الحب في زمن الدكتاتورية/ أحمد عمر
ابتسامتها ذابلة كسراب يحسبه الظمآن ماء، حزناً على خطيبها المفقود، لكنها في نهاية من الجمال، يراها المرء فيُسر أو يجهر متأوهاً بين طعن القنا وخفق البنود: تبارك الله أحسن الخالقين..
وكان مديرها السيد محمد عماد الحمصي يتحرش بها تحرشاً ناعماً لا يكاد يرى إلا بعين زرقاء اليمامة على مسيرة ثلاثة أيام. ربما وقع في الحب، مثل عماد حمدي في حب سميرة أحمد، في فيلم “خان الخليلي” المأخوذ من رواية نجيب محفوظ.
كانت طاولة الحمصي كبيرة، عليها لوحة تحمل اسمه بخط الرقعة، في الصدر، في قسم التوتر المنخفض، والمكتب مزدحم بالطاولات المصفوفة، مُّتَجَاوِرَات، متراكبات، صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ، من عهد الديناصورات، فطال بها العهد، ولا أحد يعرف عدد سكان المكتب من مهندسين وموظفين لكثرتهم، ولا أحد يعرف عمل رئيس الدائرة السيد عماد حمدي الحمصي، فهو دائماً غارق في الأضابير، يتنفس تحت الورق، ويبحث عن رقم مفقود في غابات الأرقام، بنظارته السميكة، ماذا يعمل هذا الرجل الذي تنثر ناعورة الأيام طحينها الأبيض على شعره؟ إنه يوهم الموظفين أنه رئيس دائرة مهم، في بلد لا أهمية فيه سوى لشيئين هما: رغيف الخبز والألغام التي تنفجر بالمرء تحت اللسان فتوديه المهالك.
يتردد المواطنون على المكتب بطلبات وحاجات وقراطيس عليها طوابع، وطوامير عليها أختام، فالناس تتكاثر، والمدينة تكبر وتتمدد خبطاً في العشوائيات، وسادة البلد مشغولون بخطط الرد على العدو في الزمان والمكان المناسبين، فلا يجدونهما، ولا وقت لرسم حدود المدينة، فترفض الطلبات أو تؤجل إلى الزمان والمكان المناسبين، فليس هناك أعمدة، دولة تتباهى في كل المسيرات بإنجازات الكهرباء، وليس فيها خوازيق للنور!
وكانت طاولة المهندسة زبيدة مقابله، هكذا رمت بها المقادير غير العشواء، إلى جانبه، يرفع بصره بين أشواك الأرقام العجماء، فيرى وجهها الصبوح، تَجْلُو عَوَارِضَ ذي ظَلْمٍ إذا ابْتَسَمَت، كأنه مُنْهَلٌ بالراحِ مَعلولُ، وكان إذا ما رآها المرء قال: تبارك الله أحسن الخالقين.
وكانت مخطوبة للزميل المهندس جمال عبد الناصر، هكذا اسمه الأول، سمّاه أبوه مثل كثير من أبناء جيله على اسم الزعيم الأسمر، الذي خلب لبَّ العرب، والمهندس جمال عبد الناصر من مكتب التوتر العالي المجاور، مهندس ذكي ووسيم، لديه محل صيانة أدوات كهربائية بعد الدوام في دولة ” المماليك” الكهربائية، لا أحد يعرف سبب اعتقاله، وأسباب الاعتقال ألغاز كونية مثل مثلث برمودا ووحش نيس، قيل إنه ذكر عرَضاً أن الأعمدة إنما هي جذوع أشجار ميتة، فلمَ هي مفقودة؟ ومرة قال: إنما هي إسمنت، تراب، حكومة تحارب كل هؤلاء الأعداء، ولا تعرف كيف توفر أعمدة كهرباء لمواطنيها الغارقين في الظلام، كان يعرِّض بالحكومة، والبلاد كلها حقل ألغام، ليس تحت الأرض، وإنما تحت اللسان، وعلى المواطن الحريص على السلامة أن يحذرها لئلا تنفجر به، ربما هي وشاية حاسد. أمس انقطعت الكهرباء في البلاد، فتعطلت معامل الإسمنت التي لا تقدر بثمن، وجفَّ فيها الإسمنت، وألقى باعة اللحم بلحوم الضأن الغالية على الطريق للكلاب، وتحولت الشوارع إلى جداول حليب من الأيس كريم الذائب. لا أحد يقدر الخسائر الباهظة… جرى له ما جرى لأبطال “احنا بتوع الأتوبيس”، فاختفى، كأنه غيمة صيف عابرة، وترك خطيبته الحسناء شبه أرملة تختنق إصبعها في الخاتم الذهبي، وكان الذهب يقول وهو يعانق إصبعها عناق العاشق الوامق: كل ذهب لا يعانق هذا الأنملة الطرية فهو محض خشب.
جاء رجال الأمن بثياب مدنية، وبلطفهم المعهود قصدوا المدير وطلبوه، قالوا له بنعومة: نريد أن ندعوك لشرب فنجان قهوة عندنا في الفرع، مؤكد أنه أحس بحاجة شديدة إلى التبول عندما عرضوا عليه تلك الدعوة الكريمة. كانت جميع الفروع الأمنية قد افتتحت مقاهٍ في ثقوبها السوداء، والقهوة عندهم سحرية، كهنة المخابرات اخترعت أكسير الإخفاء، شربة من القهوة تجعل شاربها يختفي، يشربها الضيف مهيّلة بالرعب، فيغيب سنين عدداً، فيخرج إن كان محظوظاً ليرى العملة قد تغيّرت قيمةً، على المرء أن يحذر ألغام الكلام. والاعتقال ليس لشاب ذكي ووسيم يفور بالوعد والأمل، وإنما هو لأم وأب وأخوات وحبيبة وأمّة.. كأنّما تَداوَلَ سَمْعَ المَرْءِ أنْمُلُهُ العَشرُ.
الحيوانات كلها؛ الجواميس، الوعول، الفيلة، القرود تدافع عن بعضها إلا المهندس جمال، لم يذكره أحد، أو ذكروه سراً، سيكون زملاؤه من جماعة “كنا عايشين” مستقبلاً، وهكذا أُثكلت العذراء زبيدة، وبقيت تنتظر حبيبها، وتنبض مثل قبس بعيد في مكتب التوتر المنخفض، الذي صار يسمى بإسمها لجمالها: مكتب الآنسة زبيدة!
ويلمع في إصبعها الخاتم، الذي يتمنى كثيرون لو يبدلونه لها بخاتم آخر من لدنهم، أكبر وأثمن، فهي جميلة، يراها المرء حتى من وراء ظهره، كانت إذا مشت تتبعها طواويس وأيائل، لكنها كانت تذبل وتشحب وتنطفئ، وهناك أمر لا يذكره علماء الاقتصاد، وهو أن أكبر ثروة تعرضت للتضخم والتعويم هي عمر الإنسان، فسنُّ الزواج الطبيعي تحت العشرين، وقد صار على تخوم الأربعين مثل سن الرئاسة، وخلال هذه السنين العجفاء من العواطف والأشواق، تجفُّ لواعج الشباب من الجوع، وتنتهي رسائل السلالة مسفوحة في بريد المصارف، وهي تقضي منتحرة في البواليع السوداء، أو تذوي محتقنة ومحنطة في الأصلاب من اليأس والقهر، مثل شراغيف الضفادع في بركة ضحضاح تحت شمس حارقة.
ومحمد عماد الحمصي يختلس الفرصة ليتحرش بها، وهو في الستين على أعتاب التقاعد، وقور، يشبه عماد حمدي، ويكتب لها على مجلة النقابة الإجبارية التي لا يقرؤها أحد، وفيها أبحاث قيمة عن بناء سدود، وتوليد طاقة الكهرباء من الريح، والأسس الفضلى للتأريض الآمن: زبيدة ثروت، ويقدمها لها، فتقرأ اسمها وتقول: أستاذ اسمي زبيدة الشريف، فيشرب بإذنه عسل كلماتها قطرةً قطرةً، مقاوماً رغبة قوية في معانقة خصرها الأهيف، ويتضاحك، ويقول: عفوا…خطأ مطبعي، لا تؤاخذيني، ويهمُّ بمغازلتها، فيحبسه وثاق الوقار، ويكتفي بتلك الإشارة.
يراه زملاؤه في السوق مع سيدة مسنّة بعمر أمينة رزق:
ـ ها هو مع أمه في يوم الأم
ـ لا هذه زوجته يا أوزون القلب
فيتذكر المتذكر فيلم “ظلموني الحبايب”، وقد يقول القائل بمكر الماكرين، ويتذكر حكمة الحكماء في الاقتران بالأبكار الكواعب خوفاً من غوائل الزمن الذي يظلم النساء ويضرِّسهن بمنسمه: “إذا كانت الجنة تحت أقدام الأمهات، فإن الفردوس الأعلى بين أحضان الحبيبات”. الأنثى شباب واحد، والذكَّرُ شباب لا يشيب.
عندما يحين موعد نهاية العمل، وإسمه الشعبي والرسمي: الدوام.. وما دايم إلا الدايم، وما دايم غير الله. يحمل ربطة الخبز المدور عالياً فوق يده مثل بائعي الكعك، أو تحت إبطه، فالخبز جائزة، وكان الخبز الذي يحضره معه صباحاً في سيارته الحكومية الإيج القديمة، من مخبز الملعب، ومخبز الملعب خبزه طيب، يؤكل وحده من غير مؤزارة من زيت أو زعتر، مخابز البلد طبقات: مخابز عبيد ومخابز سادة، كان يشتريه من السوق السوداء، ليوحي لمرؤوسيه أنه مدعوم، وخبزه مـوفورٌ وعِرْضُه صَـيِّنُ.
كتب لها هذه المرة أيضاً على حصتها من المنشورات الرسمية: زبيدة ثروت
فابتسمت بسمةً كَسراب يَحسبه الظَّمْآنُ مَاءً وقالت: اسمي زبيدة الشريف يا أستاذ.
فقال عماد حمدي، وهو يكاد يرمي بنفسه منتحراً من أعلى الشجرة التي صار فوقها حباً، وقد أخذه الهوى كما في فيلم “جنون الحب”: آسف.. قسماً بالله أنك أحلى منها بألف مرة.
نطقها أخيراً..
هكذا على نصف الملأ، نطقها، وقصد الباب في موعد نهاية الدوام السعيد، وعلى الباب، قبل أن يخرج ليحدث نفسه كعماد حمدي في فيلم “ثرثرة فوق النيل”، مهنئاً نفسه على شجاعته. وقف ليرى أثر جملته التي أطلقها، على وجه زبيدة، منتظراً الطواويس والأيائل المختبئة تحت الطاولة، مستغلاً صخب الزملاء فرحاً بالمغادرة، ويختلس نظرة إلى الخاتم الذهبي الذي يلمع في إصبعها مثل وميض نجمة بعيدة في سماء غائمة..
المدن