الحجاب والسفور والسلطة/ حسام عيتاني
لاثبات سير مجتمعاتنا القهقرى وارتكساها عن “زمن جميل” مضى، يستخدم الناشطون على السوشال ميديا صورا تُظهر الفارق بين ما كانت عليه النساء في الماضي وبين ما هنّ عليه اليوم. فتوضع صور السيدات السافرات في حفلة لأم كلثوم مقابل صفوف من المحجبات أمام مراكز الاقتراع، على سبيل المثال. أو مدرج جامعي يضم طالبات وطلابا يتشاركون المقاعد مقابل مدرج في جامعة يجلس فيه الطلاب في احدى الجهات والطالبات المحجبات في جهة ثانية.
وتشمل هذه الصور لقطات من أفغانستان في سبعينات القرن الماضي، ومن إيران قبل الثورة على الشاه. سافرات ومرتديات للثياب العصرية، مقابل منقبات ومحجبات مبرقعات. بيد أن الرسالة المباشرة عن الانتكاس من التحرر الى قيود الدين والتقاليد، تنطوي على الكثير من المصادرة والظلم للنساء أولاً، ذلك أن استعراض الصور تلك يتجاهل الحقائق البسيطة لتلك الأزمنة والحقبات، ويبالغ في تصوير تحرر المرأة في الماضي بازاء ما هي عليه حالها اليوم.
المأخذ الأول على المقارنة بين صور نساء الماضي وبين صورهن في الحاضر، أن ناشري تلك الصور لا يقولون لنا كم كانت نسبة السافرات إلى المحجبات. هل كانت الأولات أكثرية حقاً؟ من الواقع المعاين ومن دون احصاءات وارقام، يستطيع المرء بالاستناد الى ذاكرته الفردية وذاكرات مجايليه وصحبه القول، إن نسبة المحجبات ارتفعت ارتفاعاً شديداً منذ الثمانينات، حتى بات الحجاب هو العنوان السائد للمظهر الأنثوي، بفعل “النهضة الاسلامية” الشهيرة.
لكن ذلك لا يجب أن يلغي مسألة أهم خلاصتها أن ارتداء الحجاب كان في جانب منه اعتراض من فئات اجتماعية على “استعراضية” السفور، الذي رعته السلطات وقدمته علامة على تقدميتها وانخراطها في الحداثة وفي العصر. ثمة شيء مشابه حصل في تركيا الكمالية، حيث ردت شرائح من الاتراك على فرض السلطة لعلامات التغرب، بالتمسك بالتقاليد الدينية التي استخدمت كعلامة مقابلة على المعارضة. ويرسم اورهان باموق في روايته “ثلج”، على سبيل المثال، بعض جوانب ذاك الصراع حول الحجاب وعلاقته بالسلطة الاجتماعية والسياسية.
بكلمات ثانية، لا يشكل اجتياح الحجاب للمظهر النسائي في بلادنا علامة على “ردة” نحو قيم محافظة ومتشددة فحسب، بل أيضاً يشكل تماهياً أعمق مع الجانب الاحتجاجي والمعارض للحركات الاسلامية عندنا: استبداد السلطات في مصر وسوريا والعراق ودول المغرب، اندمج مع تبنيها السفور. معارضة الاستبداد بالاسلام السياسي يعني حكماً معارضة سفور رموزه النسائية. وليس من الضروري أن كل النساء الحاضرات حفلات أم كلثوم كنّ مؤيدات لحكم الملك فاروق، أو للحكم الناصري فيما بعد، بيد أنهن كنّ الصورة التي رآها الناس لما يريد النظام أن يكن النساء عليه.
وسرعان ما ظهر الجانب “الجدلي” – اذا صح التعبير- للتداخل بين الحجاب والاعتراض والسلطة. فهذه الاخيرة أدركت قابلية الاسلام للاستغلال المزدوج فباشرت مباراة في المزايدة على من هو الاكثر ايمانا وتقوى، السلطات او المعترضين عليها، على ما فعل حافظ الأسد وحسني مبارك وصدام حسين وغيرهم، من خلال افتتاح الاف المساجد والمدارس الدينية و”الحملات الايمانية” وتصنيع كمية من الدعاة التلفزيونيين الذين ساهموا مساهمة حاسمة، في نشر نوع من تدين الطبقات الوسطى المتأثرة بالاستهلاك، أو تدين “المولات” المستورد من دول الخليج.
في لبنان، كان الامر أبعد قليلا عن آلية الاستبداد والرد عليها. ويمكن إعادة الانتشار الواسع للحجاب الى الاجواء التي رافقت تأثر الطائفة الشيعية بالثورة الايرانية في الثمانينات وبداية المنافسة مع السنّة الذين راجت بينهم حلقات التعليم الديني. يمكن هنا القول ان اغتيال رفيق الحريري في 2005، اعطى زخماً اضافياً لتحجب اللبنانيات من الطائفة السنية حيث ارتفع مستوى الشعور بالوحدة والخوف، والبحث عن ملجأ غيبي ديني أمام عدو كاسر تجرأ على فعلة مثل اغتيال الحريري.
المأخذ الثاني على المقارنة بين صور السفور والحجاب تتعلق بتجاهل مسؤولية السلطات التي رعت السفور عن السيادة الحالية للحجاب. الحقبتان الناصرية والساداتية في مصر، مثلاً، سلحتا الاسلاميين بسرديتهم النضالية وبمظلوميتهم، وبالتالي بصورتهم كضحية لكل ما كان النظام الحاكم يدعو اليه. بهذا المعنى، يكون دعاة السفور قدموا للحجاب. الأمر ذاته يصح في أماكن أخرى.