رستم محمودصفحات سورية

الحنين لزمن الأعيان

 

رستم محمود

 في الإطار التاريخي الأوسع، يمكن تأويل تجربة “الديموقراطية السورية” القصيرة التي كانت في خمسينيات القرن المنصرم، إلى تراكب عاملين رئيسيين أديا إلى تشكل تلك الديموقراطية. تمثل الأول بطبقة الأعيان السورية العريقة، المتوارثة عن العهد العثماني. فما يميّز الكيان السوري الحديث الذي تشكل بعد انهيار السلطنة العثمانية، عن باقي الكيانات المشرقية التي ماثلتها في لحظة التأسيس تلك، أن الدولة السورية استحوذت على أغلب وأهم المدن الداخلية المشرقية، دمشق حمص حماة وحلب، حيث كانت هذه المدن هي المعاقل التاريخية لتراكم طبقة الأعيان المحلية، المتمثلة بطبقات رجال المؤسسة الدينية والمعرفية والقضائية، وكذلك طبقة التجار وملاك الأراضي وكبار قادة الجيش… الخ . فهذه الطبقة كانت تشكل الأداة الناعمة لسيطرة السلطة العثمانية المركزية على أطراف دولتها الواسعة، بينما كان الجيش الانكشاري يشكل الأداة القاسية في فعل السيطرة. مع التقادم، راكمت تلك الطبقة “الأعيانية”ثقافة وخبرة غير قليلة في مجال السيطرة والحكم الناعم “السياسة” على مجتمعاتها المحلية.

تراكب ذلك التشكل التاريخي مع انبثاق عدد من بنى ومؤسسات الدولة الحديثة في نهاية الأربعينات من القرن المنصرم، تلك التي خلفتها فرنسا بعد وجودها “الاستعماري” الذي استمر ربع قرن فحسب. فقد كان ثمة جيش وطني حيادي عن الصراعات السياسية، ومؤسسة قضائية شبه مدنية، وبنية قانونية وأعراف حياتية للحياة البرلمانية والحريات العامة وفصل السلطات.. الخ. حيث تبنت طبقة الأعيان – لأسباب سياسية واقتصادية وسلطوية متنوعة ومتشكلة- قيم ومؤسسات الحداثة السياسية التي أفرزتها سنوات الحكم الفرنسي لسوريا، ثم حين خلفت السلطات الفرنسية في الحكم، فإن خبرة وسلوك طبقة الأعيان السوريين في السيطرة الناعمة مع مؤسسات وقيم الدولة السورية نهاية الأربعينات وطوال الخمسينات من القرن المنصرم، سميت تجربة “الديموقراطية السورية”، التجربة اليتيمة.

كانت سيمياء الثورة السورية منذ بداياتها، تتقصد تأسيس بنى وقيم شبيهة بتلك التي خلفها الزمن الكولنيالي في سوريا. فقد كانت هبة تاريخية لتبني قيم ومؤسسات الحداثة السياسية، عبر الانتفاض على سلطة متناقضة تماماً مع تلك القيم والمؤسسات، سلطة قائمة على حكم الفرد ومزج السلطات وغياب القانون والحكم بالعنف المحض واستعمال الأدوات الطائفية.. الخ. فقد كانت الثورة السورية موجة شبابية شعبية تريد التأسيس لعكس ذلك في كافة الأطر والأطياف والبيئات السورية، بالضبط كما فعلت سنوات الاستعمار الفرنسية، حينما ورثت كياناً تقليدياً ماضوياً، وتركته بغير ذلك تماماً.

لكن سوء طالع هذه الثورة السورية، هو عدم تراكبها مع أية نخبة سياسية “معارضة تحديداً” تستطيع أن تتبنى قيم وخيارات هذه الموجة التاريخية، لتحولها إلى تجربة وفعل سياسيين واقعيين معاصرين، وأن تؤسس لديمقراطية سورية حديثة. اصطدمت هذه الموجة بنخبة سياسية متباينة تماماً، قيمياً وعملياً مع سمات طبقة الأعيان التي كانت طبقة معارضة غارقة في صراعاتها الشخصية البينية، ومنقسمة في ولاءاتها وروابطها مع الدول والمصالح المتدخلة في شؤون بلادها، نخبة غير قادرة على تأسيس وبث خطاب سياسي لمشروعها الذي تتبناه، نخبة رخوة لا تملك أية خبرة في العمل المؤسساتي والتراتبية البيروقراطية التي لا بد منها، نخبة لا تتمايز بقدراتها وملكاتها ومعارفها عما تستبطنه “العوام” من تلك الملكات، نخبة لا تتمكن من تشكيل أية سيطرة ناعمة على جماهيريها التي تدعي تمثيلهم، نخبة لا تملك أي وعي ومعرفة عن أهمية وطبيعة الصراع على واقع ومستقبل الصراع الإقليمي والدولي على مستقبل وموقع بلادها، نخبة لا تتمكن من ممارسة دورها “السياسي” البسيط، المتمثل في فهم مواقف وسياسات الدول والقوى المتدخلة في مسألة مستقبل سوريا، بما في ذلك مواقف وسياسيات النظام السوري نفسه، ومن ثم وضع ذلك الفهم في خدمة الخيارات السياسية التي تؤدي إلى إنقاذ البلاد ووضعها على سكة الخيار الديمقراطي.

نجحت الديموقراطية السورية في خمسينيات القرن المنصرم، لتراكب العاملين السابقين المذكورين. لكن بالأساس لأن طبقة الجيوش الانكشارية العثمانية “كانت قد تحللت في ذلك الزمان وباتت جزءا من الماضي، تلك الانكشارية التي تملأ يوميات السوريين راهناً، المتمثلة في جيش النظام الحاكم وشبيحته.

المدن

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى