باختراعه ذلك الهتاف الشهير: “الله يريد”، تمكّن البابا أوربان الثاني، الذي كان أول من دعا إلى بدء الحروب الصليبية، من إثارة الحماسة الدينية لدى الملايين من الأوروبيين الذين استجابوا لدعوته، وتطوّعوا في الجيوش التي جُهّزت لبدء تلك الحملات بما يشبه “الهيجان الوبائي” كما سماه فولتير.
يضع جان كلود جويبو في كتابه “على خطى الصليبيين” رسالة فولتير التي وصف فيها أولئك المتطوّعين للقتال في حروب البابا أوربان بأنهم “عصابة من فرسان قلقين، يعشقون التبذير والحرب، غارقين بأكثريتهم في الجرائم التي يجرّها الفجور، وفي جهالة مخجلة كفجورهم”.
ثم قال: “لم تر العصور القديمة أبداً مثل هذه الهجرات التي أُنشئت بحماسة دينية”. وكان البابا يطمئن الناس: “لست أنا، وإنما الرب هو من يدعوكم.. كي تسارعوا وتطرحوا هؤلاء الرعاع السفلة من المناطق التي يسكنها إخواننا”.
ولقد تضمّنت دعوة البابا ما سيُعرف في التاريخ الأوروبي بـ”صكوك الغفران”: “وإذا ما فقد الذاهبون إلى هناك، أي إلى المشرق، حياتهم أثناء السفر في البر أو البحر، أو في القتال ضد الوثنيين، فإن ذنوبهم ستُحطُّ عنهم في هذه الساعة”.
والحقيقة هي أن البابا تمكّن من صياغة هذه العبارة بطريقة تتماشى مع المقاييس المطلوبة للشعارات، دون أن يكون أول من يمنح الحرب الخارجية صفة القداسة؛ فقد خيضت معظم الحروب، وخاصة لدى المجتمعات المتديّنة تحت عباءة الرب، أو الأرباب.
ولدى الديانة اليهودية كتاب غير مقدّس سُمّي “حروب الرب”. وخُيّل إلى جورج بوش الابن أن الله أوحى له أن يغزو العراق، في الوقت ذاته الذي كان فيه صدام حسين يترجم وحياً آخر بعبارة مكتوبة على العلم العراقي هي: الله أكبر. وها هو بطريرك الكنيسة الروسية يهتف “إن الله يريد حرب روسيا في سورية”.
استُخدم الله دون أي خجل، أو خشية من أنه ذاته لا يوافق على هذه الارتكابات الشنيعة التي تتسبّب بموت الآلاف من البشر من أجل المصالح، ذلك أن أي عاقل يعلم أن أي بابا من الغرب أو من الشرق لم يأخذ أمراً من الرب لخوض الحروب. كما يعلم أن أي حاكم ليس وكيلاً مفوّضاً له.
ستفخر الشعوب العربية بأنها ابتكرت الشعار الجديد الموازي لشعار البابا أوربان الثاني: “الشعب يريد”، وهي شهادة ستُوضَع بالتأكيد في الملف التاريخي الخاص بها. ولعل هذا هو ما قسّم العالم المعاصر إلى فريقين، غير أن المريع أن فريق “الله يريد” هو الذي يملك أدوات الهجوم، بينما لا يملك فريق “الشعب يريد” سوى حناجرهم.
في رواية “الحرب والسلم” لتولستوي، يقول نابليون بعدما وضع التاج على رأسه: “الرب وهبه لي، فويل لمن يمسه”. بن غوريون كان أشد صراحة حين قال: “يهوه غير موجود، ولكنه وعدنا بهذه الأرض”.
العربي الجديد
