صفحات الثقافةماهر مسعود

الحياة في الدرجة صفر

    ماهر مسعود

عندما نخرج لوهلة من عيش الحدث السوري نحو التفكير فيه بنوع من الوعي الذاتي للذات في أفقها الجمعي، لا بد من مراجعة مفهومَي الحياة والزمن كما يتجليان “سورياً”، ورؤية المعاني الجديدة التي يأخذها كلاهما ضمن الحدث، ومعاينة القيمة الاستثنائية التي تنبجس من الحياة والعيش في الزمن الثوري السوري.

يعيش القسم الأكبر من السوريين بعد عامين على اندلاع الثورة السورية في ما يمكن تسميته بـ”الحياة في الدرجة صفر” وهي حياة تحمل في طياتها أعظم الآمال ولكن أكبر المخاوف في الوقت ذاته. الصفرية (من الصفر) هي استعادة ايجابية جذرية لشرط الحياة في موازاة الموت على رغم حضوره ودوامه. أو قل هي الحياة في إقامة الموت، في التعايش معه، توقعه، انتظاره، تهديده واجتنابه. لكنها أيضاً حياة المواجهة القصوى والخطر والمغامرة وعيش المعنى المباشر للتجربة والقيمة المباشرة للعمل. الصفر هو القاعدة، والانطلاق منه ضرورة تفرضها جدة الحياة المتغيرة بنحو يومي. فنتائج الأعمال المكررة والمتشابهة غير متشابهة. الحاجز الذي تجاوزته اليوم قد يعتقلك غداً، مثلما الصديق أو البيت أو الحي الذي شاهدته اليوم قد لا تراه غداً. الصفر هو الواقع، والإرادة هي السيدة، والنتائج غير قابلة للاستمرار، والآمال الكبيرة لا تزهر إلا تفاصيل صغيرة للعيش ومقاومة العدم.

على أرض المواجهة الكبرى مع الموت، لا يسقط النظام وأوهامه فحسب بل تسقط أقنعة الإنسان الحديث ومرتكزات الحضارة التي أنتجته متردداً وخائفاً و”عاقلاً” ضمن القطيع. لا تسقط ممانعة الاحتلال فقط بل تنقلب إلى احتلال نظام الممانعة لسوريا، وتنكشف الطرق الوعرة للتحرر من نظام أعلن استعداده في كل لحظة لحرق البلد إن لم يبق حاكمها إلى الأبد.

ربما كان صحيحاً أن أثر الموت في أرض الحياة قد دفع بما معدله ربع سكان سوريا للنزوح خارج بيوتهم، فالموت ليس حدثاً يُجرَّب، بل حادث يُشاهد ووجع يحفر في قلوب الأحياء ووجدانهم، وغصة في ذاكرتهم وكابوس في مخيلتهم. لكن من الصحيح أيضاً أن أثراً مختلفاً يتركه الموت الجماعي واليومي للسوريين، يدفع الحياة إلى أقصاها، حيث غريزة البقاء ورغبة العيش وأمل الخلاص تتعدى الحدود الطبيعية لفيزيقا الجسد، وتتحدى الحدود الطبيعية لمقاومة القهر الأسدي المتواصل.

تتحول دلالات الزمن في سوريا الثورة، فعلى عكس خط الزمن الطبيعي الذي يرتكز فيه باقي البشر على الماضي ليستشرفوا المستقبل ويؤسسوا الحاضر، فإن ما يعيشه السوري يبدو خارج الزمن، أمامه أو خلفه أو في مقابله. فالمستقبل ضبابي والحاضر متفجر والماضي لا يُرتكن إليه. هو الزمن المؤجل وفي حال انتظار مقيم. جيل من الأطفال خارج مدارسهم وبيوتهم في انتظار يومي للعودة، وجيل من الشباب الطموح الذي ترك عمله أو جامعته أو بيته أو حبيبته و”هاجر” إلى الثورة أو (إلى الحرب عليها)، فأصبح إما معتقلاً وإما شهيداً وإما نازحاً وإما ناشطاً في صروف الحياة والإغاثة والسياسة والإعلام. نساء سوريا يحملن الثورة كصخرة سيزيف من دون أن يتصدرن المشهد، فتفاصيل الثورة أهم من مشاهدها الكبرى. تحمل المرأة السورية تفاصيل الثورة بيدين من قوة الصبر، والفعل الأنثوي في الثورة يولّد الثقة بتجدد الحياة من رحم الموت ويمنح إرادة التغيير الجذري في سوريا معنىً مضاداً للعدمية التي تنشرها بربرية الحرق الأسدي لسوريا. شعب كامل في الانتظار، على رغم الفعل المستمر وخلفه، في انتظار العودة إلى حياة تتم صناعتها ونسجها وبعثها من جديد.

الحياة في الدرجة صفر هي الحياة على خشبة المسرح وتأدية الأدوار ارتجالاً. فليس للسوريين في عهد الأسد تاريخ سياسي يمكن الارتكان إليه للخروج من عهده من دون الخروج عليه، ومن دون إسقاطه دفعة واحدة بأركان نظامه وتاريخه القمعي الذي تمخض مافيوياً في عهد الولد. الساخر المأسوي في مَسرَحَة الحدث السوري وتراجيديته، أن الحاكم الصغير هو أقل من طاغية وأحطُّ من ديكتاتور، لكنه بحكم قانون العطالة السياسي يتربع على عرش شعب عظيم ويستخدم بلاهته الشخصية لتعرية الأس الحضاري للمصلحة الدولية ببقائه.

الصفر ليس رقماً مثلما شهداؤنا ليسوا أرقاماً. إنه مخاض الولادة التي طال انتظارها، وتجربة الألم التي تطرح المعنى لتجمع القيمة. إنه الوقوف على الخط الفاصل بين الحياة والموت حيث لا إنسانية صاحية وفاعلة تسند ظهرك إليها. فليس للسوري إلا الإرادة، ليخلق من رماد تضحياته أفقاً جديداً وحياة تستحق الحياة.

النهار

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

شاهد أيضاً
إغلاق
زر الذهاب إلى الأعلى