صفحات العالم

براميل!


حسام عيتاني

تلقي مروحيات الجيش السوري براميل مليئة بالمتفجرات على المراكز المدنية التي يعتقد النظام أن عناصر «الجيش الحر» تتجمع فيها، على ما أظهرت لقطات فيديو وتقارير مراسلين صحافيين.

والحال أن الحروب تستعرض مضمرات المتحاربين ونظراتهم إلى بعضهم بعضاً. وتُخرج مكنونات المتقاتلين وتُعري نواياهم.

سلوك الجنود في ميادين القتال ليس انعكاساً أو إسقاطاً لخطط القيادة فقط، بل هو نتيجة التربية والإعداد المهني- العسكري والاجتماعي لمن عُبئ وسُلّح ودُفع به إلى ساحة الوغى بهدف واحد: القضاء على العدو. في القتال، يجد الجندي نفسه أمام سلسلة طويلة من الاختبارات النفسية والأخلاقية، ينجح أو يفشل في تجاوزها وفق القيم التي غُرست فيه مسبقاً.

والأسلحة التي تختارها الجيوش لا تُبرز الأهداف التي تسعى القوات إلى تدميرها فقط، بل أيضاً الكيفية التي يراد التدمير بها. المكون النفسي- الاجتماعي يحضر هنا حضوراً قوياً هو الآخر.

ربما يعلن اختيار بعض الضباط السوريين إلقاء براميل المتفجرات من المروحيات أشياء عن مستوى النظرة إلى العدو وتقييمه وفهم الضباط هؤلاء لمعنى الحياة والموت. الذبح بالسكاكين الذي شهدته بلدات الحولة وداريا وقرى حوران، يدخل هنا «الحيز الصناعي». وترتقي المجزرة من «المانيفاكتورة» إلى المكننة.

تقنياً، يعلم كل قارئ للعلوم العسكرية أن سلاحاً كهذا سلاح أعمى، غير قابل للتوجيه ولا يتسم بالحد الأدنى من الدقة لإصابة أي هدف يطلق صوبه. فالشكل غير الانسيابي للبرميل وطريقة إلقائه من المرحية وافتقاره إلى الجنيحات التي تحفظ الاتجاه (ناهيك عن أي أدوات ميكانيكية أو إلكترونية للتوجيه كالجيروسكوب، مثلاً)، يجعل من برميل المتفجرات أداة تدمير واسعة النطاق لا يستطيع مطلقها التمييز بين هدف عسكري ومركز مدني بحال. سلاح للقتل والدمار العميمين.

لكن، ككل تقنية، يأتي هذا الخيار محملاً بالمفاتيح النفسية والاجتماعية والسياسية لمستخدمها. فمن يقرر إلقاء برميل من المتفجرات على حي سكني أو قلعة أثرية أو مدنيين يحتشدون أمام فرن، لا يقول بفعلته هذه شيئاً مهماً عن درجة الولاء لقيادته «الحكيمة»، بل يعلن القطيعة مع مستقبل هؤلاء الناس الذين يعمل على محوهم مع بيوتهم وأطفالهم وأحلامهم وحياتهم اليومية.

فعندما شن صدام حسين هجومه الشهير بالسلاح الكيماوي على بلدة حلبجة الكردية، عام 1988 لم يكن يستهدف أهالي القرية وحدهم، بل كان يعلن أن ما باشره في «حملة الأنفال» من استئصال الكرد من أرضهم، سيستكمل وصولاً إلى الإفناء الكامل للمعارضة الكردية شمال العراق. ويوضح رؤية صدام للتعامل مع خصومه. والمثال هذا ليس فريداً في بابه إذ سبق صدام إليه هتلر ومحرقته وستالين وترحيله شعوب القوقاز والقرم إلى سيبيريا وكازاخستان.

يجوز الحديث هنا عن «عصاب» يسيطر على من ابتكر هذا السلاح. عصاب من الآخر ومن المستقبل في ظل حكم يترنح ولا يرى قادة جيشه بأساً في إبادة مواطنيهم بهذه الوحشية. ويعطي اللجوء إلى البراميل المتفجرة هذه علامة على مستوى الخشية مما ستحمله الأيام المقبلة التي لا راد لها بغير جعل كل من يسير نحوها ينقلب غباراً ورماداً.

بيد أن التاريخ فقير في نماذج الأسلحة التي نجحت في وقفه.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى