صفحات الرأي

الحوار السياسي: معاييره وشروطه ومساره

 

 علي محمد فخرو

مدلولات الكلمات في حياة البشر والمجتمعات بالغة الأهمية وشديدة التعقيد. وهي من الخطورة بمكان بحيث وصفها المفكر الفرنسي جان بول سارتر بأنها، أي الكلمات، مسدس مملوء بالرصاص. ولكن عندما تستعمل الكلمات بخفًة ودون حذر فانً ذلك، كما يقول الشاعر الألماني غوته، دليل على غياب أو فشل الأفكار. ولقد أظهر الكثيرون كيف أن الكلمات لا تستقر على حال، فتتبدًّل معانيها عبر الأزمنة وتغيُّر الأحوال، بل وتتعرًّض للإنكسار والعفن والتشويه.

مناسبة هذه المقدٍّمة هي خَّفة الطرح والتداول لبعض الكلمات في الساحة السياسية العربية الحالية.من بين أهم هذه الكلمات، والتي تلوكها ألسنة الساسة العرب باستمرار وتتناولها كل وسائل الإعلام العربية ليل نهار، هي كلمة الحوار : الحوار بين المعارضين أو الثائرين وبين أنظمة الحكم، بين أتباع المذهب السني وأتباع المذهب الشيعي، بين الثقافات والحضارات، بين القوميين والإسلاميين، بين الأقلية والأكثرية، بين أنظمة الحكم وبين منظمات حقوق الإنسان العالمية أو المجالس والوكالات التابعة للأمم المتحدة، وغيرها كثير. لكننا معنيُّون في الأساس بالحوار السياسي المطروح بشكل كبير وبصوت مسموع عبر الوطن العربي كلٍّه بعد أن زلزل الربيع العربي الأرض ومن عليها وفرض الحوار بين الأطراف المتنازعة كأحد أهمُّ المخارج من وضع الشدٍّ والجذب ومن بلادات الحياة السياسية المتخلفة التي اكتوى العرب بنارها عبر القرون. كلمة الحوار، كونها من الكلمات التي تتغيًّر بتغيُّر الألسنة التي تنطقها، لها ظلال وشروط ومسار تحتاج جميعها أن ينتبه إليها.

لنتذكر أن كلمة الحوار قد عنت في الأصل، خصوصاً بسبب هيمنة الثقافة الشفهية، تبادلاً للآراء والأفكار بين الفلاسفة والمفكرين، ولم يكن الهدف الوصول إلى إتفاق وإنما معرفة ومناقشة أفكار الآخرين.

إما في عصرنا، عصر الثقافة المكتوبة والمقروءة والمسموعة والمشاهدة، عصر تفجُّر وسائل التواصل الهائل، فان جميع المتحاورين السياسيين يعرفون جيداً أفكار ومواقف الآخرين . من هنا فان الحوار، بالمعنى الذي ذكرنا، يجب أن يكون مقدٍّمة قصيرة وتهيئة للإنتقال إلى مرحلة التفاوض الذي يعني الأخذ والعطاء، الوصول إلى حلول ونتائج، اي إنهاء الخلافات . في الفكر السياسي قد يقتصر الأمر على الحوار، أما في الفعل السياسي فلا يمكن الفصل بين الحوار والتفاوض والمساومات والوصول إلى إتفاق وحلول.

غير أن سيرورة الحوار- التفاوض ـ الوصول إلى اتفاق تحتاج هي الأخرى إلى معايير تضبطها . من هذه المعايير الإجرائية الهامة القدرة على الإستماع بتركيز شديد وليس فقط القدرة على الكلام ببلاغة، منها إشاعة أجواء الإحترام المتبادل بتجنُّب الشطط في الإتهام واللُّوم والكلمات الغامضة ذات المعاني المتعدٍّدة، والإحترام لا يعني بالضرورة موافقة الآخر، ومنها عدم التركيز الكبير على ماذا وذلك على حساب كيف . إن ماذا تتعامل مع المواقف بينما تتوجه كيف إلى الحلول.

لكن أكبر واعقد معيار تواجههه مسيرة الحوار التفاوض هو معيار الموضوعية، إذ بدون الموضوعية الصارمة لا ينجح أي حوار. وهنا تكمن بعض الإشكالات . فالموضوعية بالنسبة للأقوياء والمهيمنين هي الرُّضوخ لمقتضيات ومحدٍّدات الواقع، بينما تعني الموضوعية عند من يمثًّلون المهًّمشين والفقراء تطبيق مبادئ العدالة والإنصاف في توزيع الثروات الإقتصادية والسياسية والأجتماعية والثقافية . هنا يطرح السؤال المفصلي الآتي نفسه وبشدَّة: هل يستطيع أصحاب اليسر والرًّفاهية والإمتيازات تصوُّر أنفسهم في مكان الفقراء والمهمَّشين، الذين يتعايشون يومياً مع إذلال كرامتهم وإنسانيَّتهم من أجل لقمة العيش وأدني أنواع الحياة ؟ وإذا كانوا لايستطيعون تصوُّر أنفسهم في تلك الأوضاع، فهل بامكانهم التعاطف مع المطالب الحقوقية والمعيشية التي تطرح في الحوار؟ وبعنى آخر هل بامكان الأقوياء الإرتقاء في سلم الأخلاق والقيم والنُّبل الروحي؟

ليست هذه أسئلة أكاديمية عابثة، إنها في صميم كل حوار وتفاوض سياسي، وقد نوقشت كثيراً في أدبيات السياسة. للكاتب ألبرت كامو قول معبّر : عندما تنام القدرة على التخيُّل تصبح الكلمات مفرغة من معانيها.

عندما لا يفهم الحوار ضمن هذه المعطيات، ومعطيات كثيرة أخرى لايسمح المجال بذكرها كلًّها، يصبح كلمة كبيرة تخيف وتجلب الشقاء كما قال ستيفن بطل قصة يوليسوس الشهيرة للكاتب الإيرلندي اللاًّمع جيمس جويس. وكعادة السياسيين الإنتهازيين المتخذلقين المحبيٍن للكلمات الكبيرة الرنًانة فانها ستستعمل من أجل ما يصفه المواطنون العاديون بالفهلوة والجمبزة والشًطارة وقتل الوقت.

ومع ذلك، وبالرغم من كل ذلك، يجب العضً على موضوع الحوار السياسي والسًير به إلى الأمام وعدم اعطاء الفرصة لمن لا يتنفًسون إلاً الخصام والفرقة والتمزُق المفجع . ذلك، كما عبًر الكاتب توماس مان في قصة الجبل السًحري ‘ فان الكلام، أداة الحوار، هو الحضارة نفسها، وأن الكلمات، مهما بدت متناقضة، تبقي على التواصل. أما الصًمت فانه يؤدي إلى العزلة.

ويل للقوى السياسية التي تمارس العزلة عن بعضها البعض حين ترفض الحوار.

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى