صبحي حديديصفحات الرأي

الهند: بين تجريد تشرشل وماراثون صندوق الاقتراع/ صبحي حديدي

 

 

الأرقام أصدق أنباءً عن الطبيعة الخاصة والاستثنائية، للانتخابات التشريعية التي شهدتها الهند مؤخراً: 551 مليون ناخب (حطموا رقم الـ417 مليون ناخب، الذي اعتُبر قياسياً أصلاً في الانتخابات السابقة، قبل خمس سنوات)؛ استقبلهم 930.000 مركز اقتراع، واستهلكوا 15.000 لتر من حبر التصويت، لانتخاب 543 مقعداً… وأمّا النتيجة، أي الإطاحة بحزب المؤتمر الحاكم، والسلالة الغاندية ـ النهروية، للمرّة الأولى منذ عقود طويلة؛ فإنّ الأوج الدراماتيكي فيها كان انتصار هذا الرجل تحديداً: نارندرا مودي، 36 سنة، زعيم ‘حزب الشعب الهندي’.

ذلك لأن خصوصية صعود مودي، شخصياً، أمر مختلف تماماً عن صعود حزبه، وكذلك عن سقوط الحزب الرئيسي الخصم: الاعتبار الثاني ناجم عن رداءة أداء حزب المؤتمر، خاصة في الميادين الاقتصادية وسوق العمل وانخفاض معدلات النموّ (من 7.6 قبل سنوات قليلة، إلى أقلّ من 5 مؤخراً)، وانتشار الفساد، وبيع موارد الدولة إلى كبار الرأسماليين والمستثمرين، وما إلى ذلك. أمّا انتصار مودي فإنه مقترن بسلسلة اعتبارات تخصّ شخصه، ليست جميعها محلّ اعتزاز، كأن يُتهم بتشجيع أعمال العنف ضدّ المسلمين في ولاية غوجارات، التي ظلّ يتولى حكمها منذ سنوات، وأسفرت عن مقتل المئات؛ أو أن يشير ماضيه، غير البعيد تماماً، إلى انتماءات قوموية الطابع، متأثرة بالنازية، عنصرية ضدّ الإسلام والمسلمين.

لكنّ الناخب الهندي هكذا شاء، وله أسبابه الوجيهة تماماً، والتي تذهب أبعد بكثير من أي اعتبارات سلبية تكتنف شخص مودي؛ إذْ ثمة، في المقابل، تلك الاعتبارات الإيجابية التي تمسكت بها جمهرة الناخبين: الوعد بتنشيط الاقتصاد، وتفعيل الاستثمارات، وإخراج سوق العمل من الركود الراهن، وتطوير اقتصاديات البلد على غرار النجاحات التي حققها مودي في ولاية غوجارات. وهذه، الديمقراطية الهندية، عريقة وذات تاريخ حافل طويل، وهي تنفرد بالانتخابات الأضخم عدداً من حيث المشاركة البشرية، وكان عسيراً بالتالي أن تسمح بترقية زعيم سياسي مثل راهول غاندي، ضعيف وغير مجرّب وقائد حزب مسؤول عن التعثر والتأخر والفساد، أن يرتقي إلى الموقع الأعلى في الحكم، اي رئاسة الوزراء، لمجرد أنه سليل آل غاندي.

وفي يوم 15 آب (أغسطس)، من العام 1947 نالت الهند استقلالها، وفقدت بريطانيا الكولونيالية مستعمرة لا تشبه سواها، سُمّيت بحقّ ‘درّة التاج’، بل كانت أعظم الدُرَر بين عشرات البلدان والأمم الواقعة تحت نير الاستعمار الإنكليزي، هنا وهناك في أربع رياح الأرض. لكنّ الإنسانية، من جانبها، كسبت مركز قوة جديداً وفتياً كان بالفعل قارّة كاملة متكاملة، وليس مجرّد ‘شبه قارّة’ كما تقول تصانيف الجغرافيا. ولا يغيّر من الجوهر أنّ أواخر القرن الماضي كانت قد شهدت انقراض الكثير من التسميات التي شاعت في أواسطه: عتبة آسيا، قلب حركة عدم الانحياز، العالم الثالث، اللاعنف، المقاومة السلبية… هذه هي الدرّة القديمة إياها، تستعدّ على نحو أفضل لاحتلال موقع الدرّة الجديدة في تيجان جيو ـ ستراتيجية قادمة، الآن والبشرية تعيش أطوار ما بعد نظام القطبين، وتنتظر الأقطاب القادمة في عقود القرن الحادي والعشرين: الصين، روسيا الإمبراطورية، الباكستان، إيران، أو ما يحلو لبعض دوائر البحث الغربية أن تسمّيه ‘قوس الإسلام التاريخي’…

وللمرء الحقّ في أن يبدأ من ذلك الخطاب الشهير الذي ألقاه جواهر لال نهرو، في 14 آب (أغسطس) سنة الاستقلال، وأن يستذكر الوعود الثلاثة التي بدت طوباوية مفرطة في طموحها إذ تجري على لسان أوّل رئيس وزراء لدولة قارّة شاسعة واسعة هائلة، آسيوية حتى النخاع، ومثقلة بالتاريخ والجغرافيا والديموغرافيا، على نحو لم يدفع ونستون تشرشل إلى برهة تبصّر واحدة قبل أن يقول: ‘الهند ليست أمّة، بل هي تجريد محض’. الاقتصادي والدبلوماسي الأمريكي المعروف الراحل جون كنيث غالبرايث ردّ بالقول: ربما، فالتجريد حصيلة رمزية للملموس. وفي أسوأ الأحول، لن تسفر الهند عمّا هو أقلّ من حالة ‘فوضى ذات وظيفية عالية’، وعلى الغرب أن يحاذر المزيد من تجريد ذاته إزاءها.

وكان سادة التخطيط الكوني الكولونيالي، في لندن، قد ابتسموا إشفاقاً وهم يصغون إلى وعود نهرو في إقامة نظام ديمقراطي تعددي، ومحاربة التخلف وانعدام المساواة الاجتماعية، وإقامة بنية اقتصادية وطنية حديثة وحداثية. وكان السادة أنفسهم يقرنون ابتسامة الإشفاق بتكشيرة شماتة، ويراهنون على سلطة ‘التجريد’ التشرشلي إياها، في تقويض التجربة حتى قبل ولادتها. وكيف لبلد يقذف 18 مليون وليد إلى شوارع بومباي وكلكوتا ودلهي كل سنة، ويقوم على ديناميت من موزاييك إثني ومذهبي، وينشطر ساعة استقلاله إلى هند هندوسية ـ مسلمة وباكستان مسلمة ـ هندوسية، ويضع قدماً عند عتبات معابد بوذا وكونفوشيوس وأخرى عند مساجد محمد بن عبد الله… كيف لبلد كهذا أن يدخل العالم بمبادىء ووعود عظمى، تكاد ترقى إلى مستوى ‘الفلسفات العليا’ التي لا تليق إلا بمراكز الهيمنة الكبرى التي يشغلها جبابرة الكون وقواه العظمى: ‘العالم الحرّ’، ‘أوروبا’، أو ‘الغرب’ باختصار شديد، وفي أكثر معاني المفردة تمايزاً وخصوصية وإثرة؟

وهكذا، بمرور السنوات والعقود، سقط الرهان على التخلف العضوي الذي يزمن ويستأصل وينخر أجساد عوالم العالم ‘الثالثة’، في آسيا وأفريقيا وأمريكا اللاتينية؛ وتبيّن أن الهند، شبه قارّة المهاتما غاندي وطاغور، قبل هند جواهر لال نهرو وباكستان محمد علي جناح، قادرة على تحقيق أكثر من وعد واحد عظيم. كان بينها، وأهمها، ما اعتبره الغرب امتيازه الحضاري الأنفس: أي إنجاز نظام ديمقراطي علماني تعددي تسود فيه المؤسسات المدنية ودولة القانون والقضاء المستقلّ والصحافة الحرّة؛ يسمح بتداول السلطة سلمياً، ويسحب العسكر إلى ثكناتهم.

وهكذا بدا أنّ تجريد تشرشل يلتقي مع وظيفية الفوضى عند غالبرايث، خصوصاً حين اتضح أنّ مشكلات ما بعد الاستقلال ليست أكثر دراماتيكية من مشكلات دول العالم الحرّ، كلما تعيّن اللجوء إلى صندوق الإقتراع للتحكيم في المعضلات الوطنية الكبرى. ولم يكن بالعجيب أن تتراجع شعبية حزب المؤتمر الهندي (صانع الاستقلال) على خلفية المعطيات الجديدة لديناميكية الحياة السياسية والاقتصادية والاجتماعية، مثلما لم يكن بالعجيب أن يلجأ البريطانيون إلى إحالة تشرشل نفسه (بطل الحرب العالمية الثانية ورمز التحرير) إلى تقاعد سياسي لا رجعة بعده.

وهكذا، في مناسبة الانتخابات الأكثر ماراثونية في تاريخ الإنسانية، يتوجب ألا يغيب، أيضاً، ذلك الموقع الخاص الذي تتبوأه الهند المعاصرة، على الخريطة الجيو ـ سياسية لما ستحمله الأزمان الوشيكة من شدّ وجذب ومحاور وحوارات. وهو موقع نُبّه إليه الرئيس الأمريكي الأسبق بيل كلنتون، في تقرير شهير كتبته شيرين طاهر خيلي، من معهد أبحاث السياسة الخارجية في فيلادلفيا والعضو السابق في مجلس الأمن القومي الأمريكي أيام جورج بوش الأب؛ فاستخلصت أنّ الهند هي كعب آخيل في الجسد الأمريكي العملاق المتطامن نحو القرن الحادي والعشرين: ‘إذا شئنا احتواء الماردين القادمين، الصيني والروسي، فلا مناص من إرضاء المارد الهندي، حتى ولو اضطررنا إلى قبول ما يعطيه من قدوة مقاومة لدول أخرى’.

وبعض أساس القدوة يكمن في العبور الماراثوني، ولكن الآمن، نحو مزيد من ركائز الديمقراطية؛ حتى إذا اقتضت انتصار شخصية إشكالية، تكتنفها التباسات شتى، يكاد بعضها يمسّ جوهر دستور الاستقلال ذاته؛ ما دام صندوق الاقتراع ليس تجريداً، ويصعب أن يكون.

‘كاتب وباحث سوري يقيم في باريس

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى