الحداثة في مشروع العرويّ: موجةٌ والعوم ضدّها مخاطرة/ نجيب مبارك
ليس من اليسير التّعامل باختزال مع مشروع عبد الله العروي الفكري الثريّ والعميق، لما يتطلّبه من مستويات متعدّدة في الفهم والنقد والتحليل. ولا تجدي قراءة إنتاجه مفصولاً عن مواقفه ومتابعته للعمل السياسي، كما لا يمكن الإمساك بخيوطه الرئيسة والتفاعل معها ونقدها من دون رؤية شمولية. لكن هذا الأمر لا يمنع، كما لم يمنع سابقاً، العديد من الباحثين والنقاد والمفكرين المغاربة والعرب، من تناول إشكالات بعينها في هذا الصرح الفكري الكبير، الذي ما فتئ يعلو ويتّسع ببهاء على مدى ستة عقود تقريباً. ويمكن اعتبار الإصدار الأخير للباحثة المغربية خديجة صبّار، الموسوم ب”الحداثة في المشروع الفكري لعبد الله العروي” ( المركز الثقافي للكتاب،الدار البيضاء، 2017)، يندرج ضمن هذا الصنف من القراءات، التي اتّخذت هنا من “الحداثة” في فكر العروي محوراً للبحث.
الحداثة: اختيار فكريّ استراتيجي
ما من شك أنّ الحداثة، كإشكالية فكرية مركزية، تظلّ هي الحامل الأساس لمشروع عبد الله العروي، ويطرحها بشدّة الواقع المجتمعي. ويمكن القول إنّها استغرقت حياة هذا المفكر البارز، حيث اشتغل عليها طويلاً وعمل على تفكيك رموزها باستخدام العقل النقدي. حيث تأسّس مشروعه في البداية على سؤال بسيط في الشكل وجوهريّ في العمق: ما العمل للخروج من واقع التأخر والتخلف لدخول زمن الحداثة، أو كيف يمكن للعرب امتلاك أسس المعاصرة وتحديث النظرة إلى المستقبل وتوطين المجتمع العصري؟ في إجاباته عن هذا السؤال، لم يتوقّف العروي عن الإلحاح على أن الحداثة هي أنجع الطرق لتحقيق المصلحة المجتمعية، متى كان لدينا مجتمع تُحقّق الدولة أهدافه ومصالحه. والمطلوب هو الترقّي، وليس مجرد التحوّل والتطوّر. والترقّي لا يتمّ إلّا عبر مفهوم الحداثة، ويعمل على تقوية النسيج المجتمعي. وفي هذا السياق، يرى أنّ النضال السياسي والاجتماعي والاقتصادي ينبغي أن ينسجم بشكل عميق وشامل مع النضال الثقافي من أجل التقدّم الفكري والإيديولوجي، لأنّ التطوّر الحقيقي يبدأ بالثّورة على الفكر.
لقد أسّس العروي منهجاً فكرياً واضحاً، ورؤية شمولية تنطلق من الخاص الوطني والعربي والتاريخ لتعانق الإنساني والكوني. ولا يمكن تناول الحداثة في فكره دون الوقوف عند كتابه “الإيديولوجيّة العربية المعاصرة” الّذي يشكّل البنية الأساس وعمود المعمار، وعليه تدور منظومته الفكرية بالمستويات المختلفة المكونة لها: النظرية المجسّدة في المفاهيم، والإجرائية المجسّدة في الخواطر والحورارت، والتعبيرية المجسّدة في الروايات، فهو بمثابة خطاطة ارتكز عليها لرسم خريطة تلك المنظومة، وحدّد فيها المحاور الرئيسة لمشروعه: العرب والأصالة / العرب والاستمرار التاريخي / العرب والعقل الكوني / العرب والتعبير عن الذات. وكلّها محاور جوهرها التّأصيل لمفهوم الحداثة. أمّا ما تلاه من مؤلفات لاحقة فهو مجرّد استدراك لما قاله اختصاراً أو تضميناً، أو استكمالاً لما أفرزه النقد الموجّه إليها، أو ما استجدّ من التصوّرات الفكرية، ومن التغيّرات في الأوضاع التاريخية والاجتماعية والسياسية محلياً أو دوليّاً، سيما وأنّ مسألة الربط على المستوى المعرفي، العلمي والفعلي، من أبرز السّمات المميّزة لفكره.
تجاوز الفكر النّهضوي
ترى الباحثة أنّ ما يميّز المشروع الفكري للعروي هو تجاوزه للفكر النهضوي العربي، منذ الأفغاني وعبده حتّى علي عبد الرزاق وطه حسين، بنقد أفكار النهضة العربية الحديثة الّتي لا توحي بخصوبة الفعل، بحيث أعاد قراءتها قراءة تحليلية جديدة متجاوزاً إياها، بإقراره أنّ لا حداثة دون الإفلات من سجن الزمنية السنية، واجترار المعارك القديمة الّتي حُسمت وتجاوزها الزمن. ووسم فكر النهضة بأخطاء عدّة ذات دلالة عميقة، أهمّها سوء تقدير أنصاف الحلول التي تبنّاها التيّار الإصلاحي، وبالتّالي فقد صلاحيته وبات عاجزاً عن إنجاز تأسيس جديد للّحظة التاريخية، بسبب التفاوت بين ما يقتضيه التاريخ من تجاوز وما يتميّز به الفكر من قصور، دون إنكار دوره البارز في إنتاج يقظة فكرية وصحوة قومية عنوانها الرئيس النّضال من أجل الحرية والاستقلال والسيادة.
إنّ مرجعية الفكر النهضوي، بحسب العروي، تختلف عن المرجعية المؤسّسة على المفاهيم الحديثة، وحين يسُود الجهل بالمفاهيم يسقط الفكر في دائرة التّبرير والانتقائية. ولهذا، يقتضي الصراع من أجل البقاء بالضرورة العيش وفق المنطق العام والعقلاني للتاريخ، مستنتجاً أنّ الفكر العربي القديم والحديث بقي سجين نظامٍ معرفي ( إبستمي) دينيّ عميق الجذور ولم يتمكّن من إدراك الثّورة الجديدة الّتي حدثت في تاريخ الإنسانية، والعلاقة الجديدة مع الزمن الّتي خلقت تغيّرات أساسية في علاقات الجماعات البشرية، ولم يستوعب بعد فكرة التّاريخ والعلم كموقف، وأسلوبَ حياة وطريقة ومنطق عقليّ للحياة المعاصرة، وإنّما اعتبره سرّاً يمنح مالكه القوّة تلقائياً. كما أنّ الاستخدام النّفعي الذرائعي للتّراث، في الحدود الّتي تحفظ للمجتمع شخصيته وموروثه، حال دون تحقيق انقطاع جذريّ عن النّقيض السلفي، ومنح المجال للسّفية للانقضاض على ما تحقّق من إنجازات جزئية، ما أدّى في النهاية إلى انكسار المشروع القومي العربي في ما مضى وإلى الأسلمة المغلفة بالطابع المذهبي والطائفي الذي أدخل المنطقة حالياً في دوّامة العنف.
التاريخانية بوصفها ترياقاً
لقد تناول العروي الحداثة من منطلق المُؤرِّخ، أي كواقعة تاريخية حدثت في مكان ما من العالم لتنسحب بالتدريج على البقيّة. ويختزل المفهوم كتاباته التاريخية والسياسية والروائية كمشروع حضاري للتّغيير له صفة الكونية، مثلما نجد مشاريع حضارية أخرى يختزلها مفهوم التّقليد. ولا نعثر على حداثة تامّة مكتملة في أيّ مؤلّف من مؤلفات الأستاذ العروي، فهي رؤية إشكالية وخلقٌ مستمر وتجربة غير مكتملة، وانفتاح دائم على ما يحدث لاستيعاب ما يتشكّل من علاقات ورؤى. سيرورة لا ينتهي تشكّلها، تطوّرت على مدار مساره الفكري واستغرقته. وفي هذا الإطار، يستحضر العروي مفهوم “التاريخانية” كترياق، لأنّها مقياس العصرنة وطريقة للتّفكير، ونظرة تحترم موضوعية التطوّر التاريخي – نقيض التحليل الإيديولوجي – وطريقة للالتصاق بالواقع وبوصلة للعمل السياسي الهادف، وقدرة على الإحساس بتوقّف تاريخنا الخاصّ تمهيداً لتجاوزه، ومسؤولية لبناء جديد في إطار زمن خلّاق قادر على إدخال النّسبية والتحوّل في أحكامنا وتحليلاتنا: ” الواقع لا يتغيّر بالتخيّل، هذا هو درس التاريخانية لمن يفهمها على وجهها”. وهي إذاً منهج في البحث النظري للظواهر التاريخية، يروم تغيير الواقع واحترام موضوعية التطوّر، ويستجيب لمنطق العصر وتحدّياته ويتيح للعرب عبر تمثّل المقدّمات والمبادئ “إمكانية استدراك التأخر “.
إنّ الحداثة كبنية ووعيّ تنشأ في سياق التحديث، ومن جدلية التغيّر والتحوّل. ويعتبر العروي “التحديث” إيديولوجيا للتغيير، يقود على مستوى المحيط إلى التحديث على مستوى الشخصية، والحداثة نفسها مرهونة بسيرورة التحدّي. وهي بهذا المعنى فاعلية سياسية واجتماعية، تنشد تطوير بنى المجتمع والسياسة والاقتصاد، عبر سياسات وإجراءات مخطّط لها وموضوعة، في سياق استراتيجيات عملية ينهض بأمر تحقيقها جهاز اجتماعي فوقي، تتمّ ممارسة الحداثة فيه من خلال القيادة الحكيمة بطبيعة الحال، لتحقيق مهمّته المتمثلة في الاندماج والتغيير الاجتماعيين عبر الوسائل الشرعية. ولم يفكّر العروي في التحديث من زاوية الإصلاح الديني، مثل محمد عبده مثلاً، لأنّ الحداثة لا تؤدّي لتقويض الدين، بل إنّ الدين يؤدّي دوره كحاجة حيويّة فردية، فاقداً أيّ وظيفة كونيّة، أو من زاوية التحرّر الاجتماعي، شأن قاسم حداد والطاهر حداد، أو التربية والتعليم مثل طه حسين، بل من زاوية تدخل سياسيّ إرادي. وهو استنتاج ينطوي على تصوّر لسيرورة تشكُّل تاريخية للمجتمع ( المغرب كنموذج للتحليل).
من هنا جاء تركيزه على الدولة، بعد أن أحسّ بخيبة أمل من النخبة ويأسٍ من المثقفين كوسيلة للتحديث، ملاحظاً أنّ الاهتمام بالدولة ضعيف في ثقافتنا، لأنّ المثقفين العرب لم يهتمّوا في السابق إلّا بيوتوبيا الخلافة. لهذا، فإنّ تحليله للموقف من الدولة والسياسة يعدّ ركيزة تصوّره لمفهوم التحديث، لأنّ هذا الأخير في حاجة إلى الدولة، مثلما الدولة في حاجة لتجسيد أدوات العقلنة الشاملة والحديثة في جميع مرافق الحياة، لأنّها ليست ضماناً للتحديث إلّا حين تنطوي على مضمون سياسي حداثي، بعيداً عن تكريس التقليد وإعادة إنتاج التأخّر التاريخي :” يُمكن ازدراء الدولة ولكنها تظلّ مَن يقوى على أن يفتح للمجتمع برمّته طريق المستقبل”.
الحداثة البعدية الغائبة
في مشروع العروي، لا مجال للحديث عن الحداثة البعدية، أو ما بعد الحداثة، ما دمنا لم ننجز ما قبلها كضرورة حياتيّة لا مفرّ منها، وما دامت مجتمعاتنا لم تعشها بعد كحالة ذهنية، وبُنى نفسية واجتماعية، وحصيلة أجيال وقرون من التربية والممارسة، وتحوّل معرفيّ سِمته الانتقال من المشابهة والسكونية إلى التحوّل والاختلاف، من التّكرار والاتّباع إلى التوليد والتجاوز والإبداع على غير مثال، وجميعها تحوّلات لا تتمّ بقرار. فعندما يتحدّث المثقفون في الغرب عن نهاية مشروع الحداثة، فذلك يعني أنّ تحديث نمط العيش في مجتمعاتهم قد اكتمل، وفتح الباب بإيجابياته وسلبياته لدخول مرحلة جديدة، أي أن الخبرة قد حلّت مكان الأمل، والمجتمع الحديث قد أصبح واقعاً، وليس فقط نقيضه المُراد تجاوزه: “يعيش المثقّف عندنا في عالمين منفصلين، يواجه يومياً مظاهر التخلّف واللّامعقول، وكلّها مظاهر تدلّ على عدم استيفاء شروط الحداثة في مجتمعنا، يتألّم منها ويشتكي، لكنّه عندما يكتب فإنّه يبقى سجين المرويات والمقروءات، فيفعل كما لو كان يعيش في مجتمع متقدّم”. إنّ ما بعد الحداثة، في نظر العروي، تظلّ إشكالية أوروبية غربية في المقام الأوّل، لا تهمّ المجتمعات الّتي لم تعش الحداثة بعد، ومنها المجتمع العربي. ولهذا، استنتج، ذات مرّة، في إحدى محاضراته “عوائق التحديث” : ” الحداثة موجةٌ، العومُ ضدّها مخاطرة، ماذا يبقى؟ إمّا الغوص حتّى تمرّ الموجة فوق رؤوسنا، فنظلّ حُثالة. وإمّا نعوم معها بكلّ ما لدينا من قوّة فنكون من النّاجين في أيّة رتبة كانت”.
ضفة ثالثة