الحضور السوري في معرض تونس للكتاب/ مها حسن
“هذا اللقاء تحية من معرض تونس الدولي للكتاب إلى الروائيين السوريين الذين يبحثون، في واقع متدهور عاصف مليء بالدم والعنف والكوابيس والخيبات، عن سرد يمنح للفوضى العارمة معنى يكشف الوضع الإنساني الاستثنائي”. وردت هذه العبارات في تقديم موضوع الندوة المبرمجة على هامش ندوات معرض تونس الدولي للكتاب، المنعقد هذا العام منذ الرابع والعشرين من الشهر الحالي، ولا يزال مستمراً حتى لحظة كتابة هذه المادة، حيث شكّل الحضور السوري تواجداً استثنائياً، إذ ضمت الندوة التي حملت عنوان “الرواية والمنفى”، أسماء أربع كتّاب سوريين، ثلاث روائيات هن: شهلا العجيلي ـ سوسن جميل حسن ـ مها حسن، والناقد صبحي حديدي الذي أدار الندوة. وسبب نعتي الحضور السوري بالتواجد الاستثنائي، هو كون الأسماء المشاركة في الندوة من السوريين فقط، بينما غلب على الجلسات الأخرى، مشاركة عدة أسماء من دول عربية متعددة، في الندوة ذاتها.
تواجد الأدب السوري كذلك في ندوة اليوم التالي، ولكن بالتقاسم مع الأدب العراقي، إذ اجتمع كل من الناقد والروائي نبيل سليمان والروائية سوسن جميل حسن، مع الروائية إنعام كجه جي، والروائي أحمد سعدواي، ليتحدث أربعتهم عن الرواية العربية والحرب، ويدير الندوة الروائي التونسي كمال الرياحي.
أما عن الندوة الاستثنائية، السورية المحضة، فكانت بالنسبة لي، ككاتبة أشارك فيها، التجربة الأولى التي أتقاسم فيها المنصّة مع السوريين، إذ سبق لي أن شاركت في عدة ندوات ومحاضرات، تقاسمتها مع أصدقاء مصريين وتونسيين ولبنانيين وغيرهم من الأصدقاء العرب، مع قراءة واحدة تقاسمتها في القاهرة مع الشاعرتين: السورية رشا عمران، والمصرية إيمان مرسال. لكن الندوة السورية في معرض تونس للكتاب، كانت تضم أسماء سورية فقط، وجاء هذا كما ورد في المقدمة التي اقتطفتها من نص التقديم من البرنامج الثقافي للمعرض، كتحية من معرض تونس للروائيين السوريين. وكانت لفتة مهمة من إدارة المعرض، للتعبير عن التعاطف مع التجربة السورية، في الأدب على الخصوص.
التجربة الأولى
إنها تجربتي الأولى إذن مع الأسماء السورية فقط، والتجربة الأولى لمشاركتي مع الروائيات السوريات.
ولأن الحديث عن المنفى، فقد كان للمنفى بعض فوائده بالنسبة للأدب السوري، حيث خرج من عنق الزجاجة الأمنية، وصار للكاتب السوري حضور أكثر في العالمين العربي والغربي، إذ كان التمثيل الثقافي السوري مقتصراً إما على الكتاب المحسوبين على النظام، والذين يقترح النظام أسماءهم، أو على الفئة الأخرى من الكتاب المعارضين الذين يعيشون خارج سورية. ودون إنكار بعض التجارب النادرة التي كان أصحابها يتواجدون ثقافياً في الخارج، وهم غير محسوبين على النظام، ولكنهم يعيشون داخل البلد، دون أيضاً تجاهل المضايقات التي كانت تحدث لهم من النظام وصحبه.
بفضل المنفى، وحتى لا تنحصر كلمة المنفى بالألم والعذاب والابتعاد القسري عن الوطن، استطاع الأدب السوري التواجد في العالم، حتى أنني استطعت، ككاتبة أعيش خارج سورية، ليست لدي اتصالات مع زملائي في الداخل، بفضل المنفى، بناء جسور مع هؤلاء الكتّاب، الذين تعرفت إليهم والتقيت بهم، في هذا المنفى.
تحدثنا نحن الكاتبات الثلاث عن المنفى، سوسن تحدثت خاصة عن منفى السوريين الحالي الكبير، وشهلا قدمت نظرة أكاديمية اشتغلت فيها على المنفى كأستاذة جامعية، وحاولت أنا تقديم شهادة عن المنفى من خلال تجربتي خلال السنوات التي أمضيتها خارج سورية، دون حقّ العودة خلال تلك السنوات، قبل وبعد الانتفاضة السورية، كما استعملتُ من تعبير، أقرّ غالباً أنني أخذته من السيد صبحي حديدي.
أما عن الحرب والرواية، الندوة المشتركة بين السوريين والعراقيين، فقد كانت كذلك مقاربة لحضور الرواية السورية في السنوات الست الأخيرة، بينما تحدث الصديق أحمد سعداوي عن كتاباته داخل جو الحرب، واعتياده على فضاء الحرب، حيث نما داخل تلك البيئة المقتتلة، وكأن الحرب أمر لا بد منه، أو كأن الحياة دون حرب، ليست موجودة بالنسبة إليه ككاتب عراقي.
كان هناك كتّاب من حربين إذن: من حرب قائمة وكتّاب لم ينجزوا بعد نصوصهم، أعني التجربة السورية، ومن حرب اتضحت ملامحها، وأنجز كتّابها أعمالهم داخل محيطها.. وهذا أيضاً يقودنا إلى جدلية الكتابة أثناء احتدام الحدث، أو ضرورة الانتظار لحين نضج المواقف واتضاح الصورة، إذ أعرب الناقد والروائي نبيل سليمان عن تأييده لفكرة الكتابة أثناء الحدث، وهو ما عبّرت عنه الروائية كججي بطريقة ما، حين قالت إنه أمام الحرب، لا يمكن للكاتب أن يقف مكتوف القلم.
هوامش الندوات
يعرف أغلب المشاركين في الندوات من هذا النوع أن النقاشات تستمر بين المتحاورين الأصدقاء، إلى ما بعد انتهاء الأوقات المخصصة لهذه الندوات، حيث ضيق الوقت من ناحية، وضرورة إتاحة الفرصة للحضور القادمين خصيصاً لهذه الندوات، يجعلنا نؤجل اشتغالاتنا وتساؤلاتنا، فتتاح لنا الفرص المتعددة، لإعادة تحليل وطرح التساؤلات، كأننا نتابع الندوات ولكن ضمن نطاق ضيّق، نحن الكتّاب، جمهوره والمنظّرين داخله، لنعيد طرح الهواجس ذاتها، فلا نتوقف لساعات عن التحدث عن الأجواء التي نكتب بداخلها، نحن الكتاب الذين تعيش بلادنا حالات الحرب، ونقارن بين النصّ المكتوب من داخل الأرض المشتعلة (حالات كل من أحمد سعداوي ونبيل سليمان وسوسن حسن، كمتواجدين في المعرض)، أو النص المكتوب من بُعد، حيث يعيش كتّاب هذه الأرض المشتعلة في المنافي (حالة كل من إنعام كججي ومها حسن وغيرهما).
ذهبنا، نحن الكتّاب السوريين، إلى تونس إذن، البلد المضياف على صعيدي الشعب والنخبة، وقد جاء بعضنا من المنافي (صبحي حديدي الذي مضى أكثر من ثلاثين عاماً على تواجده في باريس، وأنا نفسي بمرور أكثر من ثلاثة عشر عاماً على العيش خارج سورية، وشهلا العجيلي التي تقيم في الأردن ويمكن وصف إقامتها، قياساً إلى الابتعاد عن سورية، القسري حالياً، خلال سنوات الحرب، منفى بطريقة ما، حتى ولو اختلف العيش في البلد العربي كثيراً عن نظيره في بلاد الغرب)، وبعضنا جاء من الداخل (نبيل سليمان وسوسن جميل حسن)، لتطرح العلاقة بيننا، نحن الكتاب الذين يعيش بعضهم في المنفى، وبعضهم في الوطن، إشكاليات مختلفة في الكتابة، وفي العلاقة مع الآخر. فبالنسبة لي، أنا المنتمية إلى حد كبير إلى فرنسا التي أملك حقوقاً كاملة فيها، من انتخابات وحرية تعبير واعتراض، وكافة حقوق المواطنة، أشعر بانزياحات الانتماء إلى البلد الذي صار بعيداً عني، والذي تحول إلى مريض يحتضر أحياناً وأحياناً يقال أنه شُفي.. فأنوس بين أنه وطني، حين يمرض، وأنه ليس لي، حين قد يشفى ويستقل عن عاطفتي المريضة صوبه، ومشاعر الذنب التي تجتاح المنفيين القسريين أو الطوعيين..
ندوتان إذن: الحرب أولاً، والمنفى ثانياً، تكادان تكونان عنواناً رئيسياً للرواية السورية الحالية، وللروائي السوري، حيث انتهى به المقام، إما العيش والكتابة في ظل الحرب، أو الكتابة في المنفى، ولكن أيضاً، وغالباً، عن الحرب.
وتبقى بلاد الآخرين، العربية والغربية، فضاءً للقاء الكتاب السوريين، وفرصة لتتمة النقاشات التي قطعتها الحرب في سورية، ومنحها المنفى فرصة الاستمرارية.
ضفة ثالثة