الحزب الذي لم يعد قائدا للدولة والمجتمع…
ياسين الحاج صالح
لم تُرصد نأمة من طرف “حزب البعث العربي الاشتراكي” الذي كان “قائدا للدولة والمجتمع” طوال 39 عاما بشهادة الدستوري السوري الدائم لعام 1973، ثم لم يأت ذكره أو الإشارة إليه في الدستور السوري الجديد الذي يجري التصويت عليه اليوم. ولا تتوفر أية معلومات عما سيكون الوضع السياسي للحزب الحاكم في البلاد منذ 49 عاما. هل سيحتفظ بشار الأسد بموقعه كأمين عام له؟ وما سيكون الوضع القانوني لمقراته المنتشرة في كل مكان؟ وماذا سيحصل لـ”الجبهة الوطنية التقدمية” التي كان الحزب يتحمل أعباء قيادتها، بعد أن أضحت بلا قائد؟ وما سيكون حال المنظمات الشعبية، “طلائع البعث” و”اتحاد شبيبة الثورة” و”الاتحاد الوطني لطلبة سورية”، فضلا عن اتحادات العمال والفلاحين والصحفيين والكتاب، وعن النقابات المهنية، وكلها يرأسها بعثيون، ويشغل بعثيون المواقع الأساسية فيها؟ وماذا بشأن القوانين التي تُجرّم “معاداة أهداف الثورة”، وهناك الآن من هم في السجن بهذه التهمة؟ وماذا بخصوص الجيش العقائدي، بعد أن لم تعد عقيدة حزب البعث قائدة، على ما تشهد مقدمة الدستور الجديد؟
لكن كيف أمكن إقالة الحزب القائد من موقعه القيادي بسهولة، دون أن يُشكر، ودون تصريح توضيحي من أمينه العام أو قيادته القطرية أو القومية، أو بيان وداعي من الحزب نفسه للمجتمع والدولة اللذين تجشم مهام قيادتهما العقود الطوال؟ وهذا بعد أن كانت قيادة الحزب لدولة السوريين ومجتمعهم “خطا أحمر”، على ما صرح قيادي في الحزب قبل شهور، محمد سعيد بخيتان؟
أقيل البعث بكل بساطة لأنه كان مقالا منذ عقود، ومنعدم الشخصية السياسة طوال عقود. لم يكن حزب البعث هو الذات السياسية الحاكمة في سورية طوال سنوات الأسد الأب، أي منذ ما قبل صدور دستور 1973. الذات السياسية الحاكمة في سورية هي ما نسميه المركب السياسي الأمني، الرئيس أيام الأب المؤسس والعائلة الأسدية اليوم، ثم الأجهزة الأمنية ووحدات عسكرية مولجة حصرا بوظائف حماية النظام. في السنوات الأخيرة، وبعد “لبرلة الاقتصاد” رسميا إثر مؤتمر لحزب البعث الاشتراكي نفسه في صيف 2005، انضم إلى هذه النواة الصلبة مكون مالي، يشغل “أبناء المسؤولين” موقعا قياديا فيه، لكنه يشمل أيضا محاسيبهم ومحظييهم من القرايب والحبايب.
أما الحكومة التي تشارك الرئيس في السلطة التنفيذية، حسب الدستور الجديد، فهي منزوعة السلطة والسياسة كليا. رئيس الوزراء والوزراء موظفون رواتبهم عالية، ويظهرون على أجهزة الإعلام الحكومية، لكن دورهم تنفيذي وإداري، وغير سياسي. ومثلهم مجلس الشعب، فليس له سلطة ذاتية، ولا حتى في مجال التشريع، بقدر ما هو ممر لتشريعات ينزل الوحي بها من الرئيس وأركان نظامه، ومن هؤلاء دوما مقربون ينشطون في مجال المال والأعمال، تُفصّل بعض التشريعات على قياسهم، وبعلم مسبق منهم.
كل ما يمكن اعتباره من “الدولة”، الحكومة والإدارة والبرلمان والجيش العام (تمييزا عن وحدات النخبة المعنية بأمن النظام) والمؤسسات التعليمية والصحية والخدمية…، كلها فاقدة للسلطة والاستقلالية؛ وكل ما يعتبر من “النظام”، المركب السياسي الأمني المالي، فاقد للصفة العامة أو الوطنية. لذلك ليس من شأن التخلص من هذا النظام الخاص أن يتسبب في خراب الدولة العامة، بل هو المدخل إلى تحررها بالأحرى.
وإنما لذلك، أعني لأن مركز السلطة الفعلية هو بيد “النظام”، فإن الدستور الجديد والتصويت حدث غير سياسي ودون سياسي. ما يمكن أن يكون حدثا سياسيا هو ما يطال سلطات ومواقع ذلك المركب المسيطر.
لا ينال الدستور في شيء من سلطات “رئيس الجمهورية”، ويُبقي في يديه صلاحياته كلها، بما فيه تسمية رئيس الوزراء ونوابه وتسمية الوزراء ونوابهم. هذا رغم أن النظام السياسي سيقوم على “مبدأ التعددية السياسية”، على ما تقول إحدى مواد الدستور، المفارقة التي أظهرها هيثم حقي في مقالة له في “الحياة” الاثنين الماضي. وغير أنه القائد العام للجيش والقوات المسلحة ورئيس مجلس القضاء الأعلى، وبيده سلطة تشريع كبيرة، ويستطيع حل البرلمان متى شاء، الرئيس “غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه إلا في حالة الخيانة العظمى”. وحتى هنا ينبغي يتهمه بذلك ثلثي أعضاء مجلس الشعب في جلسة سرية التصويت فيها علني، وذلك بعد أن يكون ثلث أعضاء المجلس اقترحوا ذلك على الأقل! فإذا حصل وتوالت سلسلة المعجزات هذه، يُحاكم الرئيس الخائن أمام “المحكمة الدستورية العليا” التي تقول لنا مادة أخرى من الدستور الجديد إنه هو من يسمي أعضاءها السبعة!
وفوق ذلك منح الدستور رئيسا وارثا، يحكم البلد منذ نحو 12 عاما بالسلطات المطلقة إياها، فرصة أن يترشح للرئاسة مرتين أخريين، كل منهما سبعة سنوات. فإن لم يجر تعديل الدستور بعد 16 عاما من الآن، للتمديد له، أو لخفض سن الرئيس (عادت أربعين عاما!) من أجل توريث ابنه، فلن يحق لمن يأتي من بعده أن ينتخب إلا لمرتين.
حزب البعث المسكين ذهب ضحية “النظام”. لكن لا يبدو أن أحدا في السماء أو الأرض يقبل بضحية نباتية كهذه، معدومة القيمة السياسية تماما. والواقع أن التضحية بـ”الحزب القائد” تقول الكثير عن الضمير السياسي للنظام وموظفيه الذي أعدوا الدستور، فضلا عن الضمير السياسي لكل من روسيا والصين، وقد نصحتا السوريين بالمشاركة في التصويت على وثيقة احتيال تتذاكى عليهم، ولا تعدو كونها خدعة إضافية في حرب النظام ضد ثورتهم.
ومن شواهد فساد هذا الضمير السياسي أن مقدمة الدستور تتستر بالكامل على دوافع إصداره، بل تزوِّرها تماما. تقول: “ومنذ مطلع القرن العشرين واجهت سورية شعبا ومؤسسات تحدي التطوير والتحديث في ظروف إقليمية ودولية صعبة استهدفت السيادة الوطنية، مما شكل الدافع لإنجاز هذا الدستور كأساس لتعزيز دولة القانون”. فإذا أزحنا كذب الموظفين وأسيادهم جانبا، فإن الحقيقة البسيطة التي يعرفها الناس جميعا أن هذا الدستور ما كان ليصدر لولا أن النظام يواجه بثورة شعبية واسعة منذ نحو خمسين أسبوعا. وفي عالم الثورة هذه تقال أشياء غريبة، منها تعريف جديد للخيانة: “خاين ياللي يقتل شعبه”! تعريف ثوري حقا، تتأسس عليه وطنية أخرى، وطنية المقتولين أو الوطنية الاجتماعية.
لطالما أسبغ “حزب البعث العربي الاشتراكي” على النظام طابعا اجتماعيا وقوميا. واليوم يجري نزعه مثل قناع رث، لا ليظهر وراءه وجه ديمقراطي أو ليبرالي، بل لينكشف وجه النظام الحقيقي، الذي تجتمع فيه العائلية والفاشية.
من يأسف على “حزب البعث العربي الاشتراكي”؟