الحياة الثقافية في دمشق: الحرب بضاعة رائجة/ مناهل السهوي
أدخلُ “مقهى الروضة” في شارع العابد، وسط دمشق، حيث ألتقي بعض الأصدقاء، أحياناً بلا موعد، وأحياناً أطلُّ برأسي من الباب لأرى إن كان أحدهم هناك، ثم أتابع طريقي. “مقهى الروضة” أحد أهمّ المقاهي القديمة التي ما زالت تستقطب شريحة من المثقفين السوريين، أو ما تبقّى منهم في البلاد. قد تجلس إلى طاولة تجمع بعض هؤلاء، يتبادلون الآراء والأفكار حول فيلم شاهدوه أمس، أو كتاب جديد، أو فضيحة ثقافية غير معلنة. تشتدّ وطأة الحوار الذي ينتهي بمزيد من السجائر، وأكواب الشاي، وضحكات، مستذكرين مواقف طريفة عاشها رفاقك على الطاولة، ثم تلمح التشكيلي يوسف عبد لكي يحتسي الشاي وحيداً، ويطالعُ جريدة، تلوّح له، تستأذن رفاقكَ وتذهب لطاولته، ننتقل إلى حوارٍ آخر عن التشكيل السوري ولوحاتٍ ظهرت في أرشيف قديم وجده في منزل العائلة وعن مشاريعه المقبلة.
“مقهى الروضة” نموذج من عشرات المقاهي في دمشق التي تحوّلت، على نحو أو آخر، إلى فضاءات ثقافية تحت ضغط الحاجة، واحتضار عمل المؤسسات الثقافية الرسمية في ظل الحرب الدائرة في البلاد منذ سنوات. هناك رغبة في البحث عن فضاء آخر غير لغة البارود والقذائف والانتظار في طوابير الحياة. هكذا تشكّلت حركة ثقافية مستقلة عن كلّ ما سبقها في دمشق، حركة لها مثيلاتها في المدن السورية الأخرى التي لا تخلو من العروض المسرحية والفرق الموسيقية واللقاءات الأدبية المستقلة وكأنّ المثقف السوري أدرك أنه أعزل، فكان عليه أن يحتفي بثقافته وحيداً، فقد تجد تكريماً لشاعر شاب من ملتقى أدبي يستقر في أحد مقاهي باب توما. يبدو أن الثقافة في الحرب لا تتوقف إنما تقوم بإعادة تدوير نفسها لتظهر بأشكالٍ أخرى تتناسب والمراحل التي يفرضها الموت.
نشرة أخبار دائمة
على إحدى طاولات “مقهى الروضة” نشارك المخرج السينمائي والمسرحي المهند حيدر همومه ورؤيته لواقع السينما والمسرح، أحاديث حرّة، لا برنامج لها، يستذكر هذا المخرج أماكن ترتبط بلحظات سينمائية أو شخوصاً مرّوا من هناك، أو بكاتب أو ممثل يلقي عليه التحية. يجد المهند أننا إذا ما قارنا الإنتاج السينمائي والمسرحي اليوم في ظل الحرب بما قبله من حيث الكم سنجد أن السينما قد شهدت تطوراً في الكم، فيما تعثر المسرح بعض الشيء، لكن مصطلح الكم ليس دقيقاً بما يكفي لتوضيح الصورة، بالنسبة للنوع فقد صادرت الحرب الإنتاج نحو مواضيع محددة ترتبط أساساً بالأحداث الدائرة في البلاد، فكون السينما والمسرح هما فنان جماهيريان، وليسا ذاتيين بالدرجة الأولى ويخضعان لشرطي التمويل والتسويق، جعل المبدع السينمائي والمسرحي مؤلفاً كان أم مخرجاً لا يهنأ في اختيار مواضيعه التي يقدمها، إذ يرى أن عليه تقديم معالجات سينمائية أو مسرحية لما يحدث في سورية منذ عام 2011، سواء كانت هذه رغبته الحقيقة أو خضوعاً لتوجّهات التمويل والتسويق. يتابع: “وهذا ينسحب على جميع الجهات حتى جهات التمويل الخارجية، وهنا يبدو البحث عن الموقف السياسي للمبدع في عمله كذبة، الأفضل أن نقول الموقف السياسي لمن يقدم التمويل”، يضيف موضحاً فكرته بقوله إن كثيراً من المبدعين باتوا يفهمون اللعبة ويعرفون إلى أي ممول يتوجهون بمشاريعهم، والأمر يشمل صياغة العمل ككلّ بحيث يتناسب وتوجّهاتهم، فمجرد اسم الجهة أو اللجنة التي سيصدر عنها المشروع يجعلك تعرف ما تفعل وما هي المشاريع الموافق عليها سلفاً، سواء كانت جهة داخل البلاد أو خارجها، يتابع بقوله “الجميع يرى أن الحرب في سورية بضاعة رائجة يجب استثمارها، كلٌّ بطريقته وتوجهه، وبالطبع هناك مخرجون يتبنون هذه الرؤية وسنلاحظ ذلك إن دققنا في الأسماء والمفردات التي تحملها أفلامهم أو مسرحياتهم مثل (سورية، حرب، داعش، قذيفة هاون، حاجز.. إلخ)، وهي توضح بشكل دقيق ثيمات هذه الأعمال المقدمة”، ومع أنه يرى أن الموضوع هو خيارٌ شخصي في النهاية، لكن الأمر ينطوي على مأساة كبيرة يعبر عنها مختتماً: “تصادرنا أزمة واحدة لصالحها مهما كانت أهميتها وتغيب أزماتنا الأخرى وكأنها غير موجودة فيما هي في الحقيقة ربما، وعلى الأقل بعضها، لا يقل خطورة، وإذا بالجمهور يجد نفسه محاصراً من جديد، وكأن حياته عبارة عن نشرة أخبار دائمة”.
الحبر المسفوح أقل خسارة
منذ عام 2013 وعلى الرغم من استشعار الناس الخوف خارجاً، بدأت فكرة الملتقيات الشعرية تغزو مقاهي دمشق القديمة، إن كنت تحبُّ الشعر ستجد كلّ أسبوعٍ مكاناً أو أكثر تسمع فيه الشعر وتحتسي كأساً متناسياً عناء يوم طويل، فمن “أضواء المدينة” الذي تحوّل اليوم لملتقى “جسور”، هناك “نصف الكأس”، و”ثلاثاء شعر”، و”يا مال الشام” و”شعر وخمر”، و”عناة” و”مسا شعر” بموازاة فضاءات أخرى تقدم برامج ثقافية وموسيقية ومعارض تشكيلية كمقهى “زرياب”. معظم هذه المقاهي قام على فكرة الدمج بين الموسيقا والشعر، بالإضافة أحياناً إلى الشعر المحكي. رواد هذه المقاهي في الغالب هم من الشعراء أو من محبيه حيث يستقر الجمهور الذي يزداد عدده أو ينقص حسب الوضع الأمني خارجاً، استقطبت هذه الملتقيات شعراء من مختلف الأجيال، فصار الشاعر أقرب للمستمع وبسطت الألفة نفسها في أجواء غير معقدة بعيداً عن كليشيهات المراكز الثقافية التي لم تغير من برامجها حين يكتفي أصدقاء الشاعر بالحضور في شحّ واضح لعلاقة حقيقية بين المتلقي والشاعر، أما ملتقى “ثلاثاء شعر” فقد شذّ عن هذه القاعدة ليعلن نفسه ورشة عمل إبداعية لا جمهور لها، ليس في رفض للجمهور إنما في محاولة للتركيز على فعل الشعر ذاته، حيث يقوم مجموعة من الشعراء الشباب بتبادل حوارات ونقاشات وتجديد للنص وبحث عن القصيدة الجديدة. يقول المشرف على الملتقى الشاعر زيد قطريب: “لن تهتم أي جهة ثقافية بالبحث عن النص المشتهى، رصد التغيير الحاصل على قصيدة النثر هو عملنا، يقوم الشعراء بتبادل الشعر ووجهات النظر ونقرأ الإصدارات الجديدة”، من الجدير بالذكر أنه صدرت عن هذا الملتقى مجموعتان شعريتان لسبعة شعراء شباب وأنطولوجيا ترجمت للألمانية. من جهة أخرى يقوم ملتقى “جسور” الثقافي على فكرة بسيطة، وهي أن “الحبر المسفوح أقل خسارة وأكثر فعلاً من الدم المسفوح”، الملتقى يسلّط الضوء في كلّ جسر على تجارب شعرية سورية وعربية وأجنبية مترجمة بغض النظر عن الأسماء الشعرية المكرّسة في المشهد الأدبي أو غير المكرسة”، يتابع الشاعر والصحافي جورج حاجوج أحد القائمين على الملتقى: “الملتقى منبر مفتوح على كلّ الاحتمالات وكلّ التجارب، وهو على مسافة واحدة من الجميع، يضاف إلى ذلك، وفي كلّ جسر، هناك وقفة مع قراءات من التراث الأدبي والشعري، ووقفات مع الموسيقا والغناء والعزف”.
ولا بد من الإشارة إلى أنه لم يبقَ من هذه الملتقيات اليوم إلا القليل وكأن قراءة الشعر كانت موسماً وجد فضاءه باشتداد وطأة الحرب.
ورحلوا
على عكس الشعر بدأ التشكيل في سنوات الحرب الأخيرة يستعيد عافيته مجدداً، بعد أن عاد بعض من “الغاليريهات” إلى فتح أبوابها مثل “آرت هاوس”، و”تجليات”، و”كامل”، في كلّ أسبوع ثمة دعوة لمعرض، مستقطباً دوماً جمهوراً جديداً، آخرها معرض “شوق” للفنانة لوران عثمان في مقهى زرياب الذي سبق وذكرنا أنشطته الفنية، وربما أحد أكثر عروضه أهمية هو معرض “ورحلوا” ويشتمل على أعمال تشكيليين غادروا دمشق فبقيت لوحاتهم وحيدة هنا، إلى أن عمل صاحب المقهى “برنار جمعة” على إقامة معرض خاص بها، من جهة أخرى يقوم مقهى زرياب بمسابقة في التصوير الضوئي بعنوان “عدسة سورية للتصوير الضوئي”، يقول برنار، القائم على نشاطاته بجهد شخصي تام: “أقيمت المسابقة رغبة بتنظيم عمل المصورين الهواة حيث يقومون بورشات تدريبية خلال المسابقة”، من جهة أخرى غامر التشكيلي بديع جحجاج بافتتاح غاليري جديدة باسم “ألف نون”، مراهناً على بناء حالة روحانية تمزج التشكيل بالنحت من خلال معرض تحت عنوان “جدل”، وسرعان ما غدت الغاليري مقصداً للتشكيليين الشباب والمخضرمين، بالإضافة إلى حفلات تواقيع الكتب.
في النهاية لا نودّ نسب الثقافة والفن إلى الحرب لكن ما تمكن ملاحظته سريعاً أن الحرب كان لها دور أساسي في تحفيز الحياة الثقافية في كثير من أوجهها ربما كانت ردة فعل عكسية لمرآة الموت اليومي.
ضفة ثالثة