الحصّة الـمصريّة من السرياليّة: سرّاً ينْفضُ الفجر بتلاتِ القناديل
ترجمةوتقديم: رشيد وَحْتي
لأسبابٍ أهمّها نزْعةٌ مركزيّةٌ عربيّةٌ – إسلاميّةٌ، أهمل تاريخ الأدب العربي وحركيّة التّرجمة جزءًا أساسيًّا من الإنتاج الشّعريّ الحديث، كان الفاعل فيه آخرنا بتمظهراته الهامشيّة: لا عقلانيّةٌ إزاء العقْل، يساريّةٌ تروتسكيّةٌ إزاء النّاصريّة، تحرّرٌ ينظر له بعين الرّيبة لصدوره عن ذواتٍ تنتمي لأقليّاتٍ دينيّةٍ [قبطيّةٍ ويهوديّةٍ في غالبيّتها] أو مجنّسين [أعطوا لـمدينةٍ كالإسكندريّة طابعًا كوسموبولوتيًّا.]، إزاء ثقافةٍ أحاديّةٍ.
زدْ على ذلك أنّ السّرياليّة، أكثر من كلّ جديدٍ آخر، واجهتْ بصداميّتها حتّى الوسط الثّقافيّ الذي عايشتْه بشقّيْه الـمنْفتح والمحافظ.
■ ■ ■
كتحيّةٍ لـكـيّوم أپّولينيـرْ، اخْتارت الحركة النّاشئة من رحم الحرْب العالـميّة أن تتخذ لها السّرياليّة اسمًا. كان شاعرنا قد توفي في 1918، موقّعًا قبل ذلك بقليلٍ مسرحيّة ثدْيا تيريزياس مع تجنيسها باعتبارها “دراما سرياليّةً”. ويعرّفها أندري بروتون، في محاكاةٍ ساخرةٍ للغة الـمعاجم، في بيان السّرياليّة [1924]، كما يلي: “سرياليّةٌ، اسْمٌ مؤنّثٌ. آليّةٌ نفسيّةٌ خالصةٌ يقترح التّعبير بها، شفاهًا، أو كتابةً، أو بأيّة طريقةٍ أخرى، عن الاشتغال الواقعيّ للفكر. إملاء الفكر، في غياب كلّ مراقبةٍ ممارسةٍ منْ طرف العقل، خارج كلّ انشغالٍ جماليٍّ أو أخلاقيٍّ.” هكذا استثمر السرياليّون كافّة أشكال الكتابة التي سبروا بها أغوار اللاوعي: الكتابة الآليّة، التّوليف، الـمحكيّات الحلميّة، الحديث تحت تأثير التّنويم الـمغناطيسي، الألعاب الـمبنيّة على الكتابة الجماعيّة.
■ ■ ■
وقع اختيّارنا، في هذه الـمنتخبات، على الأسماء الثّلاثة الأهمّ تمثيلاً للسّرياليّة في حصّتها الـمصريّة: كانوا في صلب الحركة أو تثاقفوا معها [قراءةً عاشقةً وترجمةً وصداقاتٍ فكريّةً]. إِجمالاً، وِفقَ مقولة شهيرة: “سادْ سرياليٌّ في السّاديّة. هيـغـو سرياليٌّ عندما لا يكون بليدًا. پّو سرياليٌّ في الـمغامرة. رامبو سرياليٌّ في ممارسة الحياة وخارجها. سانْ- جونْ پّرسْ سرياليٌّ على مسافةٍ”. [أندري بروتونْ، بيان السّرياليّة، 1924]، يَسَعُنَا القَولُ، على نفسِ المنوال: إدْمونْ جابسْ سرياليٌّ في توليفاته الشّذريّة. جورج حنيْنْ سرياليٌّ في وجوديّته. جويْسْ منصورْ سرياليّةٌ في هوسها الجنسيّ.
■ إدمونْ جابسْ من مواليد القاهرة 1912 لأسرةٍ أرستقراطيّةٍ. يضطرّ في 1957 إلى مغادرة مصر، بسبب أصوله اليهوديّة، نحو باريس. كان مقرّباً من السّريالييّن، إلا أنه رفض الانضمام لحركتهم. لكنّ قصيدته مكتوبةٌ في صميم السّرياليّة، بشلالات صورها الفجائيّة. يتميّز شعر جابسْ أسلوبياًّ بالصّنْعة والوجازة، عبر شذراتٍ تحاول احتضان أشياء العالم. مثْل صديقه موريس بلانْشو، يحييّ جابسْ الصّمت والغياب بكلماته الملحاحة.
■ جورج حنين: القاهرة، 1914 – باريس، 1973. نشر في فبراير 1935، في القاهرة بيانًا طليعيًّا تغلب عليه نفحات السّرياليّة: بصدد اللاواقعيّة. نهاية أكتوبر 1936، يكتب أوّل خطاباته لـبروتون، الذي يردّ في 18 أبريل: “الرفيق العزيز، الحياة حتماً لا تكفي. لقد تركت خطابك من أوّل يناير إلى 18 أبريل بلا ردٍّ، مع احتمال أن أعيد قراءته لأتأكّد من ألاّ شيء يهمّني أكثر من القضايا التي يثيرها. يبدو لي أنّ للشّيطان جناحاً آخر هنا، والآخر في مصر […]”. في 1937، ينضمّ حنين للحركة السّرياليّة التي أصبح ممثّلها في مصر، مع جماعة الفنّ والحريّة [التي تأسّستْ في 9 يناير 1939]. بين الحربين، سينشط ضمن الحركتين السّرياليّة والاشتراكيّة الـمتماهيتين في التروتسكيّة. في 1960، يضطرّ — لازديّاد الـمضايقات — لـمغادرة مصر. بعد صراعٍ طويلٍ مع سرطان الرّئة، بباريس، تنفذ زوجته بولا وصيّته بدفنه في القاهرة، لا في مقابر الـمسلمين ولا في مقابر الأقْباط، احترامًا لخياراته العلمانيّة.
■ جويس منصور: باوْدنْ بإنـكـلترا، 1928 – باريس، 1986. مِنْ وجوه الحركة السّرياليّة الأساسيّة الّتي تجدّدتْ بها دماؤها بعد الحرب العالـميّة الثانية، ضمن ما اصطُلح عليه باسم الرّكب الثالث [بعد جيل الـمؤسّسين وجيل ما بين الحربيْن]. مع صدور ديوانها الأوّل صرخاتٌ [أواخر 1953]، صار الكتاب حديث الصالونات الأدبيّة في القاهرة والإسكندريّة، حديثاً بطعْم الفضيحة والصّدمة أحياناً. فوراً نال إعجاب جورج حنين وكتب عنه تعليقاً بتاريخ يناير 1954: “دون أيّ أدنى إعدادٍ أدبيٍّ، متأكدةً من استخفافها تجاه المعايير الشعريّة [ما يقال وفنّ قوله بطريقةٍ جميلةٍ]، أعطتْ جويس منصور لحدوسها صوتاً. نحن هنا في أجواء الكلمة اللحظيّة التي تعتبر امتداداً للجسد دون حلولٍ تمكّننا من المتابعة. لكلّ عضوٍ من الجسد لغته كتدفّق النّسْغ في النّبتة، كبركة دمٍ”. أما السّرياليوّن في باريس فقد اعتبروا جويس، مذاّك، واحدةً منهم. استمراراً لنفس الجذوة الشعريّة، وتماشياً مع روح السرياليّة، أصدرتْ جويس ديوانها الثاني “تمزّقاتٌ” ربيع 1955، ولاقى نفْس الاسْتحْسان لدى أعْضاء الحركة في فرْعيْها بالقاهرة وباريسْ. مع أزمة قناة السّويس والعدوان الثلاثيّ، وبعد تحذيراتٍ تلقّياها من مجموعةٍ من الأصدقاء، تضطرّ جويس، رفْقة زوجها سمير منصور، لـمغادرة مصر في سبتمبر 1956. بين 1956 و1966، ستجد جويس نفسها في خضمّ الحركة السّرياليّة، لا أسلوباً وجماليّةً شعريّةً فقط، بل أيضاً انتساباً تنظيمياًّ، نشاطاً جماعياًّ يومياًّ. بقيت جويْس وفيّةً، ضمن قلائل، لخطّ أندري بروتون، داخل الحركة السرياليّة، حتى النهاية. بل تكاد تكون، صحْبة الشاعر الفرنسيّ بنْجمانْ پري، أخلص الأعضاء لبروتون حياً ولـميراثه الفكريّ بعد رحيله.
- إدْمون جابِسْ: الحبر يروي ظمأ الأرض
أغنية ليقظة ورقاد أغنيتي
لأغنيتي المستيقظة باكراً جداً، فتاةٌ صغيرةٌ سقطتْ من السّماء لمراّتٍ عديدةٍ وقد تماهت مع الصّباح. لا تدري إلى أين هي ذاهبةٌ. النّحلة تدْهشها والزّهور تتملّك خطاها. الريّح تهبّ في يدها. منْتزعةً من الشّمْس، تتماهى مع الليل لمراّتٍ عديدةٍ فتاةٌ صغيرةٌ مكلّلةٌ بالعصافير. ثمّة بقع دمٍ تقتفي آثارها وكثيرٌ من الصّرخات في نظرتها، منْ أجل أغنيتي الّتي رقدتْ في وقْتٍ متأخّرٍ. [أغاني لوجْبة الغول، 1943-1945]
أغنيةٌ صغيرةٌ للماء الشّفاف
يقْطف النّجْمة عمْلاقٌ. له يدان محْروقتان. يصْطاد النّجْمة قزمٌ. يداه مثلجتان. يديران الظّهر لبعْضهما البعض حتى الصّباح؛ لأنّ أحدهما يُشْعل الماء عندما يطفئه الآخر. [أغاني لوجبة الغول، 1943-1945]
أغنية صغيرة للأغنية الأبديّة
لمْ يعد القصر العتيق ماثلاً إلا بفضل يد المُنشد الجوال. على الكمنْجة، تعزف أغنيتي الأثيرة. لا تخشيْ، أيتها الأميرة السرّية، النهار. تتربّص بيقظتك وردةٌ حمراء: إنها الشّمْس. ولا أن نقول، ما دامت بعيداً، إنها تزهر في الحديقة. [أغاني لوجبة الغول، 1943-1945]
أغْنيةٌ صغيرةٌ لأسْطورة حبٍّ
توقف الفارس الجميل عند الفسْقيّة وعبّ مِنْ فاهِ الأميرة المغمورة. أيتها الجنّيات الطيّبات اهْرعْن! لم يعدْ للحجر الـمغدور نفسٌ. لا ماء لكي تكون محْبوبةً، ولكنْ ثمّة فراشٌ مخرْمشٌ وخُفاّن، منْ فوقه. [أغاني لوجْبة الغول، 1943-1945]
أغْنيةٌ لصديقةٍ شقيّةٍ
هذا الصّباح، استيقظت العصافير قبل الشّجرة. أطلق شبحٌ كان ماراًّ صفيراً. سمعته الشّجرة وتمطّتْ. حطّت العصافير، بعد ذاك، فوق كلّ فكرةٍ، كما تحطّ النّحلة الشّرهة فوق النّهار. العصافير، الشّبح والماء الثقيل؛ فسمكةٌ سُحبتْ عن طريق القُرعة.
كنا عشرةً تحت الشّجرة نقشّر اللوز. كان الموتى مبثوثين في الطريق. مشمّرة الأكمام حتى الـمرفقيْن، بتواطؤٍ، كانت ثمّة امرأةٌ تدفن
الحبّ.
[أغاني لوجْبة الغول، 1943-1945]
أغْنيةٌ لخيْبة البحْر
عندما تغادر سمكةٌ مسقط رأسها، مقتاتةً للنّجوم؛ عندما يبحث سرطان البحر وجهه، خارج الرّمْل، مفتوناً بالغيمات؛ يحدث للبحر أنْ يتشقّق وللريّح أن تنهك في سبيل معالجته. عندما ترغب سمكةٌ في الرّحيل، عندما يرغب سرطان البحر في أن ينْوجد وعندما ترغب أغنيتي أنْ تنشد.. [أغاني لوجبة الغول، 1943-1945]
أغنيةٌ لجفنيك الـمطبقيْن
مشتهياً، يفرغ الغول ما حوله. يخيّم بالليل على ما حوله. لم يعد لليل المستهلّ من شكلٍ. بسرعةٍ، أطْبقي عيْنيْك. فالغول لا يلتهم منْ كانوا مستغرقين في السّبات. [أغاني لوجْبة الغول، 1943-1945]
أغنيةٌ صغيرةٌ لفاتح نيسان مِنْ خلال نافذة
تضْحك الفتيات عند النوافذ لإذلال المروج، تدوير أركان الأشجار، فكّ زمامات الجبال. تغني الفتيات عند النّوافذ لوشْم الليل، رشّ البحر بالمساحيق، إلهاب النّمْلة. تبكي الفتيات عند النّوافذ لإغراق المطر.. [أغاني لوجْبة الغول، 1943-1945]
القنديل
نحْلٌ بصخب العوْدة
حيث تستسلمُ كلّ زهرةٍ
الفجر ينفض سراً
بتلات القناديل الأخيرة [وسط الظّلال، 1955].
مسلّة منبوشة
دون جدوى، تدفنين اليديْن في الليل الورديّ لجسدك.
أيتها الفتاة الصّغيرة، أيّتها الفتاة الصّغيرة، أيّة غيْمةٍ ستعلّمك هذا؟
الدّم لا يغسلُ الدّم. [الذاّكرة واليد، 1974-1980]
- جورج حنين: حياةٌ قابلةٌ للإيواء
إمكاناتٌ
[إلى أندري بروتونْ]
ولِمَ لا نلتقي فوق جُسيْـرٍ مُدّ فجأةً بين كارثتين امرأةً ذات عينيْن منْ ركْضِ خيولٍ قد تحكي لنا عن اسمها الأبْهى في عبوره منْ هوّةٍ مكسوّةٍ بقماشاتٍ سوداء؟
ولم لا ننظّم أوقات غروبٍ هائلةً منْ وفْراتٍ ملوّنةٍ في مشهد الأفق الـمقْفر دوماً؟
ولم لا ننظّم أوْقات غروبٍ هائلةً منْ وفْراتٍ ذات فرْجٍ منْ راديومٍ قد تتحّدث مع الـمناظر وتُحْرقها عند كلّ عناقٍ وقد تبقى وحيدةً في وضحٍ يبْعث على الدّوار؟
ولم لا نخلّص جمْلةً ما لا يحْصى من الـمرايا الـمسمّرة لرأْس سرير الأرْض؟
ولم لا نجْعل الحياة قابلةً للإيواء؟
ولم لا نهْجر الشّهوات الـمعتادة والأقدار الّتي عِيْشتْ بما فيه الكفاية؟
ولم لا نفرّج جفون الطّرق اللعينة لنختفي في الليلة الأكثر عقادةً ونحن نذهب لكلّ مستقبلٍ بجسد امرأةٍ مجهولةٍ قطّعتْ إرْباً إرْباً بواسطة حلمٍ للشّحْذ دونما خوْفٍ من اليقظة؟ [خرْقات الوجود، 1938]
يكون صعباً أحياناً أنْ نتملّك حسّ الاتّجاه..
ولوْ داخل بيوتنا يكون صعباً أحيانًا أنْ نتملّك حسّ الاتّجاه. ترك صديقٌ عزيزٌ جداً نفسه هكذا يباغت بالـمرايا. نقرأ على بابه: «لا زياراتٍ قبل حلول الرّبيع». عذابه أليمٌ لكونه يمْقت الأمور التي لا تكون في الحسْبان. أشياء كثيرةٌ تحدث في مثْل هذه الحالة. ما أنْ تطيل الـمكوث قرب كائنٍ أو شيءٍ، ما أن نتتبّع بالأصابع مُنْحنى نهْدٍ، انْسحاق ضحْكةٍ، حتّى تشير إليك انتقاماتٌ غامضةٌ. كلّ منْ يتنفّس يتّهم إذّاك نفسه.
طفلةٌ تقفز بالحبل فوق بلاطٍ. وعندما لمْ يطقْ هذه اللّعبة، صعد شخصٌ ما وقطع الحبل. واصلت البنت القفز. قالتْ: «أنا في منطقة اللاّمرئيّ» كائنٌ للْمراقبة عن قرْبٍ. ربّما — إنْ لزم — صديقةٌ..
كيف لنا أنْ لا نبقى حالـمين عندما ننظر لأشباهنا ملياً؟ واحدٌ يطلب بم سيكتب، آخر يتراجع أمام حركةٍ بارعةٍ. ساعة الإغلاق نجد أنفسنا في نفس النّقطة. [اللاّ متوائم، 1949].
الـمرأة الدّاخليّة
جميلةٌ
كالصّاعقة واقفةً وسْط السّماء
لانتقاء شجرتها
مجهولةٌ
دانيةٌ بحيْث تخيفُ
مريحةٌ رغم ذلك
كاستراحةٍ في بلدٍ فاترٍ
ضوْء السّيارة
الذي يقبض في بؤْبؤه
إتّجاه الليل
متفتّتةٌ
ككمْشة أيْدٍ
بين كائنيْن بلا مستقبلٍ
صلبةٌ
كبدْءِ العالم
وجْه مغلقٌ
يرى مرّةً في الحياة
عبر الضّغط على الزّناد [اللاّ متوائم، 1949].
الشّرك
القدر فهدٌ شهوانيٌّ
واللّحظة حيث يهمّ بنا
تتّخذ — في المسْخرة الليلية الهائلة —
طعْم تهتّكٍ مسْلمٍ
فينْبلجُ ضياء المكان
لنتبيّن أنّ الجوْهريّ في الأمور
هو أنْ نحْفظ
الأشياء التي لم نعدْ نرْغب فيها. [العلامة الأشدّ إعْتامًا، 1977].
شفاهُنا مرتبطةٌ..
شفاهنا مرتبطةٌ بقدر كلماتٍ بالغة القدم
نحن على تخوم هاتِه الفضاءات الفسيحة البيضاء
حيث يبقى الإنسان على قيد الحياة بعد الحياة.
وحيث يتخلّص ماء العناقات منْ تجاعيده
ويحفر له بيتًا [العلامة الأشدّ إعْتامًا، 1977].
الهبّة
لمْ يعد الواجب والتّملّك
يقْرآن
في البلّوْر الـمجْنون للمعابد
للحْظةٍ فقطْ
منْ وراء جليد السّنوات اللامُجْدية
يتصاعد زخمٌ جديدٌ
منْ أعْين الـمحتفلين بالقدّاس
لحْظة استشْعار خطرٍ ومخالب
تضاعف بهاءٍ
عنْد سرير الغابة الفسيحة
حيث يضيع ثمن كلّ حركةٍ
■ ■ ■
بشاعة الغد
تكفي لدعْم الحلْم [العلامة الأشدّ إعْتامًا، 1977].
سمعْتُ ناقوس الخطر..
سمعْت ناقوس الخطر
ثمّ رأيت وجْهًا
فغطّيا بعْضهما البعْض كما في الحبّ
كانت ساعة الحقيقة
ساعة انطبق ساقا الفرْجار على
كائنٍ مصوّبٍ نحو نفْسِه [العلامة الأشدّ إعْتامًا، 1977].
أكتبُ الآن..
أكتب الآن لأناسٍ اختفوا
يصلني صدى
ضحْكة امرأةٍ ثملةٍ ذهب الصّباح بسكْرتها
وعندما انطفأت الضّحكة
أبرزَ درْسُ الـموسيقى الكراهيةَ
واقْتفى آخرُ رجلٍ هادئٍ
طريقَ الهاوية. [العلامة الأشدّ إعْتامًا، 1977].
العلامة الأشدّ إعْتامًا
على رابية النّظرة الأولى
مسافرٌ يستريح
قرب كتفٍ من رخامٍ
تدنو فلاّحةٌ
وتقضي سنيناً
لبسْط يد الـمجْهول
لأنّها ظنّتْ أنها وجدت فيها
علامة الـمغامرة الـمفتوحة
إنحسرت الأرض
تاهتْ الرّابية
ولم يعدْ يشكّل زوْج النّظرة الأخيرة
إلا شبْه جزيرةٍ
عالقةٍ بخطر شجرةِ زرْنبٍ. [العلامة الأشدّ إعْتامًا، 1977].
بدون عنوان
ورْدةٌ بيْن نهْديْن
قفّازٌ في الغبار
إمْرأةٌ تسْتجيب مداورةً لـمناداتها بأسْماءٍ عديدةٍ لا واحد منْها اسْمها
لا ينْبغي أكْثر منْ هذا كيْ تقْفز
أخْتام الرّوّح
وكيْ يزحْزح كلّ واحدٍ معْطف جلده
لا ينْبغي أكْثر منْ هذا
كيْ يسْتيْقظ الـمسافر
ليكون أوّل تأثّره في بلدٍ غريبٍ
شبيهًا بسنْبلةٍ سيوْلد منْها
خبْز الجحيم [نشرتْ بعْد الوفاة، 1981].
III. جويْس منصور: رغباتنا أمسْ أحلامك غداً
الـمسمار منْغرسٌ في وجنتي السماويّة، القرون الّتي تنمو خلف أذنيّ، جراحي النازفة التي تلتئم أبداً، دمي الذي يصير ماءً الذي يذوب الذي يضمّخ، أطفالي الّذين أخنقهم وأنا أستجيب لرغباتهم؛ كلّ هذا يجعل منيّ سيّدكمْ وإلهكمْ.
[صرخاتٌ، 1953]
■ ■ ■
دعْني أحبّك. أحبّ طعْم دمك الثّخين. أحْفظه طويلاً في فمي الأدْرد. اضْطرامُه يحْرق حلقومي.أحبّ عرقك. أحبّ مداعبة إبْطيْك الرّقْراقيْن فرحًا. دعْني أحبّك. دعْني أنشّف عينيْك الـمطبقتيْن. دعني أخْرقهما بلساني الـمدبّب، وأمْلأ تجْويفيهما بلعابي الظّافر. دعْني أُعْميك.
[صرخاتٌ، 1953]
■ ■ ■
مكائد يديْك العمْياء فوْق نهْديّ المرتعشيْن، الحركات البطيئة للسانك المشْلول في أذنيّ المجيّشتيْن للعواطف، كلّ فتنتي الغارقة في عينيْك دونما بؤبؤيهما، الموت في بطنك وهو يلتهم دماغي؛ كلّ هذا يجعل منيّ آنسةً غريبةً.
[صرخاتٌ، 1953]
■ ■ ■
عصافير صغيرةٌ ترفرف بأجنحتها تحْت إهابك المشْدود في عينيْك العميقتين، مجنونةٌ بالخوف الذي يزحْزح السّماء غيْر مفكّرةٍ إلا في طيراناتها فيما مضى كفرائس حيّةٍ لصياّد طيورٍ أحْمق.
[صرخاتٌ، 1953]
■ ■ ■
تحبّ النّوْم في فراشنا المخرْمش. عرقُنا العتيق لا يُنفّرك. إزاراتنا الموسّخة بأحْلامٍ منسيّةٍ، صرخاتنا الّتي تضجّ بها الغرفة المعتمة؛ كلّ هذا يهيّج جسدك الجائع. وجْهك القبيح يشْرق أخيراً لأنّ رغباتنا أمْس أحْلامُك غداً.
[صرخاتٌ، 1953]
■ ■ ■
أدْعوني لقضاء اللّيْل في فمكمْ. إحْكوا لي فتوّة الأنْهار. اعْتصروا لساني على عيْنكم الزّجاجيّة. هبوني ساقكمْ كمرْضعةٍ. ولْنغْف يا أخ أخي لأنّ قبلنا تموت أسْرع من اللّيْل.
[تمزّقاتٌ، 1955]
■ ■ ■
شرحْت للقطّ المخطّط أسباب الفصول وقواعد البوم، خيانة الأصدقاء، حبّ الأحْدبين، وولادة الأخْطبوطات ذات الأذرع الخفاّقة الّتي تدبّ في فراشي والتي لا تحبّ المداعبات. أصْغى القطّ المخطّط دون رمْشٍ ولا جوابٍ. وعندما انصرفْتُ كان ظهْره المخطّط يضْحك.
[تمزّقاتٌ، 1955]
■ ■ ■
أنا اللّيْل. هذا الليل ذو الفضاء المجمّد ببلادة القمر الباردة. أنا النّقود، النّقود التي تأتي نقوداً دون أنْ تدري لماذا. أنا الرّجل، الرّجل الذي يضْغط على الزّناد ويطْلق الانفعال كي يحيا أحسن.
[تمزّقاتٌ، 1955]
■ ■ ■
أحْلم بيديْك الصامتتيْن، المجدّفتيْن على الأمواج الخشنة المتقلّبة الأطوار والمسيْطرة على جسدي دون إنصافٍ. أرتعش. أذبل وأنا أفكّر في الجمْبري. الهوائيات الجواّلة المرّة في الرّبح التي تدْعك مَنيّ السّفن الراّقدة لتبْسطه فيما بعْد على القمم في الأفق، القمم الخاملة المعفّرة بالأسماك حيث أسترخي في كلّ اللّيالي ممتلئة الفم، مكسوّة اليديْن، كشاطئٍ مسرْنمٍ مملّحٍ بالقمر.
[كواسر، 1960]
■ ■ ■
اتّبعْتُ الطّريق الموازي خلف نسيج العتمات الحريري الرّقيق الشّفاف. بيْن أفْخاذ أسْلافي ترْشق اللّغة العبْرانيّة، يبْدأ الفنّ حيْث تنتهي الرّغبة.
[الـمقْطع الأوّل منْ متواليّة:
أحاليل ومومياءات، 1969]
- ملحقاتٌ: وثائق
بيان: يحيا الفنّ الـمُنْحطّ
كتب البيان احتجاجًا على حظر هتلر للْفنّ التشكيليّ الحديث بدعوى أنّه منْحطٌّ، ولحلّه قسراً حركة/مدْرسة الفارس الأزرق1 Blaue Reiter ومطاردته نشطائها. وقد نشر البيان على ظهْر نسخةٍ من لوحة بيكاسو الشّهيرة غـرنيكا Guernica التي تدين إبادة الطّيرانيْن النّازيّ والفرنكاويّ لقريةٍ باسْكيّةٍ بنفس الاسم. وقد تمّ حصار البيان إعلاميًّا، عدا إشاراتٍ قليلةٍ في بعض الصّحف النّاطقة بالفرنسيّة.
(ر. و)
من الـمعروف أنّ الـمجتمع الحاضر ينظر بعين الاشمئزاز إلى كلّ خلقٍ جديدٍ في الفنّ والأدب، طالـما يهدّد النّظم الثّقافيّة التي تثبّت قدم الـمجتمع، سواءٌ أكان منْ ناحيّة التّفْكير أوْ منْ ناحية الـمعنى.
ويظهر هذا الشّعور بالاشمئْزاز جليًّا في البلاد الأتوقْراطيّة النّزْعة، وخصوصًا في الـمانْيا، حيْث يتجسّم التّعدّي الشّنيع ضدّ الفنّ الحرّ الذي دعاه هؤلاء الغشم الفنّ الـمنْحطّ.
فمنْ سيزانْ إلى بيكاسو، وكلّ ما أنجزته العبقريّة الفنّيّة الـمعاصرة، هذا الإنتاج الكثير الحرّيّة والقويّ الشّعور بالإنْسانيّة، قدْ قوبل بالشّتائم وديس بالأقْدام. ونحْن نعْتقد أنّ التّعصّب للدّين والجنْس أوْ للْوطن، الذي يريد بعْض الأفْراد أنْ يخْضع له مصير الفنّ الحديث، ما هو إلّا مجرّد هزْءٍ وسخْريّةٍ.
نحْنْ لا نرى في هذه الأساطير الرّجْعيّة إلّا سجونًا للْفكْر. إنّ الفنّ بصفته مبادلةً فكْريّةً وعاطفيّةً دائمةٍ، تشْترك فيها الإنْسانيّة جمْعاء، لنْ يقْبل مثْل هذه الحدود الـمصْطنعة. في ڤْيينّا الـمتْروكة الآن للْهمج، يمزّقون صور رونْوارْ، ويحْرقون مؤلّفات فْرويْدْ في الـميادين العامّة. إنّ الـمع منْتجات كبار الفنّانين الالـمان، أمْثال ماكْسْ إرْنْسْتْ وپّولْ كلي وهوڤْر وكوكشْكا وجورْجْ ﯕـْروسْ وكانْدنْسْكي، قدْ صودرتْ وأحلّ محلّها الفنّ النّازي العديم القيمة. كذلك في روما أخيرًا، شكّلتْ لجْنةٌ لتنْظيف الأدب!! وقدْ قامتْ بمهمّتها، وقرّرتْ سحْب كلّ ما هو ضدّ القوْميّة وضدّ الجنْسيّة، وكذلك كلّ ما يعود إلى التّشاؤم.
يا رجال الأدب ويا رجال الفنّ، لنقفْ معًا ونقْبل التّحدي. يجب أنْ نقف في صفّ هذا الفنّ الـمنْحطّ، ففيه كلّ آمال الـمسْتقْبل، لنعْملْ لنصْرته ضدّ العصور الوسْطى الجديدة، التي يحاولون بعْثها في قلْب أوروبّا مرّةً أخرى.
القاهرة في 22 ديسّمْبرْ 1938
وقد وقّع الفنّانون والكتّاب والصّحفيّون والـمحامون على هذا البيان، وأسْماؤهم كما يلي: إبراهيم واسيلي، أحمد فهمي، إدوار بولاك، إدْوار ليڤي، أرْمانْ أنْتيسْ، البيـر إسرائيل، البيـر قصيْري، التّلمْساني، ألكْسندرا ميتْشْكويڤْسْكا، إميلْ سيمونْ، أنْجلو بولو، أنْجلو دْريزْ، أنْورْ كاملْ، أنيتْ فديدا، أ. بوليتسْ، لْ. كانتّي، جرْمينْ إسْرائيلْ، جورج حنيْن، حسين صبحي، أ. رافو، زكريّا العزّوني [عضو نقابة الـمحامين]، سامي رياض، سامي هانوكا، اسْكاليت، عبد الخالق العزّوني، فاطمة نعْمت راشد، سيف الدّين، محمّد نور، ندّاف سيليـر، هاسْيا، هنري دوماني .
رسالة جورْج حنيْن إلى أندري بروتون في القطيعة مع الحركة السّرياليّة
وقع، في مايّو 1948، سوء تفاهمٍ بيْن الـمصْريّين والفرنْسيّين بسبب مشاركة السّرْياليّين في بيْع لوحاتٍ لصالح إنْشاء “دوْلة” إسْرائيلْ. كما بدأ حنيْنْ يبْتعد عن الجمود العقائديّ والكهنوتيّ الذي بدأ يدبّ في الحركة السّرْياليّة وبسبب اْلانْشقاقات والطّعنات الـمتتاليّة الـموجّهة للْحركة. وفيما يلي النّصّ الكامل لخطاب خروج حنيْنْ من الحركة، الذي أرْسله لبْرطونْ، والذي يعْتبر بحقٍّ مراجعةً نقْديّةً لتاريخ الحركة وجرْد حسابٍ صارمٍ لـمسار الشّاعر في قلْبها، مع الإشارة لكوْن الانْتقاد موجّهًا لأسْلوب العمل أكْثر منْه لروح السّرْياليّة وتوجّهها.
(ر. و)
باريس، 26 يولْيو 1948.
عزيزي أندري بروتون،
أكتب هذه السّطور دون مرحٍ ولا كدرٍ. ليْس قرار ترْك جماعةٍ من لدْن مَنْ لمْ يفقدْ احْترامه لها مع ارتباطك بها على مدى 12 عامًا منْ أنشطتها الـمشْتركة2 منْ تلك القرارات التي تؤخذ بقلبٍ هنيٍّ. أؤكّد توًّا أنّي لمْ أجدْني مختلفًا مع الـمواقف الجوهريّة للسّرياليّة، وأنّ الأسْماء التي استرشدْت بها هي لي عوْنٌ دائمٌ. وأخيرًا، فسبلها في البحْث منْ أكْثر ما يحفّزني.
ألسْت، في الحقيقة، متأثّرًا بإثْبات أنّ ما حافظ على روح السّرياليّة منذ نهاية الحرب هو أفْعالٌ وأعْمالٌ فرديّةٌ، في حين أنّ كلّ منْ نزع نحو التّعبير الجماعيّ انتهى بإخفاقٍ أليمٍ، هذا إذا لمْ يفجّر الصّرح الشّامخ؟ ولقياس درجة حرارة السّرْياليّة بيْن عاميْ 46 و48، لمْ أعْرفْ أفْضل منْ معارض بْروْنْرْ Brauner وماطّا Matta. لك الخيار في تجاهلْ هذه الأمْثلة الحقيقيّة والاسْتسْلام إلى رغْبةٍ مرْعبةٍ في تجْديدٍ لنْ يؤدّي إلى تجْديدٍ ضحْلٍ في راهن السّرْياليّة، حيْث تباشر إعادة ترْتيب وتكْثيف قيّمها الـموجّهة.
بصفتي مناهضًا للسْتالينيّة والـمسيحيّة في نفْس الآن، شاركْت في تحْرير قطيعةٌ افْتتاحيّةٌ، ولمْ أساومْ على توْقيعي البيان الأخير. مثيرةٌ للضّجر هذه البيانات الـمتعاقبة — والتي لا يمْكن لها إلاّ أنْ تعْدو عملك الشّخْصيّ — التي لمْ تبدّد الضّيْق الذي ازْداد وطْأةً وسط الجماعة. إنّها لمْ تنْجحْ، وبالأخصّ البيان الأخير، إلّا في جعْل هذا الضّيق أكْثر وطْأةً والـمناخ العامّ للْجماعة أقلّ تحمّلًا. أنا لا أدّعي هنا أنّي أقدّم تفْسيرًا، لكنّي لا أسْتطيع التّوقّف عن التّأْكيد أنّ كثيرًا من الـمبادرات — منْذ سنتيْن — قد اتّخذتْ لعدم توافر الأفْضل3، أيْ بإضْرارٍ وتحدٍّ صارخٍ للْمتطلّبات الجوْهريّة التي قامتْ عليْها السّرْياليّة دوْمًا. لقدْ قلْت لي بنفْسك أنّ Néon4 جديرةٌ بـ جهْد أصْدقائنا الشّبّان.. في انْتظار الأفْضل. منْ صواب رمْسيسْ يونانْ جوابه أنّ البيان5 الذي رفض توْقيعه كان أفْضل من لا شيْء. وإذْ نصل إلّى أفْضل منْ لا شيْء، فسوْف توافقني على أنّ كلّ الـمثبّطات تبْعث على الإحْباط، وسوْف تتّفق معي أنّ أيّ مشْهدٍ لنْ يوضّحه أكْثر من الـمشْهد الذي أتيحتْ لي معاينته، والذي لمْ أشْهدْ له مثيلًا: سرْياليّون يهْزؤون ببيانٍ يحْمل توْقيعهمْ، أوْ — مع فرْقٍ بسيطٍ — يسْخرون علنًا منْ مجلّةٍ يشاركون فيها. ومادام الجديد مطْلبك الملحّ، فهذا هو الجديد بالتّأْكيد. فحالة الجماعة في الواقع هي الحالة الوحيدة والـمقْلقة التي تفكّر في علاجها عنْ طريق التّضْحيّة ببعْض منْ لا يطأْطئون الرّأْس كثيراً، وهي ليْستْ إلّا نتيجةً أو انْعكاسًا لـمبادراتٍ تعسةٍ أعْجبك أنْ تشجّعها أوْ أنْ توافق عليْها. إنّ مجلّة نيونْ ومعْرض مثْل، في كلماتٍ قليلةٍ، مبادراتٌ لا تحْمل جديدًا، بلْ إنّها ترْتكس بحنقٍ شديدٍ وتتراجع عنْ عددٍ لا بأْس به منْ أشْياء كانتْ في حكْم المكْتسب.
أنْت حرٌّ في تجاهل أفْكارهمْ6 عنْ نيونْ في لنْدنْ، وبوخارسْتْ والقاهرة. أنْت حرٌّ في أنْ تسْعد بعددٍ من التّوْقيعات، دون أنْ تهْتمّ بدلالاتها والأفْكار الـمتخفّيّة التي تعوّد عليْها عددٌ من الـمنْتسبين.
دعْني أقول لك: لا شيْء أفْضل منْ نيونْ ومثْل. وحتّى يوجد شيْءٌ أفْضل منْهما سيظلّ الصّمْت التّظاهرة السّرْياليّة الأجْدر بالاحْترام.
مع تحيّاتي.
رسالةٌ منْ أندري بْروتونْ إلى جويْس منصور
يتذكّر الشاّعر الفرنْسيّ ألانْ جوبيـرْ Alain Joubert: “كان أندْري بروتون يحدّثنا عن هاته القصائد بحماسٍ.” وتحتوي مكْتبة ذخائر أندري بروتونْ نسخةً من ديْوان صرخاتٌ، كانتْ أرْسلتْها7 له جويْس بالإهداء التاّلي: “إلى السّيدْ أندري بروتونْ بعْض هاته الصّرخات تحيّةً. ج. م.” وما كان منْ رائد الحركة السّرْياليّة إلا أنْ ردّ برسالةٍ هي الأوْلى ضمْن أرْشيف الشاّعرة، اعتبرتها جويْس “يداً ممْدودةً لها” ودعوةً للالتحاق بالحركة السّرياليّة. هنا نصّها الكامل.
(ر. و)
باريسْ، الأوّل منْ مارسْ 1954.
أحبّ، سيّدتي، عبق الأوْرْكيدة السّوْداء — البالغة السّواد — الفواّحة منْ قصائدك. كان قدْ أثار انتباهي إليها عمودٌ في جريدة كفاحٌ Combat [بقلم آلانْ بوسكي] صدر منذ أياّمٍ: أمام موقف كاتب العمود منها لم أرْتبْ قطّ في أنْ أفضّلها كثيراً على تلك القصائد التي أطرى عليْها. فبدأت للتوّ أبحث عن ذاك الـمغلّف الـمبْعوث الصّغير، ربّما يكون ضائعاً وسْط مغلّفاتٍ أخرى تصلني ويحْدث لي أنْ لا أفتحها. ولكنْ لا، منْ حسن حظيّ أنّ ثمّة سحْراً اسْتشْعرْته في حالةٍ مثْل هذه. لمْ يصلْني، أو لتقولي: كان لمْ يصلْني بعْد. وقد قرأْته دفعةً واحدةً هذا الصّباح وسأعيد قراءته بجرعاتٍ صغيرةٍ، بين الفينة والأخرى، بطريقةٍ تليق به. لقد تركتْ فيّ هاته الكلمات [كلمات الإهداء] أثراً كبيراً، كتابتك التي كان لطفاً منك أنْ ترْفقيها بالدّيوان. لا أحبّ إلا الجنيّة، وها أنت قد بعثتها منْ جديدٍ. بينها جميعاً، القصيدة الّتي تفتتح الصّفحة 24 خلابةٌ. أقبّل يديك. لعلّه تناهى إلى علْمك أنيّ في خصامٍ مع جورج حنيْن8. للأسف: لسْت أنا — ولا حتىّ هوّ، ربّما — منْ رغب في ذلك.
أندري بروتون 42، شارع فونطين
الـمقاطعة IX
*هذه الـمادّة مُجْتَزَأَةٌ منْ كتاب بعنوان “سرًّا ينْفض الفجْر بتلات القناديل [الحصّة العربيّة من السّرْياليّة] الإلكترونيّ، وتُنشر هنا في ملحق “كلمات” باتفاقٍ خاصٍّ مع منشورات “انتهاكات” الرقميّة ومدوّنة جورج باتايْ: www.facebook.com/bataille7
1 حركةٌ تشْكيليّةٌ، تأسّستْ في مْيونيخْ سنة 1910. كان يديرها ڤاسيلي كاندنْسكي Vassily Kandinsky، وكانتْ ذات نزوعاتٍ أمميّةٍ لمْ ترُقْ، بالتّأْكيد، هتلر “الاشْتراكيّ-الوطنيّ”!
2 يبْدو أنّ حنيْنْ يشير إلى التّنْسيق الـمشْترك بيْن جماعتيْ باريسْ والقاهرة.
3 التّشْديدات منْ جورج حنيْن.
4 مجلّةٌ سرْياليّةٌ تأسّستْ سنة 1948.
5 سنة 1948، يرْفض التشكيليّ السّرْياليّ الـمصْريّ توْقيع بيان إلى مرابض الكلاب يا منْ يعْوون باسْم الله، ويعْتـزل نهائيًّا جماعة باريسْ. لقد اعتبر رمْسيسْ يونانْ أنّ انْتقاد السّرياليّة للدّين قد اسْتنْفذ نهائيًّا مع بنْجامانْ بّري Benjamin Péret، وبدا له أنّ هذا التّوقّف سيقود حتْمًا إلى التّقهْقر. تبصّر فنّانٍ مهمٍّ غبنتْه الحركة وتاريخها حقّه!
6 في صيْف 1948، ازدادتْ خيبة حنيْن بعْد انتقادات بعض أعْضاء جماعة انكلترا للمجلّة.
7 أرسلتها جويْس لبْروتونْ، في 1953، تبعاً لنصيحةٍ من جورج حنيْن. وسيكون ذلك ممهّداً لـمراسلاتٍ ولقاءاتٍ بين الاثنين كانت مصيريّةً في تحديد مسار جويْس الإبداعيّ.
8 بدأ الخلاف، في مايوّ 1948، بسوء تفاهمٍ بيْن الفرْع الـمصْريّ للحركة والفرع الباريسيّ، بسبب مشاركة السّريالييّن بفرنسا في بيْع لوحاتٍ لصالح إنشاء دولة إسرائيل. ولمْ يكنْ اعتراض السّرْيالييّن الـمصرييّن مبنياً على أحقادٍ على اليهودْ أو موافقاً لطموحاتٍ قوميّةٍ سادتْ آنذاك في العالم العربيّ، بل مبْنياًّ على أسسٍ علمانيّةٍ وأمميّةٍ — هي منْ صميم روح السّرياليّة — تعارض تأسيس أيّ كيانٍ على العرْق، الديّن، اللغة أو أيّة هويّةٍ ضيّقةٍ. بدأ حنيْن، بعدئذٍ، يبتعد عن الجمود العقائدي والكهنوتي الذي بدأ يدبّ في الحركة السّرياليّة وبسبب الانشقاقات والطّعنات الـمتتاليّة الموجّهة للحركة.
كلمات
العدد ٢٨١٨ السبت ٢٠ شباط ٢٠١٦
(ملحق كلمات) العدد ٢٨١٨ السبت ٢٠ شباط ٢٠١٦