني في سورية
ناهد بدوية
لم يصل حافظ الأسد إلى السلطة إلا نتيجة الجولة الثانية من عملية الاندماج الوطني الواسعة التي بدأت منذ أربعينات القرن العشرين عشية الاستقلال عن الاستعمار الفرنسي. لكنه لم يكن وفيا لها، فقد قاد نظامه عملية معاكسة استمرت على مدى أربعين عاماً، عملية تخريب هذا الاندماج في سياق الحفاظ على السلطة، لكنها لم تكن بهذه الشدة، كما هي اليوم، ولم يتعرض الاندماج الوطني لمحاولات تخريب منظم وتحطيم مقصودة مثلما تعرض له في الأشهر الستة الأخيرة،أشهر الانتفاضة.
الجولة الأولى من عملية الاندماج الوطني دشنتها الثورة السورية، وتعمدت بالدم. عندما تحركت مختلف مناطق سورية وطوائفها ضد الاستعمار الفرنسي وضد تقسيم سورية الى كانتونات طائفية. الجولة الثانية من عملية الاندماج الوطني دشنها الاستقلال وتعمدت بالقانون عندما أنشأت المؤسسات التي تمثل الوطن السوري كله. وبدلا من مجالس العرف لحل المشكلات التي كانت تخص كل منطقة وقبيلة وطائفة، أسست الهيئة القضائية كي يلجأ إليها كل سوري. وبدلا من المدارس الدينية والكتاتيب، تأسست المؤسسة التعليمية الوطنية الحديثة التي وحدت السوريين في المدارس والمناهج. كما تأسس الجيش السوري عام 1945 والبرلمان وكافة المؤسسات التي تعبر عن الكل السوري الواحد. وانتمى حافظ الأسد الى حزب البعث العربي الاشتراكي في الأربعينات والى الجيش في سياق الجولة الثانية من عملية الاندماج الوطني، إذ شهدت تلك الفترة نشاطا واسعا على الصعيد السياسي شمل جميع المناطق السورية وبذلك انتهت الحقبة التي كان العمل السياسي محتكرا فيها من قبل مراكز المدن الرئيسية.
صحيح أن استخدام الطائفية من قبل النظام من أجل الحفاظ على السلطة بدأ منذ أربعين سنة وتركز في الثمانينات على نحو مستفز، إلا أن هذا السلوك يمارس اليوم في أبشع صوره، ولا غرابة في ذلك، إذ لم تكن السلطة مهددة كما هي اليوم. وبالتالي لم يكن الشحن الطائفي قويا كما هو في الأشهر الأخيرة. ومنذ أول يوم من الانتفاضة السورية بدأ النظام بإدارة آلة ضخمة للشحن الطائفي بدت له الوسيلة الوحيدة لتفتيت الشعب السوري المجمع كله على أن من يحكمه الآن ليس حزب البعث ولا الطائفة العلوية ولا حتى عائلة الأسد بل شلة صغيرة من العائلة تملك البلاد والعباد والثروة. إذن كيف ستقنع ريف بانياس أو عش الورور أو ريف جبلة الذي لم تقدم له السلطة سوى الفقر والتهميش والمخالفات بأن يدافع عنها سوى بإثارة المخاوف الطائفية؟ الناس كلهم يعرفون كيف تم تمثيل مسرحيات سيئة الاخراج في المناطق المتعددة طائفيا وإثنيا عن ملاحقات لعصابات مسلحة في جبل المخالفات في المزة وفي جرمانا وفي باب توما والدويلعة وركن الدين وبانياس وجبلة واللاذقية..الخ.
ولا أنسى ما حصل مع صديقة مسيحية في الدويلعة عندما شككت بقصة رواها لها أحد سكان الحي عن عصابة مسلحة وسخرت منها ، إذ حضر الأمن فورا بناء على تلفون من راوي القصة، وكان ثمنها ساعات في فرع المخابرات وإهانات لم تبرأ منها الصديقة حتى الآن.
واذا كانت محاولات الشحن الطائفي موجهة الى الجميع إلا أن هناك تركيزا كبيرا على الطائفة العلوية، التي تتعرض حاليا لأكبر عملية تخريب لاندماجها الوطني، وذلك بمحاولات تحويلها إلى مجرد أداة قمع. يتركز الشحن الطائفي على دمج المخاوف الطائفية ومخاوف خسارة الامتيازات والمخاوف من عمليات انتقام وثأر. ولم تكن المبالغة في استعمال اللهجة العلوية في عمليات الإهانة الجماعية إلا تصعيدا خطيرا لتكريس هذا المركب عند الطائفة العلوية وإثارة المشاعر الطائفية عند الطرف الآخر في محاولة يائسة لتحويل المعادلة الواضحة من شعب /نظام الى سنة/علويين.
ترتبك الأقليات عند المنعطفات التاريخية إذ تشعر بالضعف أمام الكتل الكبرى في المجتمع، ولكنها في سورية إضافة إلى ذلك تعرضت، في سياق الحفاظ على السلطة، إلى عملية تخويف وعزل طويلة ومنظمة، بالإضافة إلى كل محاولات الاقناع بأنهم في حمى النظام في مواجهة الأغلبية المرعبة. لذلك نرى كتلا كبيرة من الطوائف خضعت غرائزيا لهذه المخاوف وتجمدت رعبا. إلا أن الأفراد الذين خبروا الروابط المدنية الحديثة وتخلصوا ولو جزئياً من الروابط الأهلية القديمة، أي المثقفين وأبناء الحركة السياسية، يستطيعون تجاوز هذه المخاوف بالوعي، لذلك ليس غريبا أن مواقف غالبية المثقفين والسياسيين من مختلف الطوائف والمناطق متشابهة وداعمة للثورة والتغيير وتؤيد السمة الحالية للأحداث الحالية وهي رفض الاسلاميين للخطاب الطائفي على عكس فترة الثمانينات وهذا مايميز الجولة الثالثة الحالية من الاندماج الوطني.
الجولة الثالثة من عملية الاندماج الوطني سوف تزيل القيح الذي تزايد نتيجة أربعون سنة من تخريب النسيج الداخلي في سبيل الحفاظ على السلطة، رغم أن النظام يحصد لصالحه الآن المخاوف الذي أثارها بين الطوائف على مدى هذه العقود.
عملية إزالة القيح المتراكم هذه دشنتها هتاف في تظاهرات درعا يعدد أسماء المدن السورية من الشمال الى الجنوب ومن الشرق الى الغرب مدينة مدينة وبلدة بلدة، ويردفونها بقولهم: “درعا معاك للموت” وأكدها المتظاهرون بشعار “الشعب السوري واحد” وعدم انجرارهم حتى الآن إلى المعركة الطائفية. الشارع قال كلمته في هذا الموضوع ورفض التفتيت الطائفي.
وبقي أن يكتمل الفضاء السياسي بالعمل المكثف المشترك من قبل المثقفين والسسياسين والقيادات الميدانية للثورة كي تكتمل الجولة الثالثة من الاندماج الوطني التي دشنتها الثورة وتعمدت بالدم مرة أخرى، وسوف تتعمد بالقانون عندما نعيد بناء مؤسساتنا وجيشنا وبرلماننا على نحو ديمقراطي تعددي، مؤسساتٍ وطنيةً تمثل الشعب السوري، خالية من أية شبهة عشائرية أو طائفية. وإذا كان هذا هو الحل الحديث لجميع المجتمعات إلا أنه في سورية المتعددة تحديدا هو الممر الوحيد، إذا كنا نريد مجتمعاً يسوده الاستقرار والأمان بدون أي نوع من أنواع الديكتاتوريات.