الحراك: الدمار وعودة الحياة/ وردة الياسين
كان الذهاب إلى مدينة الحراك عبر المرور بمدينة الكرك الشرقي، ثم اتخاذ الطريق المحاذي للواء 52 سبيلاً للوصول إليها، أمراً عبثياً تماماً لأشهرٍ طويلة، لأن هذا الطريق بقي مساحة مكشوفة لقناصات ونيران قوات النظام حتى صيف 2015. ويستحضر المرور عبره الآن حجم المعاناة والدمار الذي أحدثه القصف المدفعي والصاروخي من داخل اللواء، والذي طال كل القرى والبلدات المجاورة له.
يتفق الناشطون والأهالي في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام في درعا، على أن انتزاع فصائل المعارضة المسلحة للواء 52 من يد قوات النظام بتاريخ 9 حزيران 2015، كان من أهم الانجازات العسكرية على الإطلاق، فهو أراح القرى والبلدات المجاورة للواء بشكل عام، ومدينة الحراك بشكل خاص، من قصفٍ عنيفٍ ومستمرٍ كاد يحولها إلى منطقية خالية من السكان، وإلى كتلة من الدمار والرماد.
يُفضي الطريق المحاذي للواء 52 إلى دخول مدينة الحراك من حيها الجنوبي الشرقي، وهو الحيّ الذي لا يزال خالياً من الحياة بسبب الدمار شبه الكامل الذي أصابه. وتروي بعض جدرانه، التي ينتظرها التهاوي الحتمي، أخباراً عن شعارات وعبارات، وعن أسماء شهداء وتواريخ ومعارك، وعن تهديدات للنظام ورأسه خطّها عليها «الرجل البخّاخ».
يحدثنا (م. الزعبي)، وهو أحد الناشطين المدنيين من أبناء الحراك: «تصل نسبة الدمار في الحي الجنوبي الشرقي إلى حوالي 90% من أبنيته ومحلاته وبنيته التحتية، ويعود ذلك إلى سببين رئيسين: أولهما أنه كان معقلاً لفصائل الجيش الحر في مدينة الحراك، وجَرَت فيه معارك عنيفة بينهم وبين قوات النظام. وثانيهما وهو الأهم، مجاورته للواء 52، أكبر لواء في محافظة درعا، وواحد من أكبر الألوية في سوريا، إذ جعل النظام منه منطلقاً للقصف المدفعي والصاروخي الذي يستهدف كل القرى والبلدات المجاورة له، والحراك واحدة منها. كانت الحراك قد شهدت قصفاً يومياً مستمراً من داخل اللواء، من 22 نيسان وحتى أواسط آب 2012».
كانت الحراك قد اشتعلت بالمظاهرات العارمة منذ بدايات الثورة، ومنها كانت «فزعة حوران الأولى» لأطفال مدينة درعا الذين أشعلوا فتيل الثورة في ربيع 2011. حازت الحراك على لقب «أيقونة الثورة في درعا» حين أقام أهلها خيمة اعتصام في كراج الانطلاق، ضمّت مئات المطالبين بتغيير نظام الحكم من أبناء الحراك وغيرها. استمرت خيمة الاعتصام شهرين تقريباً، من تاريخ 23 أذار حتى 28 أيار2011، ما دفع بالنظام إلى تنفيذ عدة حملات اقتحام على المدينة.
درعا مهد الثورة – مدينة الحراك 27-1-2012
يتحدث «أبو شهد الحريري»، من أهالي الحراك، عن تلك الاقتحامات، وهو كان شاهداً عليها كلها: «تعرضت المدينة إلى ثلاثة اقتحامات كبرى، استخدمت فيها قوات النظام الأسلحة ثقيلة والعربات المدرعة والدبابات، بالتزامن مع قصفٍ من إزرع ومن اللواء 52. كان الاقتحام الأول أطولها، إذ بدأ بتاريخ 28 أيار2011 ليستمر حوالي الثلاثة أشهر، تمكن النظام فيه من هدم خيمة الاعتصام، وقتل وجرح العشرات، وإثارة الرعب في نفوس الأهالي. ولا ينسى أحد قصة الطفلة ليال عسكر ابنة الأربع سنوات، التي تضاربت الروايات حول حقيقة وفاتها، وأرجعها كثيرون إلى الخوف الشديد الناتج عن الكثافة النيرانية المستخدمة في أحد مراحل الاقتحام بتاريخ 31 تموز 2011.
جاء الاقتحام الثاني بتاريخ 3 أذار 2012، واستمرَّ ثلاثة أيام، في محاولة من النظام لقمع أي ملمح من ملامح العصيان المدني والعسكري الذي صار يزداد في مدينة الحراك. وسُجِّلَ فيه مقتل سبعة أخوة من عائلة واحدة. أما الاقتحام الأخير فقد كان الأعنف، شنّه النظام من 18 آب ولغاية 26 آب 2012، وبلغ فيه عدد القتلى على يد قوات النظام حوالي 220 بين مدنيين وعناصر في الجيش الحر، وعشرات الجرحى، بالإضافة لاعتقال العشرات من الناشطين والمدنيين، كان من ضمنهم نساء».
انتشرت شائعات عن اغتصاب 40 امرأة خلال الاقتحام الثالث، ولكن لم يتم توثيقها أبداً، ويرفض الأهالي ذكرها أو الحديث عن مدى مصداقيتها.
بدأت حركة نزوح أهالي الحراك تزداد بشكل كبير بعد الاقتحام الأخير لها، وذلك بسبب القصف المدفعي الشديد والمتواصل عليها، وقد سُجِّلَ في ربيع 2013 نزوح 8000 شخص إلى الأردن ولبنان من أصل 35000 من أهالي المدينة، وذلك حسب مصادر محلية.
تمكنت فصائل المعارضة المسلحة في مدينة الحراك من إخراج آخر حواجز النظام الأمنية والعسكرية منها، لتفرض سيطرتها الكاملة عليها في أواخر عام 2013 بعد معارك قاسية. لكن الحياة لم تبدأ بالعودة إلى مدينة الحراك إلّا بعد انتزاع اللواء 52 من قبضة النظام في حزيران 2015، إذ بدأ أهلها المهجرون بالعودة إليها. ويسيطر حالياً على المدينة لواء شهداء الحرية، التابع لفرقة شباب الحسم المنضوية تحت مسمى «الجبهة الجنوبية» في الجيش الحر.
تقول أم عبد الله الكسابرة، التي لم تنزح عن مدينة الحراك أبداً طيلة سنوات الثورة والحرب: «عندما أسيرُ حالياً في سوق الحراك التجاري الطويل، أشعرُ بالأسف على أكبر سوق تجاري في محافظة درعا، الذي كان طوله يصل إلى حوالي 3 كم تقريباً، وكان يعدّ أشهر مكانٍ يستطيع المرء أن يتبضع منه كل حوائجه، دون أن يضطر للبحث عنها في محافظة أو مدينة أخرى.
يبدو هذا السوق اليوم شبه خالٍ إلا من محلات للطعام، وأخرى لتأمين بعض الحاجات المنزلية الضرورية، حتى أن أصحاب المحلات أغلبهم ليسوا من سكان الحراك الأصليين، فهم نازحون من قرى وبلدات مجاورة للحراك كنامر ودرعا البلد ومحجة وقرفا، بالإضافة إلى عدد لا بأس به من أبناء الغوطة الشرقية وداريا.
يضاف إلى ذلك التوقف شبه التام لكل المنشآت الصناعية والتجارية التي كانت متواجدة في المدينة قبل الثورة، إذ كان فيها 15 منشأة صناعية، كمعامل البلاستيك والكونسروة، وشركة الزامل للسيارات، وغيرها. كما أن المدينة أصبحت تفتقر إلى المتعلمين وأصحاب الشهادات العليا، بعد أن هاجرت نسبة كبيرة منهم إلى خارج البلاد، وخاصة الأطباء والمهندسون».
مع حلول عام 2017، وبعد الإعلان عن إقامة مناطق لخفض التصعيد في الجنوب السوري مطلع تموز الماضي، بدأت الحراك تأخذ شكلاً أقرب إلى الاستقرار، ولوحظ سعي بعض المنظمات الإنسانية والمدنية إلى وضع المدينة ضمن نطاق عملها، بعد أن كانت مُستثناة من قبل أغلبها بسبب ظروفها الأمنية الصعبة.
يقول أبو منصور القداح، وهو ناشط من أبناء الحراك: «هناك جملة من الأسباب الجوهرية التي تدفع بعض المنظمات المدنية حالياً للتفكير باستهداف مدينة الحراك في عملها، منها أن الحراك تشكل مركزاً لقرى وبلدات ريف درعا الشرقي الشمالي، كالمليحات، والصورة وعلما والكرك الشرقي. كما أن الحراك ستكون مثالاً جيداً لمناطق خفض التصعيد في حال استمرار الهدنة، فهي تبعد عن مدينة إزرع الواقعة تحت سيطرة النظام حوالي 5 كم، وعن محافظة السويداء أيضاً حوالي 5 كم. من ناحية ثانية، أعتقدُ أن الحراك تحتاج بصورة ملحة إلى إعادة تأهيل شاملة في بنيتها التحتية، وأبنيتها العمرانية، وصيانة شبكات الماء والكهرباء فيها، وكل ذلك سيجعلها هدفاً ربما لشركات أو مؤسسات تسعى لإعادة الإعمار في المناطق الخارجة عن سيطرة النظام».
دفعت «أيقونة الثورة» في درعا ضريبة مرتفعة، فقد خَلَّفَت ست سنوات من الحرب فيها ما يقارب 500 قتيل، و125 معتقلاً بينهم 10 نساء، وما يزيد على 800 يتيم، ودمار عمراني بنسبة 75%، وتهجير حوالي 70% من سكانها الأصليين، كل ذلك وفق مصادر محلية. فهل ستعود الحراك إلى سابق عهدها كما يتمنى أهلها؟ الذين بدأوا ثورتهم بخيمة اعتصام، ويحلمون اليوم بالعودة إليها من خيام اللجوء.
موقع الجمهورية