صفحات الثقافة

سيرة جورج أورويل.. رغماً عنه/ رلى راشد

 قيل في جورج أورويل إنه عبقري الاستباق ومؤسلب بارز ومفكّر سياسي ناهض الفاشية ولم يرأف بالستالينية. تردّد أنه كاتب سعى إلى إيجاد الجرعة الملائمة من الالتزام والصرامة والإنسانوية. غير أن اللافت في حكايته ظلّ دعوته التأليفية. رجل لم يتردّد في إنهاك أيامه بحثاً عن ناشر يتبنّى موهبته ويسعه التمييز بين القمح الأدبي وزؤان الهراء التدويني. 

أفصح البريطاني يوماً لأحد أصدقائه أنه سيحجم عن إصدار سيرته الذاتية، لتطلبّها من الكاتب فلش الحقائق كاملة وفتح خزائنه، في حين آثر هو التكتم على الزقزفة، وفضّل الصمت على التبذير الكلامي. تمسّك أورويل بحديقته السريّة، لكن من شأن مجموعة من كتاباته العَرَضيّة، الآتية في هيئة رسائل، أن تفتح بوابة الحديقة الموصدة.

على مرّ حياة وجيزة وإنما مكتظّة، إشتغل جورج أورويل ضابط شرطة في بورما وغاسل صحون في فرنسا وهو راسل الصحف من ألمانيا، يوم كانت مأخوذة إلى العنف الحربي. أراد أن يُبعد بعض شذرات الحكاية الشخصية عن الضوء، لكنها عادت لتطفو في كتاب “جورج أورويل: حياة عبر الرسائل” الصادر أخيراً بالإنكليزية لدى “ليفرايت بابليشينغ”. يأتي المؤلَّف بعد عام على نشر “يوميّات اورويل” التي ركّزت على تفاصيل عمليّة بل ومملّة في معيشه، بلغت حدّ إحصاء البيض الذي وضعته دجاجات القنّ في جوار منزله.

تولّى بيتر دافيدسون اختيار الرسائل وألحقها بملاحظات، لتستعيد بساطة اليوميات وتيمات أكثر عمقاً. تغطّي الرسائل عقدين من سيرة أورويل، اجتازها الكساد الكبير والحرب العالمية الثانية. في 1944، نقرأه في كلام كأنه راهن، يُعرب عن قلقه لميل مجايليه الى عدم تصديق وجود حقيقة موضوعية. ويعيد ذلك إلى تمسّكهم بملاءمة الوقائع كلام زعمائهم، زعماء معصومون عن الخطأ، دوماً.

في كتابه “الطريق إلى وايغان بيار”، لم يستطع جورج أورويل أن يتفادى تحوّله من كاتب وثائقيّ الى مُسجّل نَهِمٍ. راح يصف بأسلوب يصعب إغفاله رائحة الأحياء الفقيرة ليتحدّى أفكار الطبقة الوسطى البريطانية الموروثة في خصوص التصاق الروائح النتنة بأبناء الطبقات العاملة. والحال انه يطلع ناشر مجلة “ستراند” في رسالة مذيلة بتاريخ آب 1947، انه بدأ يهتم بالسياسة في 1936 في أعقاب محاذاته عمال المناجم في لانكشاير. سمحت له “الطريق الى وايغان بيار” على ما يضيف، بأن يتفحّص “الإختلافات الهائلة في مفهوم الإشتراكية” وأن يشاهد “الصناعة البريطانية في أسوأ حالاتها”.

يشير جورج أورويل الى اقتناع كل جيل بكونه أكثر فطنة من الجيل الذي سبقه، وأكثر حكمة من الجيل اللاحق. كأنه يشخّص ها هنا لعنة الخرافة الموروثة. ليجيء بخرافة شخصية متبصرة سمّاها “مزرعة الحيوانات” (1945) ويجعلها إدانة للتوتاليتارية. ها هنا الحيوانات، وبعدما سئمت سيطرة الإنسان على مزرعتها، تحاول إدارة شؤونها على نحو عادل. لكن الخنازير تخون المجموعة وتتبنى منطق أن “جميع الحيوانات متساوية، لكن البعض أكثر تساويا من غيرها”. تفترض هذه النبرة المتشائمة فشل الثورات في تحقيق مراميها، لأن أحدهم لا بدّ سيساعد “الخنازير” على قلب الطاولة. ترافق رسائل أورويل جزءاً وافياً من محطاته التأليفية فنقرأه قبيل نشر “مزرعة الحيوانات” يراسل شريك السكن القديم في لندن مايكل سايرز، حيث يرجع معاداته الستالينية إلى 1932 ويبيّن خشيته من استعداد أعضاء الحزب الشيوعي السريين، لفرض الديكتاتورية على بريطانيا.

ربما تفتقر النصوص المختارة إلى التوازن، لإبرازها أعوام النجاح وتهميش أعوام المعاناة، لكنها توفّق في كسر صورة نمطيّة أظهرت أورويل مقموعاً في عواطفه. يبعث برسالة إلى زوجته إيلاين في 1937 من المستشفى حيث يرقد مصاباً، ساكباً في الورق اشتياقه. أما خاتمة الرسائل فنصّ على كآبة رفيعة، على خلفيّة وعيه أن داء السل الذي أسقمه، غير قابل للشفاء.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى