الحراك الشعبي في الانتفاضات العربية: مثقف فارغ.. تابع.. خائف من التغيير
هشام البستاني
اتسم الموقف من احداث الانتفاضة السورية لدى البعض من جمهور المثقفين، وخصوصاً البعض من قياديي رابطة الكتاب الاردنيين، بالانفصام والتبعية. فهم لطالما شخصوا النظام الرسمي العربي (وبدون استثناءات) على أنه العقبة الرئيسية في وجه مشروع التحرر العربي، ولطالما حلموا بلحظة تاريخية تنتفض فيها الشعوب العربية على حكامها غير الشرعيين، آخذة زمام المبادرة بيدها، كاسرة اللعنة التاريخية التي لاحقت هذه الشعوب في ماضيها البعيد والقريب بأنها شعوب لا تثور وبأنها خانعة بطبيعتها. وعندما انتفضت هذه الشعوب كاسرةً أغلالها، صار هؤلاء أنفسهم يُنظّرون بأن الشعوب ليست إلا كتلةً من الدمى التي تنفذ مشاريع لقوى خارجية.
المنطقة العربية (طبعاً) غير معلقة في الفراغ، وهي جزء من العالم الذي تسوده قوى كبرى لها مصالح وتتدخل في العالم طوال الوقت: منذ خروج الرجل الابيض في مشروعه الاستيطاني في ‘العالم الجديد’، إلى تقسيم المستعمرات القديمة، وحتى حروب التدخل في فيتنام وكولومبيا وهاييتي والانقلابات الدموية على الانظمة التقدمية المنتخبة ديمقراطياً في أميركا الجنوبية وصولاً إلى العراق.
الانتفاضات العربية لم تخترع القوى العظمى، ولم تخترع التدخل الخارجي. هذان العاملان كانا موجودين طوال الوقت قبل الانتفاضات وبعدها، بل أخذا شكلهما الأكثر تركيزاً وتكثيفاً في صيغة النظام الرسمي العربي التابع بالكامل للخارج والممثل الأكثر حدة لمفهوم التدخل الخارجي.
النظام السوري (مثلاً) لا يخرج أبداً عن هذه القاعدة: فهو يعترف بشرعية ‘إسرائيل’ على حدود الـ67، وذهب الى مؤتمر مدريد للسلام مع الصهاينة، ولا مانع لديه من توقيع معاهدة سلام معهم، وشارك في غزو العراق تحت القيادة الأمريكية في حفر الباطن عام 1991، وشارك في مجزرة مخيم تل الزعتر في لبنان، وتحالف مع إيران (وهو النظام القومي العربي كما يعرّف نفسه) ضد العراق في الحرب العراقية الايرانية، وتحالف كثيراً مع القوى الانعزالية اللبنانية المتحالفة مع اسرائيل ضد القوى التقدمية ومنظمة التحرير الفلسطينية في الحرب الأهلية اللبنانية، ومثل هذه الأمثلة الكثير الكثير. كيف لمثقف أن يقفز فوق كل هذه الحقائق، ويقفز فوق مواقفه السابقة، وتحليلاته الموضوعية، ومشروعه التاريخي، ليصبح مدافعاً عن نظام هو فوق ذلك كله: طائفي، وفاسد، وقمعي؟.
مثل هذا المثقف المدّعي خائف. خائف لأنه فارغ. خائف لأن لا شيء لديه ليقدمه بعد أن انهار العالم المحيط به كما خبره وعرفه في ظل النظام العربي الرسمي، ولا إجابات لديه ليقدمها. ولأنه خائف وفارغ: فهو يريد أن يوقف حركة التاريخ، ويوقف الجماهير المتقدمة عليه باستمرار، لذلك فهو يشدّها باستمرار الى الوراء بدلا من أن يُعمل عقله للارتقاء بالواقع الجديد الذي لطالما حلم به، ويريد أن يبيعنا أن رجعيته هذه هي تقدمية.
المثقف هو حالة ضميرية، حالة كاملة الاستقلال عن الانظمة، حالة تتجسد فيه الحرية ككلية لا تتجزأ. ومثل اولئك الذين ارتضوا لأنفسهم مواقع التبعية والتلوّن والتبرير والتحوّل إلى أبواق ليسوا ‘مثقفين’ بهذا المعنى. والمضحك أنهم يفذلكون مواقفهم باسم ‘الواقعية السياسية’ نفسها التي أدانوا الأنظمة على أساسها عندما ذهبت هذه الأخيرة (أي الأنظمة) لتوقيع معاهدات الاستسلام مع الكيان الصهيوني.
المثقف حالة استشرافية، مستقبلية، لا تلعب السبع ورقات، ولا تقدم التنازلات التكتيكية، تلك يفعلها السياسي الباحث عن موقع. المثقف لا يبحث عن انسجام مع ‘الرأي العام’، تلك يفعلها السياسي الباحث عن الأصوات، والمثقف غالباً ما يكون متصادماً مع الرأي العام لأنه يتحدث عن مستقبل: عن عدالة اقتصادية واجتماعية، عن حريّات اجتماعية وسياسية كاملة غير منقوصة، عن بنى جديدة تقام على أنقاض القديم.
فليراجع جرامشي اولئك الذين يكذبون باسمه كل يوم. المثقف لا يكذب. المثقف ينسجم مع نفسه: لا يقول أنه معارض للحكومة الفاسدة ومن ثم يأخذ أموالاً بمئات آلاف الدنانير من نفس الحكومة الفاسدة ما بين دعم نشر ومكافآت لجان وإيجار مقر ودعم مؤتمرات، ويجتمع ليل نهار مع رموزها وقياداتها.
فليجيبنا هؤلاء ‘المثقفون العضويون’: من يدفع أجرة مقر رابطة الكتاب الأردنيين (التي يرأسها حالياً أحد عُتاة ‘المعارضين’) البالغة ما يقارب الثلاثين ألفاً من الدنانير؟ من يموّل مجلة الرابطة ومؤتمراتها؟ كيف يقبل رئيس سابق للرابطة خمسة عشر ألف دينار أردني هي قيمة جائزة التفرغ الابداعي من الحكومة التي يقول أنه ‘يعارضها’ لأنها فاسدة؟ بل كيف يقبل هذا المبلغ وهو على رأس موقعه رئيساً للرابطة؟ وكيف تقبل إحدى العضوات السابقات للهيئة الإدارية أموال نفس تلك الجائزة وهي تدّعي أنها مُعارِضة، وفوق كل ذلك تأخذ تلك الأموال وهي لا تزال على رأس عملها في عيادتها الخاصة بينما تنص تعليمات التفرّغ الابداعي بوضوح على ضرورة التفرّغ وعدم ممارسة أي عمل يدرّ دخلاً ثابتاً؟ أليس في تلك الأمور شبهات فساد واضحة؟
صدّع رؤوسنا أولئك المدّعون عن علاقة الثقافة بالسياسة، وهم ليسوا إلا مناورين على الكلمات والمفاهيم، فعلاقة الثقافة بالسياسة هي علاقة كاملة، مثل علاقة الثقافة بكل شيء آخر. فالثقافة ترتبط بـِ وتتفاعل مع كل الظواهر والمفاهيم مع العلوم والاقتصاد والاجتماع والجنس والدين وبالتأكيد: السياسة. لكن علاقة الثقافة مع السياسة لا يجب أن تكون علاقة تبعية، ولا يجب أن تكون علاقة نفعية أو انتهازية كما يحصل الآن، بل هي علاقة ضميرية كما قلت سابقاً، علاقة استشرافية مستقبلية، تصادمية مع الوضع القائم.
قد يكون من خطايا السياسي الكبرى تعامله مع ‘الأمر الواقع’، وتغيّره ‘التكتيكي’، ومحاولة وصوله إلى أكبر قدر من التوافقات مع الآخرين، وحصوله على القبول العام، المثقف لا علاقة له بكل ذلك: المثقف يعبر عن موقف حاد وضميري، وهو معنيّ بإحداث التغيرات الاجتماعية الكبرى لا الانسجام مع ما هو قائم، معني بالنقد لا بالتوافق. ولهذا فإن ما نشهده في ساحتنا الثقافية يؤشر الى أن لا علاقة لها بالثقافة (أو على الاقل: بهذا المفهوم عن الثقافة) لا من قريب ولا من بعيد، وأغلب مدّعي الثقافة هم انتهازيون متلوّنون لا ينسجمون مع ذواتهم.
ولأن المثقف الضميري غائب، ولأن من يحل محله الآن هو السياسي الانتهازي، فأن ما يسمى بـ’الحراك الاصلاحي’ في الأردن قد أخذ هذا الشكل بلا مواربات في إطاره العام، لأن من يقوده (بوضوح أحياناً وبمواربة أحياناً أخرى) هو السياسي الانتهازي، لا الايديولوجيا ولا البنى المعرفية ولا الدافع الطبقي ولا الحزب الثوري ولا المثقف الضميري الثوري.
الحراك في الانتفاضات العربية، وتحديداً في تونس ومصر واليمن وسورية، جاء شعبياً، ورفع شعاراً واحداً واضحاً لا لبس فيه هو: إسقاط النظام. الحال في الأردن لا يشبه هذا، فالحراك الشعبي ليس شعبياً في حقيقته، بل هو نخبوي: مجموعة من النخب التي تحاول ان تصنع لها شارعاً أو تدفع الشارع الى السير خلفها. من جانب آخر فإن هذه النخب لا ترفع شعارات واضحة، بل تنادي بشعارات ملتبسة لها أكثر من تعريف أو تأويل، وتتقاطع أغلبها مع الخطاب الرسمي للسلطة السياسية: فالاصلاح السياسي تفسره كل مجموعة بشكل مختلف، وكذلك الامر في موضوع مكافحة الفساد وتعريف الفاسدين، وكذلك موضوع الهوية (أردني/فلسطيني) الذي يُنتَج مرّة بعد مرّة للعمل على استمرارية شرخ الجسم الاجتماعي داخل الاردن لمصلحة استمرار هيمنة السلطة السياسية بصفتها حاجزاً وضامناً لجميع ‘الأجزاء’.
هذا ليس حراكاً للتغيير ولا يمكن أن يكون كذلك وهذه أبجدياته، وما يحصل في الأردن على مستوى الشارع هو صراع على الكراسي لن يؤدي الا الى تغيير في اسماء الجالسين عليها. هذا ليس حراكاً شعبياً للتغيير الحقيقي بل هو حراك نخبوي لاستعادة مقاعد في السلطة مع الحصول على حزمة قليلة من ‘المكتسبات’ التي ستعمل على المزيد من التنفيس الشعبي لفترة قادمة كما حصل بعد هبة نيسان 89 واحداث الخبز 96.
‘كاتب اردني