صفحات الثقافة

قصيدة النثر… أسئلة في الحضور والمحو/ علي حسن الفواز

 

 

يضع الكثيرون قصيدة النثر في سياق المغامرة الشعرية، وأنّ توصيفها سيظل دائما مثار جدل، رغم أنها لم تعد نوعا(لقيطا) في الشعرية العربية، وأنّ مصطلحها خرج من لعبة المناورة إلى أفق اللحظة الشعرية ومسارها الصاخب، وإلى ما هو قارّ ومتداول في الجهاز المفاهيمي للنقدية الشعرية..

وحتى الحديث عن (جذور) هذه القصيدة فقد الكثير من بريقه، فلم يعد ضروريا للتعريف بهذا التاريخ القسري، والمُفتعل أحيانا، إذ بات الرهان على جدية التعاطي معها كوجود ومنجز، من خلال لعبة التمثل الشعري، في الوعي، وبتداولها، ومع استقرار مصطلحها في العقل الشعري العربي، على مستوى التجنيس، أو على مستوى التلقي، وأحسب أن هذه القصيدة بدت- الآن- وكأنها الأكثر تمثلا لاسئلة الشعر الجديدة، ولصيغ تحولاته الجمالية والتقانية، لحيويتها أيضا في فعالية قبول التجديد، وجدّتها في التعبير عن رغبة الشاعر في التجاوز، وفي التمرد على النمط، وعلى ما كان راسخا من وهم بـ(بفحولة) الشعر والشعراء..

التحقق الشعري في هذه القصيدة بات هو الرهان الفاعل، وهو شرط خصوصيتها، وجدّتها، وفيما تكتسبه من خبرات متراكمة، ومن سمات قابلة للإضافة، وفاعلة في تكريس مشروعيتها الثقافية، وفي إعطاء أسئلتها مزاجا (ثقافيا) يناور، ويشاغب، بحثا عن تعيّنه، وعن فرادته، ليس لكتابة قصيدة مُقنِعة، بل لكتابتها بوصفها جزءا حيّاً في اللعبة الشعرية، وفي صراع التفوق، والتمرد على التاريخ والنوع، وانخراطها في السياق المحتدم للتحولات الشعرية، ولحساسيتها المثيرة للجدل والاختلاف والمفارقة، ولخصوصية المعاينة النقدية، عبر وظائفية ما تستدعيه القراءة من مفاهيم ومصطلحات، وعبر أطروحات ومعالجات لا تتحسس من وجود تنافذ ما بين أدوات الشعر والسرد، فضلا عن اتكائها على مرجعيات شعرية لم تعد خارج استعمالاتنا الشعرية، بل إنها بدت وكأنها أكثر انغماراً في لحظة توهج حقيقية في تاريخنا الشعري المعاصر، فمجلة «شعر» اللبنانية التي تحولت إلى (منبر) لهذه القصيدة، استغرقت مغامرتها والتعريف بها، وكأنها فتحٌ جديد، وأنّ الإبانة عن المرجعيات الغربية لها، وعبر تجارب معروفة لم يأخذ من هذه (البدعة) الشعرية بريقها، بل إنها تحولت- ايضا- إلى حافز، وإلى هاجس للخروج الحر من سطوة التاريخ البلاغي، ومن رعبه ومن مهيمناته الأسلوبية، وحتى مجلة «الكلمة» العراقية وضعت نفسها في سياق المغامرة، والتماهي مع تجارب شعرية عاصفة مثل الماغوط وأنسي الحاج وشوقي أبي شقرا، وبعض محاولات أدونيس، لكن بحثها عن (هوية) عراقية لهذه القصيدة هو المثلبة التي بدت أقل وضوحا، لأنها لم تكن بعيدة عن تجارب المدرسة اللبنانية من جانب، وأكثر تمثلا لكتابات شعرية مترجمة لولت ويتمان ولشعراء جماعة (بيت الأمريكية) والنماذج الأكثر سطوة للشعراء الفرنسيين بدءا من هواجس رامبو الشعرية، ومغامرات بودلير والشعراء السرياليين وانتهاء بالمغامرات الكبرى لـ(سان جون بيرس، هنري ميشو، إيف بونفوا وغيرهم)، وللأنموذج النقدي التوصيفي الذي اقترحته سوزان برنار، والذي تحوّل إلى ما يشبه الإشاعة الشعرية، إذ يقول أدونيس وهو يستعير أدوات برنار»أما قصيدة النثر فذات شكل قبل أي شيء، ذات وحدة مغلقة، هي دائرة أو شبه دائرة لا خطا مستقيما، هي مجموعة علائق تنتظم في شبكة كثيفة ذات تقنية محددة وبناء تركيبي موحد منتظم الأجزاء متوازن، تهيمن عليه إرادة الوعي التي تراقب التجربة الشعرية وتقودها وتوجهها، إن قصيدة النثر تتبلور قبل أن تكون نثرا، أي أنها وحدة عضوية وكثافة وتوتر قبل أن تكون جملا وكلمات».

الذاكرة واللعنة..

قد تكون الذاكرة رقيباً وسجناً، وقد تكون أيضاً مجالاً صيانياً للأفكار، لكن رغم ذلك فإنها تظل المجال الحيوي والعضوي الأكثر تعبيراً عن وقائع الصراع، وتعقيدات الخلاف الذي عاشته القصيدة العربية بشكل عام، لأنها (الديوان) الفاعل والمدوّن في تاريخ تلك الذاكرة، والمصدر المهم من مصادر صناعة الوعي والهوية والوجود والتاريخ والديوان، وأنَّ التمرد على تلك الذاكرة يتطلب – بالضرورة- وعيا فائقا بالحرية، ونوعا من (المحو) الثقافي، وجدّةً في النظر الى ما يمكن أنّ يخضع لحساسيته، مقابل الوعي الإجرائي، بإعادة تأثيثها بالمتغير والمختلف، والقابل لممارسة لعبة ذلك المحو دونما رهاب من الماضي/ التاريخ، ورهاب من سلطة النص بوصفه المقدس، أو بوصفه الصياني..

هاجس الحرية هي اللعبة المضادة للذاكرة، مثلما هي الترياق الذي يخفف (سُمّية) اللعنة التي قد يوصَم بها الشاعر، لأن هذه الحرية/ اللعبة، والحرية/ الوعي تحتاج دائما إلى وعي بها، وإلى إرادة لها، وهو ما تحدث عنه جبرا إبراهيم جبرا قائلاً: لقد سميت هذا الشعر منذ البداية – شعرا حرا, وفق مفهومي للشعر الحر وهو مفهوم اختلفت فيه مع العديدين. وعرف عني رفضي لنزوع الكثيرين من دارسي الشعر على تسمية هذه القصيدة بقصيدة نثر.

شيخوخة القصيدة

القصيدة العربية التقليدية مثل أي كائن حي، قابل للنمو وللشيخوخة أيضا، ولأنها كثيرة الزيجات، فإنها عِرضةٌ لفقدان روح (الأدرنالين) مع محدودية قدرتهاعلى الإخصاب والإنجاب، إذ لم تعد تنفع معها وسائط الغناء، وإغواءات الزواج الاصطناعي لإنعاشها، وحتى الحديث الآن عما يسمى بـ(قصيدة الشعر) لم يعد مجديا بالكامل، لأنها ستصطدم أيضا بلعبة الأقفال البلاغية والوزنية والعروضية، والتي تعني دائما الحاجة إلى الشغف العالي بالحرية، فضلا عن الحاجة إلى الحدّاد الماهر والخبير، وهي وظيفة صعبة وخطيرة، فما نقرأه اليوم من قصائد موزونة مقفاة- رغم جمالية وسحر الغناء الذي فيها- تكشف لنا عن (رجعية شعرية) مرعبة، وعن خواء شعري كبير في الموضوعات وفي الأفكار، ومحدودية رؤية الشاعر وهو يحاول أن يتخلص من فوبيا المتحف الشعري، وفحولة (الشعراء الموتى) الذين كانوا يدّعون بأنهم حُرّاس البيت الشعري.. قصيدة النثر في هذا السياق، هي الخروج الواعي عن التاريخ، وهو ما يجعلها أكثر حاجة للمزيد من التقعيدات النقدية، بدءا من حديث الإيقاع، وحديث الرؤية، وحديث القصدية والكثافة والاختزال، وكل ما يتعالق مع تقاناتها البنائية والتصويرية، لاسيما موضوع الإيقاع الذي ظلّ ملتبسا وغامضا، ويحتاج أيضا إلى المزيد من الاجتهاد النقدي، وهو ما تراه يمنى العيد في قولها «أرى أن الإيقاع الداخلي قائم في حركة مكوناته».

وحتى حديث أدونيس بأن هذه القصيدة «كتلة مشعة مثقلة بلا نهاية من الإيحاءات قادرة على أن تهز كياننا في أعماقه، إنها عالم من العلائق» لا يعفي من ضرورة وضعها تحت مشرط النقد، وعبر أدوات نقدية أكثر جدّة ومرونة، لكي تعزز القناعة بأنّ هذه القصيدة لم تعد مطرودة، وأنّ بنوتها صارت جزءا من (العائلة الشعرية) ورغم نزقها، فإن القبول بها سيكون رهانا على الحياة ذاتها، و»علينا القبول بمصطلح قصيدة النثر طالما لا يوجد له شبيه في إرثنا الشعري وطالما تصير الحداثة مفهوما كونيا لا نخجل من استعارته من أوروبا وأمريكا».

هذا الحديث لا يعني إعلانا عن موت (العمود) الشعري، بقدر ما هو توصيف لحالة راهنية تعيشها القصيدة العربية، وتعيشها الذائقة العربية ـ أيضا- تلك التي لم تتحرر كثيرا من رهاب الشاعر المُغنّي، وسطوته المقامية، ولعل البحث عن وظيفة أدائية جديدة للشاعر ستكون صعبة، لذا يكتسب الحديث عن القصيدة الجديدة طابعا جداليا، ويثير حوله الكثير من الأسئلة، لاسيما تلك التي تتعلق بالتوصيف والوظيفة والجدّة، والأهلية، وحتى بحديث المرجعيات التي تخص التاريخ والأصول، ولا أحسب أن قصيدة النثر في هذاالسياق ستكتسب (أنوثة اضطرارية) بوصفها خلاصا، أو تمردا، أو اجتهادا في التخصيب الشعري، بقدر ما هي شكل كتابي يُضاف إلى الأشكال الأخرى، له هامشه الواسع من الحرية والمغامرة، وله أيضا مرجعياته التوصيفية والنقدية والجمالية، وحتى اشتراطاته التي تحفظه من الترهل والتكرار والخفة والشيخوخة المبكرة..

تعدد أنماط الكتابة هو خيار حر، وهو مجال للتنافس، ولتوسيع مديات فهم الشعرية، بوصفها قيمةً، أو بوصفها دالةً على حيوية النمط الشعري، وعلى قدراته في إحداث التأثير على المتلقي والقارئ، وعلى تجاوز أوهام الخلود الشعري وقدسيته، فالملقي الجديد لم يعد إيقاعيا بالكامل، وأن ذائقته تتعرض يوميا للكثير من الصدمات، بما فيها صدمات السرديات المعاصرة، والأساطير المعاصرة، تلك التي تحدث عنها رولان بارت..

٭ ناقد عراقي

القدس العربي

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى