الحرب باسم مستعار/ عبده وازن
كان الغرب خلال العام المنصرم «يحتفي» بالذكرى المئة لنشوب الحرب العالمية الأولى 1914 مستعيداً أهوالها ومآسيها ومُغرقاً في سبر أغوارها المظلمة، وأنظاره مصوّبة إلى البقعة المشتعلة من الشرق، شرقنا العربي، وفي يقينه أنه ليس ببراء من حروبها التي هي بمثابة مختبر له، عسكري وسياسي… عالمنا العربي لم يبدُ معنياً بذكرى الحرب الأولى مع أنها شملته وكانت له فيها مآس وثورات، فهو تكفيه الحرب المندلعة في عمق داخله وعلى الأطراف، وهي من أعنف الحروب وأشدّها استلاباً، أهلية وإقليمية ودولية، دينية وأيديولوجية، بربرية وحديثة، حقيقية و«افتراضية»…
بين ذكرى حرب عالمية مضى عليها مئة عام وحرب راهنة، عربية –عربية يشارك فيها أصوليون من بلدان قريبة وبعيدة، يبدو المشهد مأسوياً وغرائبياً ومدعاة للقلق والشك، لا سيما بعد دخول «الحلفاء» ساحة المعركة وإن من بعيv. حرب تدور في سورية والعراق واليمن وليبيا وعلى تخوم لبنان وفلسطين وفي قلب فلسطين، هي حرب العرب جميعاً، مجتمعين ومنقسمين، ثواراً ومتسلطين، تقدميين ورجعيين.
كانت الثورات هي الحدث في العالم العربي، الآن أضحت الحروب هي الحدث. بات الكلام عن الثورة خجولاً بعدما اغتيلت الثورات سواء عسكرياً أو سياسياً. والذين اغتالوها ليسوا مجهولين وفي مقدمهم الغرب نفسه الذي كان أول من رحب بها، ثم الأصوليون الذين عملت الأنظمة الدكتاتورية، والنظام السوري مثالاً، على تهيئتهم ليلتهموا الثورة وأهدافها النبيلة ويحلّوا محلها بصفتهم أعداءها الجدد.
يعيش العالم العربي الآن أبشع الحروب وأغربها. حرب أصابت منه القلب والروح وأرجعته إلى الوراء عقوداً، على خلاف الحرب مع إسرائيل التي على رغم عثراتها وخيباتها، خلقت وعياً وطنياً عميقاً وثقافة مواجهة لئلا أقول مقاومة، بعدما أسبغت عليها مواصفات أصولية ومذهبية. الآن مَن يقاتل مَن في العالم العربي؟ اختلط العسكري والمدني، الديني والسياسي، في حرب مفتوحة لا نهاية واضحة لها، بل ليس واضحاً منها سوى نهاية مأسوية رهيبة. حرب أهلية يشارك فيها غرباء على مرأى من العالم والأمم المتحدة ومجلس الأمن وسائر المنظمات الدولية. يتفرجون علينا مثلما تفرجوا ويتفرجون على حروب «الآخرين»، مثلما تفرجوا ويتفرجون على حرب احتلال فلسطين. لقد مات «النظام العالمي الجديد». يحتاج إلى من يرثيه فقط. والعولمة التي وعدتنا بما سمته «القرية» العالمية هي التي تفتّت العالم اليوم وتبعثره. وكم أوهمتنا هذه «العولمة» أن الحروب ستدخل حقبة الاحتضار وستصبح في حال «الرمق الأخير». ولكن سرعان ما نشبت حروب جديدة، حروب ذات وجوه جديدة، ذات أقنعة جديدة. على أن اللاعبين هم أنفسهم، يقودون اللعبة ويُملون قواعدها بحسب مصالحهم وغاياتهم. فالحرب ليست حربهم وإن شاركوا فيها، وهم ما عادوا ينتمون إلى «دول في الحرب» بل إلى «دول الحرب»، والفرق بين المقولتين بيّن وشاسع. وهذه الدول، دول العالم الأول، لا يهمها بتاتاً أن تخوض حرباً بـ»الوكالة» إن لم تكن هذه الحرب مصدر رزق لها ونفوذ. وخير دليل على هذه النية الحرب التي يخوضها «الحلفاء» الجدد في الشرق، ضد الجماعات الأصولية من «داعش» و»النصرة» وبقايا «القاعدة»… حرب يخوضونها من غير أن يعدّوها حربهم. وهي لن تحمل صفة الحرب «الشاملة» على غرار الحروب التي خيضت تاريخياً. «الحلفاء» يخوضون الحرب بـ»النظارات» كما يُقال. وهذه الحرب لن تكلفهم إلا القليل جداً، لكنهم سيجنون منها. هذه ليست حرب دول، ليست الحرب التي تصنعها الدولة ولا الحرب التي تصنع الدولة، كما تم وصف الحرب سابقاً. «لم تعد الحرب تجرؤ على إعلان اسمها» يقول عالم الاجتماع الفرنسي بيار هاسنر. لكنها قادرة على أن تحصل بلا اسم أو باسم أو أسماء مستعارة.
الحروب، أياً تكن أسماؤها ومواصفاتها، تظل حروباً. إنها القدر المأسوي نفسه، قانون العالم الذي ليس بقانون، إنها الموت والرعب والخراب والنزوح ووو… لم يعد في مقدور شاعر أن يقول مثلما قال الشاعر الفرنسي ابولينير في قصيدته «وداع الفارس»: «آه كم الحرب جميلة»، وإن في قبيل السخرية. الحرب بشعة مهما بلغت فيها البطولات، مهما بشرت بخلاص أو سلام أو عدالة. الحرب بشعة. كل النظريات السابقة سقطت. إننا، إنني أكره الحرب مدركاً إنني أكرهها بصفتها قدراً. ولكن مهما كرهنا الحرب فلا الكراهية قادرة على إسقاطها من المفكرة ولا الفكر ولا الثقافة ولا الأخلاق ولا المثاليات كلها. كراهية الحرب لن تعني البتة أنها ستزول من ذاكرة الأمم والجماعات والأفراد. وأبشع مثل هو ذاك الذي يُردد دوماً: «إذا أردت السلام فتهيّأ للحرب». هل يأتي يوم نقول فيه: «إذا أردت السلام فتهيأ للسلام»؟
الحياة