الحكم هو المقدَّس،لا الأرض/ دلال البزري
كم من الشهداء والمال و… و… دفع المصريون والسوريون من أجل الأرض؟ حرب الـ1967 والهزيمة، وإحتلال إسرائيل لمزيد من الأراضي، الجولان وسيناء. ثم حرب العام 1973، المسماة “حرب تشرين”، وقبلها “الإستنزاف”، وقد انتهت ببقاء الجولان السورية محتلة، واسترجاع سيناء المصرية، بعد سنوات، بشروط مجحفة.
الآن، ماذا يفعل عبد الفتاح السيسي بخصوص الأرض؟ هو الذي تدثّر، في أول أيام انتزاعه السلطة من “الإخوان المسلمين”، بجلْباب جمال عبد الناصر، وأمعن في قومويته وشعبويته، ليؤكد على أصالة هذا الجلباب، وعلى محوه إرثَيّ مبارك والسادات…؟ ماذا يفعل؟ يعيد جزيرتين، تيران وصنافير، من أصل تلك الأرض التي أُريقت من أجلها دماء، وهُدرت في سبيلها مصائر، إلى مالكيها “الأصليين”. مقابل ماذا؟ مقابل مبالغ طائلة من الأموال، تنقذ خزينته المفْلسة وتعينه على ترسيخ حكمه.
لا نعرف بدقة رأي جموع المصريين بهذا الردّ للأرض إلى “أصحابها”. والمعلقون موزعون بين من يثبت “سعودية” الجزيرتين، ومن يفعل العكس تماماً، متشبثاً بمصريتها. والتظاهرات الجماهيرية التي اندلعت رفضا لهذا التنازل، لا تعطي فكرة دقيقة عن حجم هذه المعارضة. فلننتظر… ولكن في هذه الأثناء، مفارقة هائلة تحكم الرفض الرسمي، وربما الشعبي، لإعادة مثلث حلايب والشلاتين، الواقع في أقصى جنوب مصر، إلى السودان. لسبب بسيط، كما قال أحد المعلقين المصريين “لأن السودان أفقر من مصر”، أي ان السودان لا يملك ثمن إستعادته للمثلث، ولن ينالها بالمجان، بطبيعة الحال؛ لذلك فان المثلث أرض مصرية. وعلى الرئيس السوداني، عمر البشير، أن يكون على نفس درجة شجاعة السيسي بالتنازل عن أرضه! “هل يملك (البشير) شجاعة الرئيس السيسي وحكومته، في قضية الجزيرتين لكي يعترف وحكومته بسيادة مصر على مثلث حلايب شلاتين… كما اعترف السيسي بسعودية الجزيرتين؟” (عباس طرابيلي. “المصري اليوم”).
في الضفة الأخرى من شرق المتوسط، على الجبهة الشامية، كانت قدسية الأرض ترتدي لبوس البعثية الشامية، المموّهة، المعقدة، المتنكّرة بألف قناع. بعد تضحيات حربي 1967 و1973، سكتت جبهة الجولان لمدة خمسة عقود؛ أثناءها تعاملت الأسدية الحاكمة على خطوط لا تحصى؛ أوضحها لبنان، الذي مُنح للبعث، بعد العبث به، كـ”جائزة” ترضية عن الجولان. فكان شريكاً للإيرانيين في رعاية “حزب الله” الذي سوف يرعب اسرائيل ويبتزها؛ وعلى حساب أرواح اللبنانيين وعمرانهم. وفي “العالم”، كان بشار البعثي يخوض، حتى عشية الثورة عليه، مفاوضات سرية مع إسرائيل بواسطة الأميركيين، تدور حول الجولان. مخازن الأسلحة التي جمعها ليخوض “حرب تحرير الجولان”، اندفع محموماً لفتحها، ويطلق النار في الداخل بعدما قامت ثورةٌ ضده… فكان طوَفان القتل والتدمير ضد سوريا والسوريين، بمساعدة حلفاء كانوا حتى الأمس القريب يؤازرونه على خطابه المعادي لإسرائيل ويحلفون صبح مساء بأنهم لن يسلموا سلاحهم، لأنهم متأهبون لـ”تحرير كامل التراب”.
وهو، أي بشار الأسد، يجد نفسه، في هذه المعادلة الجديدة، قرين عبد الفتاح السيسي. يصمت أمام التكريس الرمزي لإسرائيلية الجولان، بعد التكريس العسكري والإداري، يسلّم عمليا الجولان إلى إسرائيل، لأنه ليس مشغولاً الآن إلا بأمر واحد: بقاؤه على رأس السلطة في بلاده. هو أيضا، وعلى الطريقة الشامية “الألعوبانية”، يسلم الأرض التي سالت من أجلها دماء شريفة، مقابل إنكبابه على معركة حفاظه على السلطة الموروثة من أبيه. هو يصمت الآن عن الجولان، لأن أولويته ليست هي الأرض. (أما حليفه، “حزب الله”، الذي تأسس هو أيضا على قاعدة “تحرير كامل التراب”، فيشاركه شرف معركة بقائه، وينسى، هو ايضاً، “التحرير”… وإن هدّد ورعَد بين الحين والآخر، وردّد مع بشار الشعار الرثّ إياه: “سوف نردّ في المكان والزمان المناسبَين”. وذلك بعد تضحيات لا توصف من أجل الأرض، تهدر الآن على مذبح الأسد إلى الأبد).
إذن الأرض لم تكن مقدسة كما علّمونا. أو انها كانت تبدو كذلك للزعماء الطالعين لتوهم إلى قمة السلطة، ثم ظهرت لهم، وتباعاً، فضائل إبقاءها مقدسة في أذهان الناس، لتموت من أجلها، من أجل الأرض، أي من أجلهم، أي القادة التاريخيين. تلك هي ربما الفائدة الوحيدة لـ”الفوضى الاقليمية” المستعرة في منطقتنا: انها تضربنا بلحظة وعي جديد. وما لازمة “كان يجب تهيئة الرأي العام” قبل التنازل عن الجزيرتَين المصريتَين، إلا لأننا بحاجة إلى وقت لننتقل من كون “الأرض مقدّسة”، التي صاغت وجداننا، إلى صدمة هذا الوعي الجديد، وقوامه أن “الحكم هو المقدّس”.
المدن