الحرب السوريّة كقوة تَقَدُّم اقتصادي: النظرية الجديدة لرئيس البنك الدولي/ جهاد الزين
كيف يمكن لمقال واحد أن يكون شديد الواقعية وسورياليّاً في آنٍ واحد؟ أخلاقياً وفضائحياً، أيضا في آن واحد؟ غاية في الإنسانية ومشجِّعاً على الإجرام السياسي أيضاً وأيضا في آنٍ واحد؟ لتعرف ذلك عليك أن تقرأ مقال رئيس البنك الدولي جيم يونغ كيم المدهِش والشديد الدلالة والاستراتيجي الذي وزّعه إعلام البنك الدولي على صحف عديدة في العالم وبينها “النهار” (نشرَتْهُ على موقعها الإلكتروني أمس الأول الخميس).
يقوم المقال على فكرة مركزية يطرحها رئيس البنك وهي ضرورة استيعاب المهاجرين بمن فيهم اللاجئون لنمو اقتصادات الدول المضيفة. وهو إذ يبدأ بنفسه كطفل مهاجر مع عائلته من كوريا عام 1964 إلى الولايات المتحدة الأميركية يشير إلى الفارق بين فئتي طالبي الهجرة بين مهاجرين ولاجئين، يعود ليوحِّدهما كفئة واحدة من ملايين البشر الذين ينتقلون إراديا أو قسرا إلى دول أخرى محيطة ببلدانهم المحترقة والمدمّرة وفي مقدّمهم اللاجئون من الحرب السورية.
بكل وضوح يقول رئيس البنك الدولي إن هذا اللجوء هو فرصة أكيدة للنمو الاقتصادي ويعطي مثلاً رئيسيا على ذلك منبهراً بالتجربة التركية مع لاجئيها السوريين المليون وتسعماية ألف لاجئ، إلا أنه يختم المقال باعتبار استضافة النازحين في الدول ذات الديموغرافيا المتراجعة ( أوروبا) هي “استراتيجية ذكية” لـ”مسيرة رائعة”!
يكتب: “… إلا أن كوريا، مثلها في ذلك مثل العديد من البلدان الأكثر ثراء، ترتفع فيها نسبة المسنين، وستحتاج الى ضخ عمال أصغر سناً إذا كان لها أن تواصل مسيرتها الرائعة على درب النمو الاقتصادي. ويكمن التحدي أمام عدد من البلدان المتقدمة في إدارة التغيير، وفي الترحيب بالمهاجرين واللاجئين بخطة ترمي الى مساعدتهم على التوطن، ومن ثم التحوّل مواطنين، بالضبط كما أصبحت مواطناً أميركياً وعمري 12 عاماً”.
“إنها استراتيجية ذكية، خصوصاً خلال هذه الفترات من النمو الاقتصادي العالمي المنخفض. فالبلدان التي ترحب باللاجئين وتساعد بلداناً أخرى بشكل منتج على استضافتهم، ستكون قد فعلت ما هو صواب، سواء لإخوانهم في الإنسانية الذين يعانون، أو للاقتصاد العالمي الذي سينمو بقوة أكبر على المديين المتوسط والطويل”.
إذاً هي دعوة واضحة لنقل قضية اللاجئين في أي بلد يعاني حربا من مستواها الإنساني إلى مستواها التنموي كاستراتيجية على الصعيد العالمي بما يمثِّله موقع البنك الدولي من أهمية وشمولية.
لا ينتبه ربما رئيس البنك الدولي إلى أن ما يقوله هو دعوة صريحة، ولا أريد أن أقول سافرة، لقيام الحروب في دول العالم الثالث. هكذا نقرأ بكل صدق إعلانا واضحا عن موقع الحرب كقوة تنموية في الاقتصاد العالمي! هذه موضوعة في غاية الجدية والخطورة عالجها علماء اقتصاد كما أشار إليها بل ركّز عليها في القرن العشرين كُتّاب نقديون. فجائزة نوبل قبل بضع سنوات ذهبت لعالميْ اقتصاد أميركيّين عن التأثير الإيجابي للعبودية في أميركا على نمو واتساع وتطور الاقتصاد الأميركي في القرن التاسع عشر. وهذا الرأي لم يكن طبعا تأييدا من العالِميْن للعبودية وتجارة الرق ولكنها خلاصة أبحاث علمية في تاريخ الاقتصاد. هي المرة الأولى في ما أعتقد التي يبلور فيها علنا رئيس للبنك الدولي فكرة أن اللجوء القسري، الذي يعتمد على قوى شابة قادرة على العمل، هو معطى بنّاء وحيوي لنمو اقتصادات “الدول الثرية”.
نعرف جميعا أن هذه ليست فكرة جديدة: استقدام عمال غير مهرة للمساهمة في وُرش اقتصادات دول تحتاج ديموغرافياً واقتصادياً إلى قوة عاملة شابة متدنية الأسعار لكنْ ربطها بحالة ناتجة عن حرب هي الجديدة، من حيث العلنية على الأقل.
“الكيمياء” التي يلجأ إليها رئيس البنك الدولي هي استخدام تقاليد الهجرة الشرعية العريقة لدولة مثل أميركا مع ظاهرة تدفّق اللاجئين من بلد يعاني حربا عنيفة وشاملة كسوريا. وضعهما معا وكأنهما يندرجان في سياق واحد محصلة اقتصادية تنموية واحدة رغم اعترافه بالاختلاف “الهائل” بين مصادرهما وكلفتيهما الإنسانيّتين.
إذا كان رئيس البنك الدولي يرى كل هذه الفضائل التنموية للاجئين من الحروب في الدول المضيفة، ولاسيما في الغرب، ألا يعني هذا دعوة لتشجيع الحروب كمصدِّر للنمو الديموغرافي وبالتالي الاقتصادي؟
يعني ذلك حتما. كأنه لا يكفينا انهيار “الحوكمة” أو ما يُعبَّر عنه بـ”الدولة الفاشلة” من حيث الإدارة والمؤسسات صار علينا أن نتحمّل نظرية ” الحرب كقوة تنموية” ديموغرافية للبلدان المتقدمة!
أنجيلا ميركل، المستشارة الألمانية أعلنت حاجة الاقتصاد الألماني لاستقبال جزء من اللاجئين غير الشرعيين، كذلك عدد من الدول الرئيسية الأوروبية، لكن لم يذهب أحد أبعد مما ذهب إليه رئيس البنك الدولي: التصريح، ومن دون خبث، بحاجة الشمال إلى الحروب لسد بعض النّقْصَيْن الديموغرافي والتنموي.
لأن مناسبة مقال السيد جيم يونغ كيم هي أوضاع الاجئين السوريين بدت الدعوة في وجهها الآخر فجة وكئيبة. نحن لسنا هنا أمام تقليد الهجرة الإرادية القانونية للنخب العلمية والكفاءات الهاربة من ضيق الفرص السياسية والاقتصادية في بلدانها. نحن هنا أمام نماذج بلدان تشتعل فيها الحروب وتُشْعَل فتَقذف هذه الحروب، في بعضها، جزءا كبيرا من السكان إلى خارج حدودها.
الكل يعرف أن الحروب تقليديا هي فرصة للشركات الكبرى لتحقيق مصالحها خلال القتال وبعده في “إعادة الإعمار”، ولكن هذه هي المرة الأولى التي نسمع فيها من على المنبر المرموق للبنك الدولي عن الحروب كقوة تنمية إنسانية. أو لنجعل التقسيم أكثر دقة: تنمية مصالح اقتصادية مصدرها دول الجنوب وتنمية مصالح إنسانية عبر اللاجئين مسرحها دول الشمال. من المصدر- الحرب إلى المسرح- الاقتصاد تنبني كل مقولة السيد جيم يونغ كيم ومادتها البشرية هي ملايين اللاجئين.
المطلوب سيد كيم توضيح استراتيجية الحروب هذه، “الاستراتيجية الذكية” طبعاً ولكنْ القاسية والخطيرة جدا على ما يبدو من المنطق الذي يحكم خلفية مقالك الإنساني.
لكل ذلك، وبما يليق بحجم المؤسسة التي ترأس، عليك أن تخبرنا في مقال آخر عن خطط البنك الدولي لدعم النمو في سوريا والعراق وليبيا واليمن بعد الحرب أو خلال مسار وقفها بعد أن أصبح شعار وقف الحرب بأي ثمن ، بالنسبة لمعظم السوريّين، هو الشعار الأكثر أخلاقية ( لا تفوت السيد كيم الطرافة حين يقول بكل جدية، كما لو أنه يلقي بنكتة بريطانية، أنه لا يتوقع طبعا أن يرى قريباً سوريين حاملين للجنسية الكورية أو “سوريّين كوريّين” حسب تعبيره في النص الإنكليزي).
أشكرك على المقطع الذي خصّصت لبنان والأردن فيه كبلدَيْ استضافة يحتاجان إلى المزيد من الدعم الدولي .وإن كان عليّ أن أترك للقارئ التعامل مع الجزء الآخر من مقطعك اللبناني الأردني عندما تتابع فيه القول:
“بيد ثمة حاجة الى مزيد، فاللاجئ اليوم يظل في المتوسط لاجئاً لفترة تصل الى 17 عاماً. ولذا، فإننا نحتاج الى ما هو أبعد من المساعدات الإنسانية لنضع حلولاً إنمائية. إذا استطاعت البلدان المضيفة أن تحدّد مساراً للاجئين للمشاركة في الاقتصاد – كما تفعل تركيا – فإن الجميع سيستفيد. هذه الفوائد ستكون أعظم حينما يُقْبَل اللاجئون من البلدان الغنية، خصوصاً تلك التي يتناقص سكانها”.
آمل معك أن يظل لبنان بلد ضيافة للاجئين السوريين فلا تشمله لاحقا “الاستراتيجية الذكية”. أي “الاستراتيجية” التي تعيده مجدّداً كبلد حرب، طالما أن الخيار الوحيد الذي يرسمه لنا منطق مقالك هو بين الحرب عند جارتنا والاستضافة عندنا.
أخيراً… الجملة التي نقصت من مقالك الهام هي: كيف نبني استراتيجية تنمية تمنع الحروب في العالم الثالث وتحديداً في العالم العربي المنكوب بمستبدّيه وحروبه على ضفافه الآسيوية والإفريقية؟
النهار