صفحات العالم

الحرب الأهلية في سورية


مها بدر الدين:

نقلت وكالة أنباء الفاتيكان الرسمية أخيرا أخباراً عن تهجير المسيحيين قسراً في بعض مناطق المواجهة الثورية والقتالية بين النظام السوري ومناهضيه، وتم الحديث عن مسيحيي مدينة القصير الحدودية تحديداً والتي تعتبر مثالاً نموذجياً للتعايش السلمي والانصهار الإنساني بين مختلف الطوائف الدينية سواء السنية والمسيحية والعلوية والشيعية التي تقطن هذه البقاع منذ مئات السنين بانسجام أخوي فطري، ووئام سلمي عفوي، كان عنواناً مميزاً لهذه المدينة التي تربط الأراضي السورية بالأراضي اللبنانية المقابلة لها.

وقد نفى الاخوة المسيحيون في مدينة القصير هذه الأخبار المجهولة المقصد، وأعلنوا أن هجرة عائلاتهم كانت تزامناً مع هجرة الكثير من العائلات السنية وبرفقتهم هرباً من القصف العشوائي الذي تتعرض له مدينتهم والذي لا يفرق بين مسيحي ومسلم، كما نفى الثوار وقادة الجيش الحر في المدينة مطالبتهم لأبناء الطائفة المسيحية في مدينة القصير بالخروج منها كما روجت وكالة الأخبار المذكورة، وما زيارة الأب الإيطالي باولو لهذه المدينة الرمز باعتبارها أيقونة فريدة في الاندماج العرقي والديني، وتواجده بين الثوار المسلمين ومباركته لهم سوى تأكيد لهذه الروح التي تعم المدينة، وما احتضانه ممن تبقى من أهل المدينة من المسلمين السنة سوى دليل على أن مدينة القصير كبقية المدن السورية تضم نسيجاً إنسانياً مختلفاً ألوانه، يؤمن بسلمية الثورة ويؤكد على أن الشعب السوري واحد.

ان هذه الأخبار المتناقلة والملفقة إن دلت على شيء، فإنما تدل على استماتة النظام السوري في تغيير مسار الثورة السورية من ثورة اندلعت للقضاء على نظام حكم الفرد والتخلص من عبء أسرة الأسد التي أثقلت عاتق الشعب السوري باستبدادها التاريخي والانتقال إلى مستقبل أكثر حرية وكرامة وديموقراطية، إلى حرب أهلية وقودها الناس والحجارة، تأكل الأخضر وتحرق اليابس، وترمي في اتونها الوالد والمولود، وتحرق بنارها بلداً كان يوماً آمناً، وهو ما فشل فيه النظام حتى الآن رغم المجازر المروعة التي ارتكبها وصبغها بلون الطائفية، مستفزاً بممارساته الوقحة نزعات الانتقام والثأر الفطرية التي تدخل في تكوين النفس البشرية والتي نجح الشعب السوري حتى الآن بكبح جماحها.

وقد كثر الحديث دولياً في الآونة الأخيرة عن الحرب الأهلية في سورية، فبعد أن كان المجتمع الدولي يحذر من انزلاق الوضع السوري إليها، يصرح السيد هيرفيه لادسو مسؤول عمليات حفظ السلام في الأمم المتحدة، بأن سورية تعيش فعلاً حرباً أهلية، وأن لا وجود للسلام الذي يجب أن يحميه المراقبون الدوليون في مهمتهم، فإذا أضفنا إلى مثل هذه التصريحات تلك الاتهامات المتبادلة بين واشنطن وموسكو حول تسليح كل منهما لأحد أطراف النزاع السوري، وإعلان السيد أندرسن فوغ راسموسن الأمين العام للحلف الأطلسي أن التدخل العسكري ليس الطريق الصحيح لحل الأزمة في سورية، نجد وكأن المجتمع الدولي يرغب فعلاً في أن يصل الوضع السوري إلى حرب أهلية لتبرير تقاعسه عن إنقاذ الشعب السوري حتى الآن من ممارسات قوات النظام الأسدي التي تزداد عنفاً وإجراماً يوماً بعد يوم.

ورغم أن النظام السوري قد غير المسميات كعادته، فأطلق مصطلحاً جديداً على عملياته العسكرية غير الشرعية واصفاً إياها بعملية استئصال الإرهاب، فإن هذا يعتبر تلميحاً موحياً لضرورة وجود حرب أهلية في المنطقة، واعترافاً ضمنياً بالعمل على تأجيجها بين طوائف الشعب السوري المتعددة، وما تركيز ضربات سيفه على المناطق ذات الغالبية السنية سوى تأكيد على حرصه على إزكاء روح الفتنة وتأجيج نارها حتى الوصول إلى الحرب الطائفية التي يحاول جرجرة البلاد إليها منذ اللحظات الأولى لولادة الثورة الشعبية السورية، لضمان استمراره لأطول فترة ممكنة ومحاولة إعادة السيطرة على كرسي الحكم الأسدي الذي يقف على شفا حفرة من نار الثورة وبدأ يترنح في طريقه للسقوط في الهاوية.

بالمقابل يؤكد الناشطون على الأرض الملتهبة في سورية أن لا وجود لحرب أهلية على أرض الواقع، وأن جميع محاولات النظام لتكريس الفكر الطائفي في ممارسات مؤيديه وقواته تجاه الشعب الأعزل قد باءت بالفشل، لأن الشعب السوري في الداخل ما زال واعياً لهذه المحاولات المستميتة فيتصدى لها بكل حزم وقوة، إيماناً منه بأن الثورة على الاستبداد تعم ولا تخص، فهي ملك للشعب السوري برمته، لا فرق في مسببات الثورة ونتائجها بين سوري سني أو سوري مسيحي أو حتى سوري علوي، فالسوري على اختلاف مشربه ومذهبه قد عانى سابقاً من استبداد النظام الأسدي، ويدفع اليوم ضريبة مطالبته بحريته، وسيجني أولاده ثمار الثورة التي لن تكون حكراً على أحد.

إن الحرب الأهلية في سورية حتى الآن لم تظهر لها ملامح عملية تشير إلى وجودها، لكن المنطق يقول ان ما يجري على الساحة السورية من أحداث دموية تتسع دائرتها يوماً، واصرار قوات الأسد على إعادة السيطرة على العباد، ومضي الشعب في ثورته حتى تحرير البلاد، وتجاهل المجتمع الدولي حق الشعب السوري في مواصلة الجهاد، قد يوصلنا إلى حرب أهلية طائفية ثقيلة الوطأة بغيضة الهيئة، لن ينقذنا منها سوى تكاتف الشعب السوري ووقوفه بكل أطيافه وفئاته في خندق واحد يحميه ما قد تؤول إليه الأمور طالما مازال في القصر الجمهوري أسد يزأر خوفاً، ويبطش رعباً، ويعيش أيامه الأخيرة على المهدئات الروسية والمحفزات الإيرانية.

الرأي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى