صفحات الثقافة

ملف جريدة السفير عن الثورة المصرية

الشرعية الغائبة

عباس بيضون

 انقلاب أم ثورة. لا نخرج بسهولة من هذا الجدل. هناك من يستدعي ما حدث في الجزائر حينما انقلب الجيش على الانتخابات ما أفضى إلى حرب أهلية طاحنة. قد تكون المقابلة ظالمة لكنها ليست تماماً باطلة. مرسي رئيس منتخب وليس من حق قائد الجيش أن يعزله، هناك سبب لحرج أوباما تجاه الحدث المصري، الكلام عن الشرعية الشعبية يبدو لأول وهلة تخريجاً فحسب، الانقلاب على الشرعية قد يتم بهذه الحجة، هذه بالطبع قراءة لا تخلو من قوة وليس دفعها سهلاً.

الشرعية مغدورة لكن الشرعية ليست فقط ماثلة في الرئاسة، ليست محاولة الاستيلاء على الدولة شرعية والرئيس مرسي الذي سمى أشخاصاً من الأخوان المسلمين لكل مناصب الدولة لم يكن بذلك يترك للدولة أي شرعية، الرئيس الذي جابه مؤسسات ذات حصانة كمؤسسة القضاء لم يكن يحترم شرعيتها. كان بذلك بالطبع يمارس صلاحيات منصوص عليها، لكنها نصوص وضعت لتنتهك وليتم القفز عليها، لن يكون مشروعاً أن يقيم الرئيس دولته داخل الدولة، ذلك لا يتم إلا بكسر كل الشرعيات وما يحدث عندئذ لا يتعدى أن شرعية الرئيس تغتصب كل الشرعيات الأخرى، ما فعله الأخوان المسلمون ومرسي بالدولة لا يتوافق مع أي مفهوم للدولة. إن التهام الحزب للدولة لا ينّم عن أي احترام لها ولحدودها، ذلك يعني أن مرسي لم يحترم الشرعية وتلاعب بها. ذلك يعني أن مسألة الشرعية لم تكن في يوم موضع حرص الأخوان أو مرسي. لقد سبق الأخوان إلى تفريغها من ماهيتها وإلى تجويفها.

لن نحتج بالشرعية الشعبية فهذا قد يكون سفسطة فحسب. لكن الأخوان المسلمين هم الذين بادروا إلى القفز على الشرعية والزراية بها، ليس في مشروع الأخوان التاريخي أي معان للديموقراطية أو تداول السلطة، أي ليس في مشروع الأخوان التاريخي أي مكان للشرعية، أن اعتدادهم الآن بالشرعية والديموقراطية من دواعي السجال السياسي فحسب. من المؤكد ان توليهم للسلطة لا يختلف عن تولي الحزب النازي أو البلاشفة للسلطة، لم يكن مشروعهم للسلطة سوى ابتلاعها.

مع ذلك لا نفرح بفشل أول تجربة ديموقراطية في مصر، لا نفرح رغم ان الأخوان أنفسهم حرضوا على الأقباط وذلك يعني انهم يستبعدونهم من ولايتهم، ما يعني إخراج عُشر الشعب تقريباً من هذه الولاية. وهذا بحد ذاته يطعن في شرعيتهم، مع ذلك فإن ما جرى ليس باعثا على الغبطة، ثمة خوف من أن تتحول الثورة، تحت أي مسمى، إلى عبادة نفسها، وإلى تصنيم أفرادها وغاياتها، فليس في عزل رئيس منتخب مثل يحتذى. هذه سابقة ينبغي أن لا تتحول إلى تقليد.

لقد لعب الأخوان ومرسي بالدولة، جعلوا القانون نفسه ألعوبة فالإعلان الدستوري وبعده الاستفتاء على الدستور لم يكن فيهما أي احترام للدولة، يمكن ان نتكلم هنا عن انقلاب قصر، عن انقلاب على الدولة من داخلها، حارب الأخوان الدولة من داخلها. نشروا عشرات الآلاف من الأخوان فيها، عششوا في أجهزة الحكم في العاصمة والمحافظات، كان هذا يعني أن نماذج أخرى، ديدنها الطاعة والامتثال والقيام بالفروض أصبحت هي السائدة، وليس هناك دليل على ان اللحى الطويلة والجباه المدموغة والنفوس الطائعة هي الصفات التي ينبغي توافرها في رجال الإدارة. سبق لكرومويل الانكليزي أن رفع إلى البرلمان رجالاً مثل هؤلاء اغرقوا البرلمان في مناقشات لاهوتية، لكن كرومويل المتدين اضطر إلى صرفهم لانعدام الحاجة إليهم في مجلس النواب. الأغلب ان كثيرين مثل هؤلاء صاروا محافظين ووكلاء وزارات في عهد الإخوان ولا ينفع هذا الدولة ولا ينبغي ان تغدو الطاعة للمرشد وتقبيل يده في رأس الكفاءات.

مع ذلك فإن السؤال الراهن هو ما العمل بعد عزل الرئيس، هذا بالطبع سيستفز الأخوان وربما أخرجهم عن طورهم وربما بالغوا في الشطط. هل يعني ذلك اعتبارهم أعداء واضطرارهم إلى الخروج. صبر الأخوان المسلمون على عهودا عملت فيهم إرهاباً وقمعا ولم يخرجوا. ان تجربتهم الطويلة جعلتهم أكثر تحنكا من ان يقدموا على محاولة انتحارية وإلى مجابهة الجيش. لكن الفوضى الحالية قد تشجع البعض على تجاوز الحدود. بدأ ذلك وينبغي أن لا نتركه يستشري. للإخوان المسلمين نسبة محترمة في المجتمع المصري. ان معاداتهم واضطرارهم إلى العصيان يعنيان استفزاز قسم وازن من المجتمع. إن استرداد الأخوان إلى الدولة والمجتمع يتطلب في أقله التخلّص من اللغة التشهيرية العدائية. كما يتطلب بالتأكيد تنازلات حقيقية. على الحكم الجديد الا يعتبر نفسه منتصراً. لا بد من حرص وحذر كبيرين لئلا يؤدي أمر آخر إلى تكرار تجربة الجزائر. إن حملة اعتقالات عشوائية قد تخرج الأخوان وتؤدي بهم إلى المواجهة، إن حملة دعوية قد تفعل الشيء نفسه، لقد توسط الجيش لتجنب حرب أهلية، ليكن حذراً من أن يؤدي تدخله إليها.

نحن مدينون للشعب المصري

ايمان حميدان

في يوم خريفي في بيروت من عام 1977 كنا مجتمعين في بيت صديق مقرب. لم يكن هذا اليوم عاديا على الاطلاق. فهو يوم زيارة السادات إلى إسرائيل، ساد هناك وجوم، صمت، استمر وقتا قطعه صديقي المضيف حين قال: «أكلناها… راحت علينا».

هل صحيح أنه «راحت علينا» من ذلك الوقت أي منذ ما يقارب الأربعين عاما او اقل بقليل؟

كانت اأاحداث اللبنانية قد بدأت قبل زيارة السادات. ثم توالت وتطورت من أحداث الى حرب بل حروب اهلية. ولم يدم سلام السادات سوى اربعة اعوام انتهت باستشهاده عام 1981 على يد عناصر من الجيش منضوية في تنظيم اسلامي.

من الصعب نفي ان سلسلة الأحداث التي شهدها لبنان ومن ثم العراق لها ارتباط بتلك الزيارة وما تبعها من فقدان مصر لدورها القيادي في العالم العربي، ومن إحكام سيطرة سوريا على لبنان، واعادة تشكيل التحالفات في منطقة الشرق الاوسط خاصة بعد الثورة الإيرانية ودخول إيران كلاعب أساسي في المنطقة.

لم يكن انطلاق الثورة في يناير 2011 سوى رد فعل على الوضع السياسي المتردي في مصر خاصة بعد انتخابات 2010: فساد سياسي، تزوير في الانتخابات، وازدياد الفقر والتهميش. من بادر إلى الناس للنزول الى الشارع هو الشباب المصري الذي طالب بالحرية والتغيير والديموقراطية. لم يكن هناك قيادات وطنية تقود حركة 25 يناير. وهذا الوضع شكّل نقطة ضعف أساسية سمحت للإخوان بالتسرب الى الميدان ومصادرة مبادرة الشباب المصري الحر. الاحزاب المعارضة التي اضعفتها السلطة على مدى أربعين عاما خلال حكمَي السادات ومبارك، بدت هزيلة وقليلة المبادرة بشكل فاقع منذ يناير 2011. حركات جديدة انبثقت من بين الشباب المصري هي التي أمسكت في الأشهر الاولى بزمام المبادرة.

بعد سنة من الثورة الاولى في 25 يناير 2011، حدثت ثورة ثانية شكلت عامل ضغط من اجل القيام بانتخابات والعمل على دستور جديد يضمن للشباب المصري حقه في صناعة القرار وفي اللعبة الديموقراطية. كان الإخوان المسلمون بدأوا بالتحرك منذ بداية الثورة. انهم التنظيم الوحيد المجهز بالخبرة التنظيمية في التحرك والمبادرة. لقد صادروا القرار واغتصبوا الميدان. هي سياستهم الوحيدة: الاغتصاب. وليس من المستغرب ان يغتصبوا السلطة، ليس هذا فحسب، بل ايضا النساء بحيث تفاقمت جريمة اغتصاب النساء في الميدان وفي الشوارع المحيطة. ازدادت بشكل درامي وتزامنت مع اغتصاب الإخوان للقرار السياسي وللسلطة في مصر.

البلاد، السلطة، النساء، القرار، … لا يرى الإخوان أي ضير في اغتصابها كلها!

في ظل غياب قيادة شبابية معارضة ومتماسكة، كان من السهل مصادرة الاخوان لقرار الحركة الشعبية والظهور كما لو انهم قادوا منذ البداية هذه الحركة، عبر قنوات بدت من حيث الشكل «ديموقراطية» أي عبر صناديق الاقتراع والأصوات. الا انه بدا واضحا منذ البداية كيف ضاعفت المظلة القطرية الاصوات التي صبت في الصناديق عبر دعم مالي ومعنوي للاخوان كان القرضاوي عرّابه الاساسي. رقم الاصوات الذي اتى بمحمد مرسي رئيسا للجمهورية كان رقما ملغوما ولو اتى عبر قنوات «ديموقراطية» هلّل لها الغرب ورحب بوصول واحد من الاخوانيين الى السلطة!

لكن وإن اتت اللعبة «الديموقراطية شكلا» بمحمد مرسي رئيسا، الا أن مجيئه كان ضربة قوية لعرّابي حركة 25 يناير الحقيقيين، ولحلم كل مواطن مصري بالتغيير الحقيقي. لا يجب ان ننسى ان خلفية مرسي التنظيمية والدينية والعقائدية لا تقيم على الاطلاق وزنا لمعنى الديموقراطية ولا لمعنى الدولة التي هي للجميع وليست له ولتنظيمه فقط. في سنة واحدة قام مرسي بتدمير ما عجز مبارك عن تدميره خلال عقود ثلاثة. في سنة واحدة خسر الجميع بمن فيهم من صعد اسمه بفضل صندوق الانتخابات، ولم يبق معه إلا من يستفيد وبشكل مباشر من حكمه. لم ينقسم الشعب المصري الى هذا الحد كما هو الآن. هذا نتيجة الحكم اللامسؤول الذي مارسه مرسي.

بوصولهم الى السلطة اراد الاخوان الانتقام من التهميش الذي عاشوه عقوداً طويلة في مصر. الطريق التي اتبعوها كانت في «التهام» السلطة والإدارات والمراكز والنفوذ والاستئثار وحدهم بالدولة وإبعاد وضرب أي رأي سياسي مختلف. بمعنى آخر «أخونة الدولة وتخوين من هو غير إخواني»!!. وصل بهم الامر الى تعيين قتلة ومساجين سابقين في مراكز حساسة في المحافظات المصرية، دون أدنى اعتبار لرأي الناس او لردة فعلهم.

قام مرسي بضرب القضاء المصري عبر تحصين نفسه وقراراته الرئاسية بقانون سنه هو بحيث لم يعد في وسع القانون محاسبته على أي قرار او عمل يقوم به كأنه «ظل الله على الارض» . سياسته تلك نفذت على مرأى ومسمع الدول الغربية. مرسي قسّم الشعب المصري وهذه جريمة وطنية لم يقترفها رئيس مصري سابق. صحيح ان صناديق الاقتراع أتت بمرسي إلى الحكم، الا ان هذا، وان عنى شيئا، فهو يعني أمرا واحدا هو ان الديموقراطية تستطيع احيانا ان تأتي برئيس غير ديموقراطي ولا يحترم الديموقراطية، وهذا ليس جديدا في التاريخ باي حال. اول خطوة سياسية قام بها هي اللعب بمواد الدستور ليضمن حكمه الدائم ويبعد من لم ينتخبه عن الحكم. وهذا ابعد ما يكون عن الديموقراطية التي هي بروحيتها المشاركة في اتخاذ القرار. لقد انقلب على الاساليب التي اوصلته الى الحكم… وجب عزله لأنه خان الشعب.

أتساءل هنا: لماذا لم تعلق الإدارة الأميركية حينها على سياسات مرسي اللاديموقراطية.

اعتقد التنظيم الاخواني انه يكفي لتطمين الولايات المتحدة الأميركية وإسرائيل ان التنظيم صديقا لهما. اعتقدوا ان هذا يكفي لحكم مصر. لكنه كان حسابا خاطئا ومتأخرا بعض الشيء. قد يكون تأخر حوالي 40 سنة وهو تاريخ مبادرة السادات السلمية التي إن ادت الى أي شيء ايجابي فهو إعطاء الشباب المصري فرصة حقيقية للتطلع الى المشاكل الداخلية بنضج وعدم الإقحام الدائم للخطاب الفارغ و الممّل الذي اعتادت الانظمة «القومجية» ترداده وهو ان اسرائيل هي وحدها اصل كل البلاء، أما الأنظمة العربية الحاكمة «والوطنية بالطبع» فلا غبار عليها!

الجيش

لم يعلق العالم الغربي على «انقلابات» مرسي اليومية منذ اليوم الاول لمجيئه الى السلطة. جاءت ردة الفعل الغربية حين قام الجيش بالاصغاء الى 30 مليون مصري طالبوا مرسي بالرحيل. لقد بادرت حركة «تمرد» ودعت الى استعادة الثورة لروحيتها التي فقدتها منذ وصول مرسي الى الحكم ومصادرته حقها في المشاركة في القرار السياسي. نظر الغرب إلى ما يحدث في مصر بمنظار كلاسيكي للديموقراطية. لهذا السبب كان اول رد فعل لدى الادارة الاميركية هو وصف ما يحدث في مصر بانه انقلاب. لكن مهلا!!… مصر ليست التشيلي ومحمد مرسي ليس الليندي. مهلا!!

العسكر في التشيلي أجهض حركة شعبية وأطاح حكما ديموقراطيا أوصل الشعب عبره الليندي الى السلطة. الجيش في التشيلي اغتصب الديموقراطية ونصب حاكما عسكريا على التشيلي لعقود. اما في مصر فقد قام الجيش بتبني الحركة الشعبية ومطالبها. عُين عدلي منصور رئيسا موقتا ثم تم تعيين رئيس لمجلس الوزراء ووزراء. لم يكن حتى الآن بين المعينين أي من ضباط الجيش.

الصحافة الأجنبية هي أيضا بعيدة عن فهم ما يجري في الساحة المصرية. لكن مع 30 مليون مصري يقولون لمرسي: «ارحل»، لا نستطيع، كما اعتقد، ان نطلق ببساطة عمياء على ما جرى صفة انقلاب. من الخطأ، بالمقابل، التصفيق للجيش كونه الحامي والمصحح والبريء والمعصوم. الجيش له مصالحه الخاصة، لقد رأى كيف بدأ مرسي حكمه بمحاولة إقصاء الجيش عن السلطة وتسليم افراد الجماعة من ضباط الجيش مراكز مهمة فيه، كذلك بالسعي إلى إضعافه. في أماكن عدة من مصر كَفَّ يدَ القوى السياسية المتحالفة معه وأبعدها عن مواقع إدارية حساسة في المحافظات وفي الدولة.

ومن الطبيعي عدم الثقة بالعسكر. التاريخ علمنا هذا الدرس، خبرنا ويلات الانقلابات العسكرية في العالم العربي منذ ما قبل منتصف القرن الماضي. لكن مَن تابع الحركة الشعبية المصرية منذ يناير 2011 يعلم جيدا ان الشعب المصري لن يقبل هذه المرة بحكم عسكري في مصر.

رغم الخوف المشروع من ان يضيق هامش الحركة السلمية، رأينا الشعب المصري والمثقفين المصريين يتمسكون بالسلم في الاحتجاج والاعتصام والتحرك. من قام ويقوم بالعنف هم الإخوان المصريون على جاري عادتهم ومنذ تأسيسهم. والآن هم مستعدون للتضحية بالشباب المصري المنقاد وراءهم، ودفعه الى الهلاك والموت من اجل السلطة ولو كانت على جثث الناس. مجزرة الحرس الجمهوري هي مثال سلوكهم المدمر الذي لا يظهر أي مسؤولية وطنية تجاه مصر وتجاه من انتخبهم. والخوف أن يستمروا في نهجهم المدمر هذا ولا يقبلوا بإرادة الشعب الذي رفض سلطتهم.

كلنا نريد لمصر أن تسير على الطريق الصحيح، فهي بوصلتنا ونحن مدينون.

نعم… نحن مدينون للشعب المصري لوقوفه في ميدان التحرير في يناير 2011. نحن مدينون للشعب المصري لعودته مرة أخرى إلى الميدان. نحن مدينون للشعب المصري انه بعد اغتصاب مرسي لثورته لم ييأس… بل تابع ولم يَتَبَنَّ العنفَ طريقا.

المصريون لا يفعلون ذلك من اجلهم فقط، بل من اجلنا كلنا.

مصر تعلمنا اليوم معنى جديداً للديموقراطية. علينا الإصغاء للدرس والتعلم منه في بلدان شتى من العالم العربي. علينا استيعابه وحفظه.

لم تنتهِ الثورة بعد. أمامها طريق طويل.

صرخة الدولة «المارقة»!

حازم حسني

ليس سراً نخفيه أن حكم «الإخوان» لمصر كان فاقداً للكفاءة، وأن مصر لم تشهد هذه النهضة التي وعدت بها جماعة «الإخوان» جموع المصريين خلال الحملة الانتخابية الرئاسية، ولا المصريون رأوا هذا الحل السحري الذي ظلت جماعة «الإخوان» تعد به المصريين لسنوات، ونعني به أن «الإسلام هو الحل»! فقد انشغلت الجماعة منذ وصولها إلى السلطة بالإسراع بعملية التمكين التي خضعت لرؤية حسن البنا الإقصائية لكل ما عدا الجماعة من مكونات المجتمع المصري؛ فمنذ أسس البنا مشروعه والجماعة ترى الدولة المصرية الحديثة التي أسسها محمد علي باعتبارها دولة مارقة من حظيرة دولة الخلافة، وأن ما شهدته مصر بعد ثورة 1919 من دستور ليبرالي وحياة سياسية تعلي من شأن الوطنية والديموقراطية إنما يجعل منها «دولة فاسدة» لا مجرد «دولة تعاني من الفساد»، والفرق كبير بين الرؤيتين: فالدولة إن هي عانت من الفساد تحارب هذا الفساد، أما إن هي كانت فاسدة فالحرب تكون عليها لا على أي شيء آخر!

هكذا جاء «الإخوان» إلى الحكم وهم يعلنون الحرب على مؤسسات الدولة كافة، ولم يتخذوا إجراءً واحداً لإعلان الحرب على الفساد الذي جاء المصريون بهم إلى الحكم للقضاء عليه! بل ربما حرص أعضاء الجماعة على استمرار هذا الفساد الذي تعاني منه الدولة، وأخذوا يحصدون ثماره وكأنهم يرثون ما كان يتمتع به مبارك ورجال نظامه، ويكفي أن نرصد حرص رئيس «الإخوان» على التمتع بأبهة الحكم لنرى بوضوح كيف كانت تنظر دولة الإخوان لمصر وكأنها غنيمة حرب أو فيئ أفاءه الله عليهم يتبوأون منها ما يشاؤون!

هذه الحرب على «دولة فاسدة» يراد اغتنامها، لا الحرب الواجبة على «فساد تعاني منه الدولة»، جعل جماعة «الإخوان» في مواجهة مع القضاء والجيش والأمن والإعلام وحتى مع الثقافة التي أعلن وزيرها المتأخون حتى نخاعه أنها ثقافة فاسدة وأنه يحمل مشروعاً لأسلمتها! بل تمادت الجماعة فراحت تستعدي كل الأحزاب والحركات السياسية التي لا ترتبط معها بقانون «السمع والطاعة» بما في ذلك استعداؤها لحلفائها من التيار المدني الذين أيدوا انتخاب محمد مرسي رئيساً في مواجهة منافسه أحمد شفيق، بل واستعدت حتى حزب «النور» السلفي الذي لم يخف استياءه من استبعاده من حسابات توزيع الغنائم، وكان لافتاً للنظر أن يحدث هذا الصدع بين «الإخوان» و«النور» في الوقت الذي شهد تحالفاً عضوياً بين جماعة «الإخوان» وبين جماعات «الجهاديين» الذين ظهروا بوضوح في مشاهد العنف والدعوة إليه في سيناء، بل وحتى في الجيزة مع مأساة التحريض على الشيعة الذين تم سحلهم بمباركة ضمنية من رئيس الدولة «الإخواني» الذي تم في حضوره إعلان الحرب الدينية على «أعداء الدين»، وتم تحت سمع وبصر «الرئيس» اتهام المخالف الديني والمذهبي بأنه من «الأنجاس» من دون أن يبدي «الرئيس» امتعاضاً ولو بهز الرقبة أو تحريك الشفاه!

لم يعد الرئيس، بعد أن ساءت علاقته بكل مؤسسات الدولة، قادراً على الحكم، بيد أن الصدام الأكبر كان بينه وبين عامة الشعب المصري الذي ساءت أحواله المعيشية بدرجة غير مسبوقة جعلته قابلاً للانفجار، فقد شعر خلال الشهرين الأخيرين من عمر النظام الإخواني بالخوف من المستقبل وهو يرى نفسه مهدداً بنقص مياه النيل، كما شعر بالمهانة القومية وهو يرى جنود بلاده يختطفون ويهانون، كما صار يشاهد على الهواء مباشرة كيف تتعامل مؤسسة الرئاسة مع قضايا الأمن القومي باستخفاف شديد، في الوقت الذي بدأت فيه روائح فساد كريهة تتسرب عن سوء استخدام المال العام وعن تفشي الواسطة والمحسوبية لخدمة أفراد الجماعة والمتعاونين معها، فضلاً عن شائعات كان لها ما يبررها من أن جماعة «الإخوان» توظف مرافق الدولة ومواردها لخدمة أغراض الجماعة وأعضائها!

خلال هذين الشهرين الساخنين نشأت حركة «تمرد» التي بدت حينها حركة شبابية مستقلة عن كل الأحزاب والجبهات والوجوه السياسية المعروفة التي كانت قد فقدت بدورها ثقة قطاعات واسعة من الشعب المصري في قدرتها ومصداقيتها، فمنحت الجماهير العريضة ثقتها للحركة التي نجحت في جمع ما يزيد عن عشرين مليون توقيع برغبة الشعب في إجراء انتخابات رئاسية مبكرة، تسبب مجرد ذكرها هلع الجماعة الحاكمة.

اقترب شهر يونيو إذن من نهايته وهناك ثلاث صراعات كبرى هي صراع جماعة «الإخوان» مع الجيش والأمن اللذين تواصل العمل على إذلالهما وتحطيم معنوياتهما بانتظام، وصراعها مع التيار السلفي ممثلاً في حزب «النور» الذي شعر أن الجماعة تستأثر بكل شيء ولا تترك لغيرها إلا الفتات، ثم صراعها مع قطاعات عريضة من الشعب المصري شعرت بأن المستقبل يختفي تدريجياً من أمامها، وأن الأرض لم تعد مستقرة بما يسمح حتى للحاضر بأن يكون محتملاً! أقوى أطراف هذه الصراعات الكبرى كانت قطاعات الشعب المصري صاحبة الحق الأصيل في تعيين من يحكم البلاد، ولم يكن في مقدور الجيش ولا في مقدور الجماعات السلفية أن تحسم صراعاتها مع جماعة «الإخوان» بعيداً عن حسم الشعب لصراعه معها، ومن ثم التزم الجيش وحزب «النور» كلاهما حكمة التأهب من دون الانقضاض أملاً في أن تخرج بضعة ملايين من المصريين إلى الشوارع والميادين مطالبة بإسقاط دولة «الإخوان» … وقد كان!

كانت كل التوقعات تشير إلى أن نسبة لا تزيد عن 25% من عدد الموقعين على استمارات «تمرد» ستكون في الشوارع يوم 30 يونيو في ذكرى مرور عام على حكم مرسي، أي ما يقرب من خمسة ملايين نسمة، وكان ظن جماعة «الإخوان» أنها وإن كانت أعداداً كبيرة إلا أنه يمكن احتواؤها باللعب على عامل الوقت، والحشد المضاد، وبث اليأس من التغيير في قلوب المصريين، وهو ما بدا واضحاً في خطابيّ الرئيس السابق الأخيرين، لكن المفاجأة الكبرى التي أربكت كل الحسابات هي أن أكثر من خمسة أمثال هذا العدد المتوقع قد نزلت قبل الموعد المحدد بيومين حتى امتلأت شوارع وميادين القاهرة والأسكندرية وباقي مدن مصر بجماهير تهتف برحيل الرئيس الذي لم تعد تعترف بشرعية وجوده هذه الملايين التي ظلت تتظاهر بكثافة ملحوظة لمدة أيام لا ليوم واحد، وهو ما شجع الجيش على إطلاق إنذاره الأخير ثم الإعلان عن تعطيل الدستور وتعيين رئيس المحكمة الدستورية العليا رئيساً للبلاد.

أخطأ شباب حركة «تمرد» أخطاءً استراتيجية قاتلة أفقدتهم القدرة على استثمار نصر 30 يونيو وجعلتهم عاجزين عن إدارة المشهد بما مكن جماعة «الإخوان» من تجميع صفوفها والتحول من حالة الدفاع إلى حالة الهجوم، كما مكن حزب «النور» من المناورة السياسية والحصول على امتيازات وحق تحديد مسارات ثورة لم يشارك فيها، وأخيراً مكنت الإدارة السيئة للأزمة الجيش من أن يفرض خريطة طريق تعيد الأمور كلها إلى المربع رقم واحد مع دعوات غير مفهومة ولا هي مبررة لتمكين القوى المسماة بالإسلامية من تسيد المشهد من جديد مع إقصاء تدريجي لحركات شبابية أسكرتها النرجسية من جانب وضيعت إنجازاتها قلة الخبرة بالحياة من جانب آخر، بما انتهى بنا إلى علامة استفهام كبرى حول مآلات المستقبل المفتوح اليوم على كل الاحتمالات بما فيها احتمالات التحالف بين قوى الاستبداد عبر صناديق الاقتراع … من جديد!!

(كاتب مصري)

سطر مقلوب في تاريخ الوطن

علاء الديب

كابوس الفترة الإخوانية أتاح لنا ـ نحن الجيل الذي ولد مع النكبة 1948 ـ أن نراجع منحى حياته المكون من مجموعة من النكبات والانكسارات أو الهبوط المستمر، رغم ما مر به أحيانا من أوهام تجمع قومي في ظل عبد الناصر. وتوهم عدالة اجتماعية واشتراكية في تلك المرحلة، أضاعتها بعد ذلك مجموعة من الباعة الذين باعوا العالم العربي في سوق الرأسمالية المتوحشة بثمن رخيص، وتباروا في القول إن 99% من أوراق اللعبة في يد أميركا. دخلنا بعد ذلك في مستنقع «الرخاوة» التي مثلتها فترة الثلاثين عاما من حكم عبد الناصر، في تلك الفترة كادت رؤوسنا تتعطن من الغباء. إلى أن بدأ الحلم يبزغ من جديد مع شباب تصورنا أنه متخلص من كل أمراضنا، ولكن مع قلة خبرتهم سرقوا بسرعة لنستيقظ على كابوس جديد هو كابوس الإسلام السياسي. لم تكن جماعة الإخوان إلا سطرا مقلوبا في تاريخ الوطن.. وقد استطعنا أن نزيله ونمحوه.

الإسلام السياسي واحد من ثلاثة ديناصورات تتصارع الآن في المشهد العالمي: ديناصور الإسلام السياسي – الديناصور الصهيوني، وديناصور العولمة والحداثة، وسيقضي الصراع بينهما عليهما ولن يتبقى سوى حقيقة واحدة: حلم الشعوب في العدالة الاجتماعية والعلم.

علينا الآن، وهذا كلام موجه للثلاثي السيسي – منصور – الببلاوي، أن نتمسك بالمدنية الكاملة للدولة، والعدالة الاجتماعية والشفافية المطلقة، حتى تتأسس دولة جديدة لا إقصاء فيها لأفراد.. ولكن فيها إقصاء تيار ينادي بحكم الإسلام السياسي.. أعتقد أن المدنية والمواطنة مع العدالة الاجتماعية تضمن للجميع الاستمرار والحضور في المشهد.

(كاتب مصري)

الصوت الثقافي ساهم في إغراق سفينة الأخوان

وارد بدر السالم

(1)

بين 25 يناير و30 أكتوبر. بين سنتين وثورتين وحالتين ومصيرين. هناك شعب واحد وزمن واحد وميدان تحرير واحد ونسق ثقافي واحد، لكن في أدوات اختلفت، وشعارات تغيرت، ورؤية لا تتشابه، وطريق سالك الى الحرية الثانية في مسار شعب قُدّر له أن يكون الشعب العربي الوحيد الذي تمكن من مسح عار الثورات العربية التي وُصفِت بثورات الربيع العربي التي سرقها إسلاميو الزمن الجديد في غفلة من الثورات أنفسها!

ما حصل في 30 أكتوبر ان ميدان التحرير عاد الى رشده، فتلفع بلفاع ثورة مليونية لم تشهد لها تاريخ المظاهرات عدداً، وأظهرت الصور الجوية التي فاجأت العالم ان الطوفان البشري المصري لم يبلغه شعبٌ يوماً ما، وهذا في أقل تقدير يعني في ما يعنيه إرادة منتشرة في النفوس قبل الأجساد بإنّ التغيير الجديد هو استكمال لثورة ناقصة تُركِت عارية لـ«الأخوان»، بعدما أسفرت الثورة الأولى عن وصول مجاميعهم الى رأس السلطة في سنة مكبوسة على الأنفاس، وفي تحولات، بعضها مشبوه، غير مُرضية للشعب المصري الذي أسقط كابوس مبارك في ملحمته الأولى، ولكي تكون الثورة الثانية تصحيحية لوضع عجلة الثورة الأولى على سكة الوطن بشكل خاص والحياة بشكل عام.

(2)

تمكن ملاحظة نسقين كانا متوازيين في مسار هذه الثورة العملاقة، هما النسق السياسي والنسق الثقافي اللذان تعاشقا بطريقة مثالية وسارا بيد واحدة بطريقة المصالحة الوطنية لاستبعاد هدف واحد كان يشكل خرقا للنسقين في معنييهما التقليديين، وبما أضرّ بمنظومتيهما كثيراً، في محاولة لجعل الثقافي لصيقاً بالسياسي في مرحلة حرجة من مراحل الإنجاز الثوري بطريقة التظاهر الطوفاني العارم، بما يشكل رديفا لا غنى عنه في رفد السياسي بالكثير من الرؤى والملامح الفورية لبناء قيم أخلاقية ولوجستية وسلوكية تناسب الموقف الخاضع لقوته المباشرة وتأثيره الروحي والنفسي.

(3)

في الثورة المصرية الجديدة التقت أنساق السياسة وجماهيرها المليونية المعجزة، بأنساق الثقافة ووسائلها الحيّة في منظومات الاتصالات المرئية الصورية والسمعية والمقروءة، وبطريقة التكافل الملحوظ في تغذية الثورة بأنماط تعبيرية جدية في الصورة والصوت والكتابة والشرح والتحليل وضخ وسائل تعبيرية مختلفة ومتعددة للبرهنة على جدية الحالة الخارجة من لهيب احتقان لم تستطع الجماهير من تجاوزه في الحالات كلها.

النسق الثقافي ومعادلاته الموضوعية ووسائله الضاربة اقترب كثيراً هذه المرة من النبض الاجتماعي بطريقة فاعلة جدا، عبر الصورة التلفزيونية والبوستر المعبّر المنتشر في وسائل الاتصال الاجتماعي / الفيسبوك ـ التويتر / وصورة الجريدة والمقال اللاذع والكشف الميداني لوسائل الطرف الآخر الذي طوقته حشود الثورة وأبعدته عن مثابة النصر الأول كي لا يجدد وجوده ثانية، وهو الذي أثبت عجزه عن مواكبة الطوفان المليوني الذي لا سابقة له في تاريخ المنطقة.

(4)

الصدمة غير التقليدية التي أحدثتها الثورة المصرية في المنطقة العربية غيّرت من مفاهيم سياسية و«اسلامية» متعددة ومتداخلة في بنية هذه التنظيمات وإيديولوجياتها وأفكارها المعروفة، والتي أحالتها بطريقة مشروعة الى الفحص الميداني المباشر، فثبت أنه يمكن حرق كل الأوراق المتشبثة بقشور السياسة أو الدين للوصول الى مرفأ أكثر أماناً وواقعيةً في تبني الخطاب الجماهيري الواحِد المطالب بوطنية مصر واسلاميتها الحقيقية من دون البقاء تحت أفكار مريضة لا ترى في الحياة غير وجودها وتنظيماتها، وهو أمر أثار جدلاً غير منظور حينما وصل الأخوان الى رأس السلطة، تبنته السعودية من جانب خفي وقطر من جانب مكشوف، فالسعودية باثّة الفتن الطائفية ترى إن وجود الأخوان في رأس سلطة أكبر دولة عربية هو إزاحة لدورها (الإسلامي) المعروف في تبني الفكر الوهابي مصدّر الانتحاريين الى العالم وبالتالي ظلت السعودية طيلة الفترة الماضية تديم علاقاتها التسليحية مع الجيش المصري، فيما وضح إن قطر كانت تدعم الجماعات الأخوانية بطريقة لا لبس فيها، وهو أمر أحدث شرخاً؛ ربما غير منظور كثيراً؛ في منظومة مجلس التعاون الخليجي ولو من الناحية المعنوية. والأكثر وضوحاً هو الدعم السعودي للعسكر المصري بإعلان تنحي مرسي بالانقلاب الناعم الذي قاده الجيش المصري بطريقة مفاجئة وذكية لا تخلو من أسئلة كثيرة. وموقف السعودية السريع بتأييد مثل هذا (الانقلاب) الذي أقصى الأخوان بعد ثلاثة أيام فقط من دون مواجهات صعبة في بادئ الأمر.

(5)

تمكن الطوفان المصري المليوني من إسقاط «شرعية» الأخوان وإزاحة مرسي الذي بدا صورة كاريكاتورية لرئيس أكبر دولة عربية عبر شهور حكمه، بل وأسقطت تلك الشرعية التي طالما تبجح بها، فأثبتت الجماهير انها أكبر من الدساتير والقوانين الوضعية، وأكبر حتى من صناديق الاقتراع؛ كما أثبتت انها تسير وفق أنساق وطنية غير عابئة بمخلفات ثورتها الوطنية؛ فألغام الدساتير وصناديق الاقتراع تساقطت هي أيضاً خلال ثلاثة أيام، لتثبت إن الشعوب يمكنها أن تقهر فكرة «الديموقراطية» الوضعية المتسلطة التي تنظر الى المجتمع بعين واحدة ضيقة لا يمكنها أن تكون عادلة، وبالتالي فالجماهير وأحزابها العلمانية وقيمها الحضارية والثقافية تصدت لمشروع «أخونة» مصر فأحدثت هذا الانقلاب الجوهري في بنية الشرعية المزعومة، قبل أن تستفحل ظاهرة الأخوان باختراق المجتمع المصري المدني ومؤسساته الحكومية وإخضاعه الى إيديولوجية فكرية ودينية متطرفة تمسخ أهلية المجتمع وتحوله الى مجتمع متطرف لا يليق بسمعة مصر تاريخيا وحضاريا وثقافيا، ومن ثم تحطيم كل هذا الإرث المتحصل عبر آلاف السنين.

(6)

هذه أول مرة يشتغل فيها النسق الثقافي الى جانب السياسي بروح مجاهرة لوطنية البلاد. وهذه أول مرة يعلو فيها الصوت الثقافي من دون مواربة، ليشق طريقه الى العقول بروح رياضية غير مؤدلجة، بل منفتحة الى مصير وطني مشترك تتقاذفه رياح الأخوان في ترتيبات مشبوهة كان لها أثر سيئ في بنية المجتمع العام، لذا فالثقافي المنفتح تضافر الى حد كبير في تهيئة المناخ العلماني الصحي لمواجهة هذا السيل الأخواني الذي حاول اغلاق أبواب الحياة بطريقته المصحوبة بالعنف والتخوين والتخويف وتوفير الحجج المطلوبة للتكفير، تساعده في ذلك فضائيات محلية فتحت النار على الجميع، بمرافقة فضائيات تخوينية ذات نفس عدائي للعروبة والإسلام (الجزيرة)، لذلك وجدنا إن الثقل الثقافي هذه المرة برع في تقديم براهينه للحياة المصرية على ان الأخوان ومن معهم خارجيا هم ضد الحياة بكل ما فيها من بقاء وديمومة وعناصر جذب ايجابية. ولا شك إن الصوت الثقافي الذي يُعدّ مهمشاً في العادة في مثل هذه الثورات العارمة، بدا أكثر سطوعاً وإبهاراً، وكان للمثقفين المصرين من صحفيين واعلاميين وأدباء وفنانين أدوار متناوبة في شحذ الهمم الجماعية بمغذيات خطابية وتحليلية من دون اللجوء الى التحفيز المجاني الذي يرافق مثل هذه التظاهرات المحتشدة. كما بدا واضحاً إن الآلة الإعلامية المحلية تمكنت من عزل الخطاب الأخواني وتهميشه وتقزيمه وسحقة بالنتيجة’ لتفوز مصر بثورة ثانية استطاعت فيها فعلا مسح عار الثورة الأولى ومهدت الطريق الى ثورات عربية ستأتي لإزاحة كوابيس الإخوان والتكفيريين ومن على شاكلتهم.

(كاتب عراقي)

كنانة الثقافة تنوء بسهام السياسة

سعيد يقطين

مصر أم الدنيا.. أرض الكنانة.. مصر المتخيل والتاريخ والواقع، أبداً حبلى بالعطاء والجديد. ظلت مصر أبداً منارة للاجتهاد والتنوير. حملت مشعل العروبة والإسلام والفكر الحديث منذ عصر النهضة، وظلت مشاركتها طليعية في مختلف محطات التحول العربي، فكانت بذلك قلب العروبة النابض بالحياة. ظل هذا القلب النابض أبداً في وجدان وذاكرة العرب جميعا.

عرفناها من خلال صادق الرافعي والعقاد، ومن خلال طه حسين والبهبيتي، وسيد قطب ومحمود أمين العالم، كان الإبداع والفن والفكر ينبع من أرض الكنانة متنوعا ومتعددا، وقد صارت قبلة للفنانين والمفكرين من مختلف البلاد العربية. وكانت المعارك الأدبية والثقافية والسياسية مجالا خصبا للتحفيز على التفكير، ودعوة إلى الحرية الفكرية والفنية بمسؤولية ووعي. ظلت هذه الـ«مصر» اختزالا لكل «الأمصار» العربية، ولا يمكن مهما تحولت الظروف أو تغيرت الأحوال إلا أن نفرح لفرحها، ونحزن لما يصيبها من مدلهمات.

فرحنا لمصر في ربيعها الينايري الذي اعتبر بداية للتحول نحو استرجاع أرض الكنانة مكانتها باعتبارها منارة للتفكير والتجديد والحرية. وها نحن نحزن الآن لصيفها الحزيراني الذي يفتح المجال واسعا للتساؤل عن الحال والمآل.

من المحير أن ما وقع منذ 25 يناير أثار أسئلة كثيرة حول طبيعته: أهو ثورة؟ أم حركة شعبية؟ وتثار الأسئلة نفسها عما حدث بعد 30 حزيران: أهو انقلاب أم ثورة؟ والأعجب أن الإدارة الأميركية، بخبرتها وخبرائها واستراتيجييها، لا تزال في وضع الباحث عن الجواب الذي لا تريد الانتهاء إليه؟ لكن الإجوبة الحاسمة تجدها لدى الشعب المصري، وعند وسائل الإعلام العربية حسب اصطفافها وموقفها مما يجري في أرض الكنانة؟

لا تخرج الإجابات عن ثنائية الموقف: مع أو ضد ما يجري. وبحسب الموقف المسبق: هناك من يؤكد أنها الثورة أو يسجل أنه الانقلاب. هذا الازدواج في الموقف لا يعني إلا أننا أمام رؤية الواقع كما يريد أصحاب الموقفين المتضادين، وليس كما هو في الحقيقة. وبحسب الثنائية نفسها، صرنا أمام شرعيتين، وساحتين تتقاسمهما المواقف والرؤيات. وفي خضم هذه الصيرورة وقد باتت البلاد على صفيح ساخن، اشتدت المناداة حول «المصالحة الوطنية». ألا تستدعي هذه المصالحة بدورها أن هناك موقفين، وأن أحدهما يريد فرض ما يقع لفائدته مع إنكار مطالب الآخر؟

من «الثورة» إلى «التمرد»

جاء الربيع العربي ليضعنا أمام مرحلة جديدة من التطور. والتف الشعب العربي، في الأقطار التي تحقق فيها، بكامله حولها مرددا شعار «رحيل» مرحلة، لتحل محلها أخرى. كانت الميادين تتسع لكل الأطياف السياسية والاجتماعية، ولسان حالها، وهو يرتفع ضد الفساد، يحلم بحقبة جديدة. وكانت الانتخابات التي أوصلت الإسلاميين إلى السلطة. أليست هذه هي الديموقراطية التي جاءت لتضع المجتمع أمام مرحلة جديدة من التطور والتغيير؟ لكن، الآن، وفي خضم أحداث 30 حزيران، بتنا نقرأ ونسمع محاولات للتشكيك في إمكان تحول المجتمع عبر صناديق الاقتراع؟ ولا بد من انتهاج أساليب جديدة للتغيير. جاءت حركة «تمرد» رد فعل على سياسة الإخوان وأخطائهم، وانتهت بوضع الرئيس رهن الإقامة الجبرية، واعتقال مسؤولين إسلاميين وحجب قنوات إسلامية. انقسم الشعب المصري إلى ساحتين، إحداهما للتحرير، وأخرى لرابعة العدوية. وفي المغرب، بعد 30 يونيو، رفعت أصوات شبابية صدى «التمرد» ليكون في 17 غشت 2013؟ وانسحب حزب الاستقلال من الحكومة التي يقودها حزب العدالة والتنمية، أملا في ممارسة محتوى ما آلت إليه الأوضاع في مصر. وفي تونس تم الإعلان أن ما يجري في مصر لا يمكن أن ينسحب على ما يقع في تونس.

لا نريد التوقف أمام التطورات التي أعقبت الربيع العربي، وما صاحبتها من أحداث ووقائع، لأنها معروفة، بشكل أو بآخر، للجميع. لكن ما نود التنبيه إليه هو أن ما تراكم من ممارسات سياسية وتصورات إيديولوجية لدى «النخبة» السياسية ولدى الشعب لا يمكن إلا أن يسلم إلى أن الأوضاع مرشحة للمزيد من التعقيد، وأن الأفق غير قابل للتحديد، وأن التدبير الذي يمكن ان يسهل عملية التطور والتغيير غير ناضج لدى كل الأطراف التي يمكن أن تسهم في وضع «خارطة الطريق» المؤدية إلى برالتشييد والبناء.

من أجل المصالحة

لقد أدت صناديق الاقتراع التي ساهم فيها الشعب إلى إحلال الإسلاميين موقعا على رأس هرم السلطة. لكن هذا الصعود ورَّط الصاعدين، وأزَّم المناوئين. لم تحترم إرادة الناخبين (الشعب) سواء من لدن من صاروا في الحكومة، أو ممن ظلوا في المعارضة، لأن كلا منهما يشتغل بوحي أنه الوحيد الذي يملك الحقيقة. فكان التجاذب والتنابذ. ولا يمكن أن ينجم عن ذلك غير العنف والعنف المضاد. ولن تكون النتيجة غير تقسيم الساحة، وتوزيع «الشرعية»، وكلٌ يدعي الحق إلى جانبه، وهو يدافع عن أطروحته، مخونا الآخر، أو مكفرا إياه.

إن المشتغل بالسياسة في العالم العربي، لأنه ترعرع في ظل عقود طويلة من الاستعباد والاستبداد والفساد، يحمل في متخيله صورته، ولذلك فهو عندما يصبح في موقعه، لن يكون إلا هو؟ ولذلك فهو مع الهيمنة، وضد احترام الآخر، ولن يعدم المبررات التي تسوغ له ادّعاء امتلاك الحقيقة والشرعية. إن تنازع الشرعيتين والساحتين في 30 حزيران، ليس تنازعا حول من يمثل الشعب، وقد صار «شعبين»، أو يحكم باسمه، أو يحقق آماله، ولكنه تنازع حول من يمكنه أن يتسلط، أو يلغي الآخر النقيض؟ وما دامت هذه هي الرؤية السائدة، فأي حديث عن المصالحة الوطنية محض افتراء وادّعاء، ما لم تتغير نظرة النخبة إلى السياسة والمجتمع.

كان من نتائج تخلف النخبة السياسية العربية، من أقصى اليمين إلى أقصى اليسار، أن ساد سوء الثقة بين مكونات المجتمع السياسي، وهيمن إلغاء الآخر بين المشتغلين بالسياسة لحسابات سياسوية ضيقة. فكانت الحصيلة أن تسيدت الانتهازية والوصولية، وغابت القيم والمثل الوطنية والديموقراطية في التصور والممارسة. ولقد ساهم كل ذلك في غياب التواصل بينها وبين من تدّعي تمثيلهم أو الدفاع عن قضاياهم… وكل الشعارات التي كانت ترفع حول احترام الآخر المختلف معه، بل والذهاب إلى حد الدفاع عنه، (كان هذا شعار مجلة الطليعة المصرية) صارت نسياً منسياً.

الكنانة الثقافية دجنتها نبال السياسة البئيسة وقتلتها منذ أواخر السبعينيات. وحين تستعيد أرض الكنانة عمقها الثقافي التاريخي، ويصبح أطراف الصراع فيها قادرين على خوض المعارك السياسية والثقافية بالحوار والنقاش الجاد والرصين، وباحترام الآخر، والقدرة على ممارسة الاختلاف، يزول التخوين والتكفير، وترتد النبال السياسية على أصحابها، فتكون الشرعية الحقيقية، وتستعيد الساحة إشعاعها وألقها وريادتها على المستوى الوطني والعربي. وبذلك تكون «المصالحة» الوطنية الحقيقية بلا تأولات بعيدة وعابرة، أو تهويمات تحليلية زائفة.

(كاتب مغربي)

مصر تستردّ ذاتها

احمد زين الدين

يصعب تحديد مآل المشهد السياسي المصري بعد 30 يونيو، حين انتفضت مصر مرة أخرى خلال عامين على ذاتها. على ضرورة تنقية نفسها من الشوائب والعيوب والقصور الذي حاق بمسار الثورة الشعبية الأم، وتحوّلها إلى آلة احتكار واستفراد بيد الإخوان المسلمين لتنفيذ مآربهم السياسية، بعد انتقالهم من الكواليس الخلفية ومرحلة الانتظار، إلى مقدمة المسرح كلاعبين أساسيين. ربما أمكن إدراج ما يجري من تأجّج جذوة الحماسة مجدداً في شرايين الميادين المصرية على أنه صراع على السلطة، وعلى انه عزل وانقلاب وتمرّد، يتمظّهر على الملأ احداثاً واضطربات، تنقلها شاشات التلفزة العربية والدولية على مدار الساعة. بيد أن نظرة متروّية لما لابس الأحداث وما يزال، تكشف حقلاً صراعياً آخر أكثر عمقاً واتساعاً، من ان يُحدّ بالصراع على السلطة او الحكم، هو الصراع على مفهوم الدولة المصرية وهويتها، والتنازع على جوهرها ووظيفتها، بعد ان اجتاحتها جائحة المتأسلمين وقبضوا على أعنة الحكم فيها. الدولة التي صبا اليها العرب طويلاً كمثال جدير بالاحتذاء، بعد ان قُرّت في أذهانهم صورة الدولة الراسخة البنيان التي لا تهتز ولا تتزعزع أركانها. الدولة التي حملت مشروعها النهضوي الحداثي من محمد علي باشا ورفاعة الطهطاوي، الى احمد لطفي السيد وطه حسين وكل التنويريين الآخرين. الدولة الضاربة جذورها في التاريخ الفرعوني السحيق، والتاريخ العربي والاسلامي، وصولاً إلى العصر الحديث بتجلياته الفكرية والعلمية.

التنازع اليوم في محصلته الراهنة، هو تدافع بين رؤيتين. بين بقاء الدولة المصرية كدولة قومية وطنية جامعة كما رست منذ قرون، أو ارتكاسها وعجزها ووهن عصبها العروبي، وتلاشي دورها وقدرتها على تجديد مقوماتها العصرية، واسترداد صلابتها الفكرية إزاء المدّ الديني الأصولي السلفي برموزياته وطقوسياته وأساطيره وخطابه المراوغ الذي يدغدغ مشاعر المحبطين واليائسين، وتعاظم امكانياته وقدراته على استيعاب، وعلى احتضان الكتل الشعبية المهمّشة ذات الميول الدينية المتجذرة في وجدانها الشعبي التاريخي العريق.

الانتفاضة الثانية هذه التي تشهدها ميادين مصر، إنما هي تعبير عن بلوغ التنازع بين الرؤيتين ذروته ومداه الأقصى، ودلالة واضحة على تفريط السلطات السابقة بدورها واختلال وظائفها. الدولة التي تأرجحت لأعوام طويلة بين القمع العاري لمعارضيها الإسلاميين ومطاردتهم، وزجّهم في السجون والمعتقلات، من دون أن ننسى بالطبع اليساريين والشيوعيين والناصريين، وسائر المعترضين الآخرين. وبين الحسابات الضيقة التي جعلتها تتغاضى عن احتلال جماعات الإسلاميين وأطيافهم العديدة الفضاءات العامة الشاسعة تحت ألوية الدين ومظاهره الطقوسية والشعائرية. تآكلت سلطة الدولة وتراخت قبضتها المعنوية والمادية عن مجالها الحيوي تواطؤاً وإهمالاً أو قصر نظر. وأفضى هذا القضم لمشروعية الدولة المصرية الحديثة، والاستيلاء الرمزي والفعلي على حقولها ومجالاتها الحيوية، الى توسّع الهيمنة الإسلامية على حساب وجودها، والى وضع الدولة وحقوقها موضع ارتياب وشكوك عند جيل من الشباب نشأ على بديل من قيم الطاعة والامتثال لأولي الأمر باسم الشريعة والمقدس، عوض التخلّق بالقيم المدنية والمواطنية. ومع نضوب الحياة السياسية بالمعنى العميق للكلمة الذي تتحمل مسؤوليته أجهزة الدولة الأمنية والسياسية، طفا على السطح الجسم الديني بمحمولاته الرمزية والإيديولوجية، وخطابه التعبوي المتميّز بجاذبيته وسيولته وسرعة فشوه بين الناس. لا سيما انّ اللغة الدينية في أدبيات الإخوان وسائر السلفيين الدينيين تقترب من ذائقة المواطن المصري، بل المسلم اينما كان، وتحمل في طياتها شحنات وجدانية وإيحاءات عميقة.

اختراق

استطاع الإخوان اختراق المراكز الحيوية في المجتمع المصري، وعلى رأسها النقابات المهنية والجامعات والمواقع البرلمانية والكوادر المالية والتجارية. وقد استفادوا في سبيل وصولهم الى سدّة الرئاسة، من إعادة توليف سردياتهم ومروياتهم السياسية على ما شابها من اضطهاد واستبعاد، وعلى حملها قيم الكفاح والجسارة والاستشهاد. وكلّها موضوعات تثير المواريث والرموز التاريخية التي يفتقر إليها الواقع الاجتماعي الراهن. ناهيك عن أنّ هذا الفكر المزعوم محمّل على الصعيد الأخلاقي بالتطهّر والنزاهة والعدالة الإلهية، على ما يقول الباحث نبيل عبد الفتاح في «النص والرصاص».

كان الفصيل المؤهل لتسلّم مقاليد الحكم هم الإخوان، لأنهم الأكثر تنظيماً وجدارة وقدرة على تحريك الكتل الشعبية، ولأنهم يمتلكون شبكات اجتماعية منتشرة تقدم الخدمات لمحازبيها ومناصريها، وباستطاعتها الدعوة الى النفير والتعبئة والحشد السريع. وتذكّرنا هذه بشبكات اسلامية أخرى مماثلة في عديد من الدول، هي مرتكزات قوة وسلطان للجماعات الدينية، في ظل حكومات مقصّرة عن أداء واجباتها حيال مواطنيها.

لا يمكن حصر الأسباب المباشرة وغير المباشرة التي أعادت جماهير مصر الى الساحات، لكن ثمة اسئلة لا مناص من طرحها لعلها تلقى جواباً.

هل تردّت الحالة في مصر خلال عام واحد من حكم الإخوان، إلى هذه الدرجة من التدهور المريع الذي يصفه جون برادلي في كتابه الأخير «ما بعد الربيع العربي» عندما يروي ان منطقة مثل الأقصر التي اعتاد زيارتها مراراً تحوّلت إلى مركز للدعارة والسياحة الجنسية واحتراف الاحتيال على السيّاح من أجل الحصول على المال. وان مناطق مصرية متعددة تفاقمت فيها حوادث الاختطاف بغرض ابتزاز المال من الأسر الثرية، واقترفت الجرائم وحوادث السرقة بالإكراه والاغتصاب وحمل السلاح جهاراً، وازداد الفقر والعوز؟

استرداد

هل كانت الانتفاضة الثانية نتيجة نقض الإخوان لاتفاق أبرموه عقب الثورة مع القوى الليبرالية واليسارية والعلمانية التي تزعّمت قيام الثورة لتقاسم السلطة بين هذه الأطراف؟ فكان ان اختطف الإسلاميون في مصر الثورة من أيدي الشباب، واستردّها الجيش باسم الشعب ليعود مجدداً إلى الواجهة كأحد حماة الوحدة الوطنية والضمير الشعبي من جهة، وليصفي حسابه الدموي مع التاريخ الإخواني من جهة اخرى؟

هل أن مصر نضت عنها الثوب الإسلامي لأنّ المتعصبين المسلمين، على ما يقول الفولكلور الإعلامي، هم أقلية لا تتلاءم أفكارهم وطبيعتهم مع طبيعة المصري الذي يعيش على موروث تاريخ مصر الطويل القائم على التعددية وقبول الآخر والتنوع، وعلى المزج المثير بين موروثات الإسلام والمسيحية القبطية والوثنية الفرعونية، كما تتجلّى في احتفالات شم النسيم أو عيد قدوم الربيع، ومشاركة الجميع اقباطاً ومسلمين في هذه الاحتفالات؟

واذا صدقنا استطلاعات الرأي في مصر بعد الثورة، فإن اكثر من 75 في المئة حسب التقديرات، كانت تؤيد الإخوان المسلمين، فكيف قلب الناس ظهر المجنّ لهم، وانتفضوا بهذه السرعة ضدهم؟ وكيف اختفى فجأة هذا التنوّع من الطيف الاجتماعي والطبقي والثقافي من إصلاحيين وراديكاليين ويساريين ومدافعين عن حقوق الإنسان وحقوق المرأة، تحت عباءة الإخوان المسلمين، قبل أن تُكتشف ثقوبها الواسعة؟

هل كان سقوط دولة الإخوان المسلمين، هو سقوط هذا المشروع الإسلامي الغامض المراوغ غير محدّد السمات الذي تحمله كثير من الفصائل الإسلامية في العالم العربي. المشروع الذي يخاطب وجدان الناس ومشاعرهم لا عقولهم، وأحلامهم لا واقعهم، وماضيهم لا حاضرهم او مستقبلهم؟

هل اكتشف الناس او جلّهم الفائض الإيديولوجي الذي ينضح من حركة الإخوان، وسائر الحركات الإسلامية، وغياب النماذج التنموية والخطط والمشاريع الاقتصادية والاجتماعية، في دولة كمصر تتصف بالتنوع الديني والاجتماعي، وبرسوخ قدمها في الحياة الأكاديمية الدستورية وإرثها الذي تبنّته الجامعات العربية وكليات الحقوق فيها. وهل اكتشف الناس غياب الوازع القانوني المدني عند الجماعات الإسلامية، لحساب نمط من الرقابة الأخلاقية المسلكية الشخصية المباشرة، وسيطرة الرؤية الذكورية التي تفرّق بين جسد المرأة وجسد الرجل؟

عديدة هي الأسئلة التي يمكن قراءة مفاعيلها في الحقول الاجتماعية والحقوقية، والتي تعبّر عن أزمات بنيوية، وثقافة تمييزية جنحت في المرحلة الانتقالية الإخوانية الى التضييق على الناس، والى تحوير الأسس التى رست عليها العقلية المصرية، قبل ان يجرفها الشطط الفكري الذي يضرب اليوم ضفاف النيل العظيم.

خدعة أم ثورة؟

عبد الرحيم الخصار

لم أكن أرتاح لماو تسي تانغ وهو يعرّف الثورة على هذا النحو: «الثورة ليست حفل عشاء، وليست مقالا يكتب، أو لوحة زيتية ترسم، أو قطعة من قماش تطرز، ولا يمكن للثورة أن تتحقق بنعومة، بتدرج، بحذر، بأدب، واحترام، وتواضع، واعتبار لمشاعر الآخرين. الثورة هي انتفاضة، هي عمل عنيف، تقوم من خلاله طبقة بالقضاء على طبقة أخرى». و لم أكن أعتقد على الأقل أن هذه الجملة يمكن أن تجد لها امتدادا في العالم العربي، هذا العالم الذي كان عبارة عن مستعمرات في الفترة التي كانت الدول الكولونيالية تمارس «العمل العنيف» و تلغي كل «اعتبار لمشاعر الآخرين».

لكن ما حدث في مصر خلال الفترة الأخيرة جعل هذه القولة تعود لتحضر أمامي وبقوة، فكل عناصرها مكتملة: العمل العنيف: سقوط قتلى، غياب الأدب والاحترام: كل فريق يخوّن الفريق الآخر ويعتبره ضد الشعب وعميلا للخارج وينعته بكل الشتائم الجاهزة، غياب التدرج: إطاحة رئيس دولة في فترة قياسية، رغبة طبقة في القضاء على طبقة أخرى: الصراع الذي صار معلنا في مصر بين طبقة تضع الدين أمامها وطبقة أخرى تضع الدين وراءها، أو بصيغة أخرى طبقة تعتبر أن العودة إلى الدين هي الحل، وأخرى ترى أن أول الحلول هو ترك الدين جانبا حين يتعلق الأمر بتدبير الشأن السياسي والاقتصادي.

لم يكن الصراع السياسي في مصر خلال الفترة الأخيرة صراعا شريفا يتنافس فيه طيفان سياسيان منطلقهما الأساس هو خدمة الشعب، بل كان رغبة فئة سياسية في القضاء على فئة أخرى، عبر إخراجها من السلطة والزج برموزها في السجن، وإغلاق المنابر التي تعبر فيها عن فكرها مهما كانت طبيعة هذا الفكر، هذه المجموعة نفسها حين أوصلها الشعب للسلطة بعد سقوط نظام مبارك ألغت الفريق الآخر من حساباتها، الآخر المختلف معها طبعا. لكن الذي سيجعل الصراع غير عادل هو دخول فئة ثالثة هي الجيش، فئة تملك السلاح، ولا تملك اللغة والكلمات (الخطاب و الأيديولوجيا) شأن الفئتين المتصارعتين سياسيا. ربما لنتيجة كهذه ألغى تانغ من تعريفه للثورة المقال (الفكر والثقافة) واللوحة (الفن) وطرز القماش (العمل) وحفل العشاء (الحوار). وغلّب السلاح.

إذا كنا سنقبل هذا التعريف الذي وضعه تانغ للثورة فسنعتبر أن ما وقع في مصر خلال الأيام الأخيرة فعلا ثورة، لأن فيه توصيفا للأحداث التي طرأت بدون «حذر» وبدون «تدرج».

لماذا سقط الرئيس

لماذا سقط الرئيس المصري بهذه السرعة؟ وهل الشعب المصري فعلا هو الذي أسقطه؟ أعرف أن أسئلة ومداخل كهذه ستجعلني أبدو لأصدقائي المصريين ـ وهم كثيرون ـ كما لو أنني أنحاز إلى تنظيم الإخوان، أعرف أيضا أن هؤلاء الأصدقاء ـ وهم تقدميون ويساريون في أغلبهم ـ تنفسوا الصعداء بعد سقوط نظام لا يتفهم القائمون عليه قضايا الفكر والثقافة ويضيقون الخناق بوعي وبغير وعي على مختلف الفنون التي ترتبط بقيمة أساسية، وهي الحرية. فالمنطلقات مختلفة، إذ تنطلق الكائنات الدينية في الغالب من مسلمات ويقينيات وأجوبة جاهزة وحدود لا يمكن تجاوزهـــا، بينـــما تنطـــلق الكائنـــات الأخرى من الأسئـــلة وتؤمـــن بالتجــريب والتحـــايل على الحــدود.

أعرف أيضا أن أصدقائي هناك كانوا في حرب يومية ضد هذا التضييق، وأقدّر المشاعر التي كانت تغمرهم، فكلهم – وكلنا معهم – كانوا وكنا خائفين على مستقبل الثقافة في مصر، من مسرح وموسيقى ونحت وكتابة وسواها. الثقافة هي الترمومتر الحقيقي لتقييم حضارة كل بلد. ووصول وزير «إخواني» لبيت الثقافة كان مبعث حذر ليس للمصريين فحسب، بل لمعظم المثقفين في العالم العربي.

الفترة التي قضاها الإخوان في تدبير شؤون البلاد لم تكن مثالية، هذا أمر واضح، كان هناك تخطيط تدريجي لأخونة الدولة، والرئيس الشرعي للبلاد بدأ يحتمي بهذه الشرعية لتمكين «الجماعة» على حساب بناء الدولة، لكن الشيء الذي كنت أتمناه ـ وأقوله لأصدقائي هناك بصدق ـ هو أن يكون الشعب بالفعل هو من أسقط الرئيس، وليس العسكر. أو بصيغة أوضح ألا تكون يد العسكر هي اليد الغالبة في ما حدث. ما كنت أتمناه أيضا هو ألا ينقضّ المعارضون على السلطة بهذه السرعة وبهذا التلهف. المعارض النزيه يفهم أولا ما الذي وقع، وما الشروط التي سيحل بها، المعارض النزيه و«الثوري» لا يدخل خيمة السلطة ليجلس إلى طعام لا يعرف من جاء به. والمعارض النزيه في النهاية يفهم أن العسكر الذي أدخله إلى بيت الحكم ليلا سيخرجه منه في الصباح. سيكون ضعيفا بالضرورة كل من وصل إلى القصر الرئاسي بعد أن مهدت له الجيوش الطريق، وليس الشعب. وعوض أن يتحكم العسكر في دواليب السياسة ويجعل أهلها تابعين له يجب عليه أن يكون في خدمة الشعب وتابعا للقوى السياسية التي تحكم البلاد والتي يختارها الشعب.

صحيح أن العيون والحواس أصيبت بالذهول لهذا العدد الكبير الذي خرج في 30 يونيو وما بعدها، لكن الخوف الذي ينتابني هو أن يكون الشعب المصري الذي أعزه كثيرا قد وقع في خدعة، فصُّور له الانقلاب ـ أو الانقلاب المقنع ـ على أنه ثورة. مشكلة مصر ـ مثلما هي مشاكل العالم العربي برمته ـ هي أن كل شعب لا يحدد مصيره مع حكومته، حتى لو كانت هذه الحكومة ـ فرضا ـ عادلة وديموقراطية، دائما ثمة أيادٍ تأتي من الخارج لتترك لمستها ولتغير ما يخدم مصالح أخرى، ليست بالضرورة مصالح البلد. غالبا ما تتدخل دول كبيرة بعيدة تكون بمثابة جنرالات للعالم ومعها دول صغيرة من الجوار برتبة «صول» في الخرائط السياسية لبلدان الشرق الأوسط وافريقيا وما شابهها. وهذا أمر مقلق وجارح لم يعد بمقدور أحد أن يعرف إلى متى سيستمر.

على الشباب الذين خرجوا منذ أكثر من عام إلى الشوارع ليصنعوا الثورة أن يحافظوا عليها، ومثلما حموا الثورة من «الفلول» و«الإخوان» عليهم أن يفكروا أيضا في حمايتها من العسكر، وألا ينتظروا من العسكر أن يحمي ثورتهم.

(كاتب مغربي)

إنضاج الربيع العربي

عارف حمزة

بعيداً عن مسألة أنّ ما جرى في مصر كان انقلاباً عسكريّاً على الشرعيّة أم لا، وبعيداً عن التكهّنات الدمويّة التي تبشّر بها مراكز أبحاث دوليّة، أو شخصيّات فكريّة وسياسيّة، أو حزب الإخوان المسلمين في مصر، فإنّ الذي يشدّ النظر، والفكر في ذات الوقت، هو قدرة الشارع المصريّ على استعادة اكتساب القوّة المؤدّية لتقرير مصيره من جديد؛ في تحويل مركز اختيار رأس الحكم فيها من صناديق الاقتراع إلى الشارع مباشرة. أي سحب البساط من تحت قدمي الانتخاب السرّي إلى الانتخاب العلنيّ، وعلى الهواء مباشرة.

ومهما كان عدد الضحايا بسبب هذه الحركة، التي لا يمكن التأكّد من عدم تحوّلها، وهو ما لا نتمناه، إلى حرب أهليّة، وهو مؤلم مهما كان عددهم ضئيلاً، فإنّها تبقى حركة سلميّة أدّت، شئنا أم أبينا، إلى طريقة مبتكرة في العالم العربي، وربّما على مستوى العالم، تصل إلى مرتبة الإبداع.

إنّ كلّ ما يمكن قوله عن الذي جرى في 30/6/2013 ، وما سيليه، سيأتي مديحاً للثورة المصريّة وليس العكس؛ فالشارع المصري، الذي أسقط الرئيس الأسبق حسني مبارك باعتصامه في الميادين، عندما شعر بأنّ ثورته تلك يتم سرقتها على يد الرئيس السابق محمد مرسي، وفكر منظومته التي يقودها، ثار من جديد، لإسقاط مرسي وتلك المنظومة من جهة، ولتصحيح، أو إنضاج بشكل أدق، الثورة التي كان يطمح إليها. وهذا كله يعني أنّ الثوار المصرييّن هم أصحاب هذه الثورة، وليسوا منفّذين «للأجندات الغريبة» التي يتمّ ترويج العمل لصالحها من أجل تشويه حركات الربيع العربي، أو حركات التحرّر العربي الجديدة، وإلا لكانوا جلسوا في بيوتهم، وانصرفوا إلى أشغالهم اليوميّة، بعد الانتهاء من أداء ما طُلب منهم أداءه.

دائماً للمصريين السبق في الكثير من مناحي الحياة العربيّة، لأنّهم أصحاب حضارة عريقة، وليكن لهم الفضل في حركات الربيع العربي أيضاً، رغم أنهم لم يكونوا السبّاقين في ذلك. فإنضاج الربيع العربي، الذي يبتغيه الشعب العربي الذي لم يلمس الحياة بعد، سيكون أفضل الآن بعد الثورة الجديدة في مصر. وقد يكون لها الفضل في إنضاج ما حدث في كلّ من تونس وليبيا. وستكون السبب في إعادة تفكير السوريين في إحداث ثورة جديدة لاستعادة ثورتهم من معارضة ضعيفة لا حول لها ولا باع في السياسة أمام نظام مخابراتيّ كالنظام السوريّ. إذ من غير المعقول، ونحن في القرن الواحد والعشرين، أن يكون منتهى الربيع العربيّ هو تحويل البلاد العربيّة إلى إمارات للإخوان المسلمين، أو الحركات السلفيّة الجهاديّة التكفيريّة. ومن غير المعقول، مثلما يحدث الآن في سوريّا، تحويل كلّ مدينة تُحرّر إلى «طالبان» مصغّرة، الناسُ فيها مُجبرون على ارتداء اللباس الباكستاني أو الأفغاني، وتُؤسّس فيها مباشرة «هيئة شرعيّة» تطرد السلمييّن الديمقراطييّن المدنييّن، وتُحرّم أفكارهم ومطالبهم العلمانيّة أو الديموقراطيّة، تماماً كما كان يفعل النظام المراد إسقاطه!!. هذا لا يعني أنّ هذه الثورة، وتلك الثورات في الربيع العربيّ، كانت على خطأ؛ بل أنّ هناك مَن أراد انتهاز الفرصة لجرّ المكاسب كلّها إلى مصلحته، والوثوب على كرسيّ الحكم، لخلق أنظمة أسوأ بكثير من الأنظمة التي تمّ إسقاطها. فصار لا بدّ من ثورة جديدة، هي قد تكون أكثر صعوبة، لإعادة الثورة إلى مسارها الصحيح، أو لتحرير الثورة من الانتهازييّن الذين سيقضون على الديمقراطيّة، والحياة المدنيّة المتحضّرة المنتظرة، بمجرّد أن يستقّروا لمدّة جيّدة في سدّة الحكم. وهذا بالضبط ما قام به الثوّار المصريون الشباب، وليس الأحزاب أو الحركات السياسيّة الراسخة هناك، وهذا بالضبط ما سيجعل للمصرييّن الفضل الكبير على الثورة في سوريّا، على الأقل، وفي بقية بلدان الربيع العربيّ، على الأكثر.

(كاتب سوري)

بهية تعيد ترتيب الفصول

علاوي كاظم كشيش

منذ أن بدأ الصراع على شرفة الوطن اشتعل الاقصاء بين انصار رئيس مخلوع وشباب سئموا من طروحات ذلك الرئيس فتمردوا عليه وعلى قراراته وسياسته. منذ ذلك الحين انشطر الخطاب كالعادة الى شطرين. لتشتغل ثنائية (مع، ضد) واخذ كل طرف يعمل على اقصاء الآخر.

في هذا الصراع بزغ المتشابه، إذ ان كل صراع سابق يستند على جناحين. ولكنهما متضادان فلا جناح يطيق الاخر ويصبح الطيران خبرا بعد عين.

لكن تدقيق النظر في هذا الصراع سيجعلنا ننتبه الى عنصر ثالث، أكثر فاعلية وهدوءا وانجازا، ممتلئ بالروح والحياة، يهيمن على المتصارعين ويؤكد وجوده يوما بعد يوم… وهذا وجدناه في شخصية بهية المصرية، الانثى المصرية التي تعمل على دعم الحياة وتواصلها ولا تفكر بالقضاء على الآخر. إنها ترى ابناءها يتقاتلون على شرفة الوطن ولكنها تذهب لجني القطن في الصعيد وتبارك حقول الجوافة والمانجا… بهية سليلة النيل وهديره في التاريخ والارض والفصول، تفتح الصباح لأولادها لكي يتعلموا الطيران والعمل واللعب.هي موسوعة من السعادة والنقاء، قلبها أوسع من طروحات الكراهية والبغض والتقاتل. وهم أداروا ظهورهم لها فاستعر البغض بينهم. تفهم بهية المصرية ان الحياة نهر ولا يمكن ان نقف على النهر ونأمره كي يطيع اهواءنا ويغير مجراه حسب الامزجة والميول.

وما تم تشخيصه في الصراع هو الفجوة الثقافية، إذ ان الانسان المصري البسيط بدأ يتداخل ويتواصل مع العالم ويتعلم ويسأل ويستفهم، ولم تعد حياته مثلما كانت حياة مغلقة تتغذى اعلاميا وثقافيا ودعائيا من مصدرواحد.

الاخوان المسلمون اشتغلوا على الاصطفاف والتشابه، فهم يريدون من الناس أن ينضووا تحت طروحاتهم بالاكراه وقد حذفوا التخيير الالهي إذ أن خطاب الاديان لم يعمل على الجبر والاكراه ناهيك عن الانعزال عن الحياة ومواكبتها، إنهم يريدون من الحياة الآن أن تكون ماضيا معتقا حتى اصضطدموا بالفراغ االشاسع بينهم وبين الشباب المصري الذي خرج بعد اتقن اعراب الامور وقراءة المستقبل، لم يدر في خلد بهية المصرية ان التنازع على السلطة والكراسي يجعل من تلك اللحى والجباه المرصعة بآثار السجود مشاريع لسحق الآخر وتدمير ممتلكات البلد. ففي لحظة واحدة اندلع سيل الكراهية والبغض وتم تعطيل التقوى وخشية الله وأصبح الناس كلهم كفرة جاهليين في نظر تلك اللحى والجباه. وبهية المصرية تعيد ترتيب الفصول، سيكون هناك موسم للعمل والغناء، أولادها الشباب يريدون أن يعملوا ويحملوا معها عبء البلاد، هي أمهم فوق الشبهات والا تهامات، فالطرفان منذ اندلاع الصراع يكيل احدهما للاخر كل ما يسيئ لصاحبه. إلاّبهية المصرية فهي تحمل رسالة النيل منذ انطلاقته الاولى، تنجب وتعمل وتزرع وتغني، روحها مصرية مدججة بالفراشات والبساطة.

لم يفهم المتصارعون روح بهية المصرية فهم يمتلكون كل الادوات التي يستطيع احدهم بها اضطهاد الآخر، ويصبح عندهم الوطن سلطة وكراسي وحكومة حسب توزيع كعكة المصالح والمناصب. اضافة الى فتح نوافذهم لرياح وهي تدخل من الخارج لتلعب بمقدراتهم. حتى اصبح ابن الوطن عدوا وقتله واجبا من اجل نصرة الدين.

ولكن كيف تعيد بهية المصرية ترتيب الفصول؟ انها تتشبث بالحياة وتنتجها وتعرف ان كل هذه السماء والرمل والانهار والوجوه هي عطايا مصرية بامتياز وهبها النيل لها. وهي تقف على كل فصل وتملي عليه خطواته. تقول للربيع: كن مصريا ولوّنت الارض بخضرتك. وتقول للصيف: كن منشرحا مثل روح كل مصري. وتقول للخريف: لا تطل مقامك وارفق بالشجر المصري. وتقول للشتاء: اياك من جلب الجوع لمصر. فهذه بهية.. إنها الفصل الخامس الذي يجعل دورة الحياة مصرية عظيمة وعميقة، ولّادة تحول الألم الى خضرة.

سينتبه المتصارعون الى بهية المصرية بعد أن يحتد الصراع بينهم وتتطاير جراحهم على جدران الوطن. وسيأتي جيل جديد من أبناء بهية وقد استنشقوا الحياة بكل قوة فيعملون ويتبعون أمهم بهية وهي تعيد تريب الفصول.

لكل صراع طرفان، والحكمة هي الطرف الثالث الاقوى لكنه مغيب دائما. ولا يتم الانتباه اليه بسبب المصالح والعصبيات وارتفاع نسبة الكراهية. ولو انتبه المتصارعون الى بهية المصرية لما عمل بعضهم على رمي اخيه المصري من سطح بناية أو القتل والبلطجة. في المستقبل القريب ستكون لبهية المصرية كلمتها التي تصيح بها على الاولاد فينتبهون ويخجلون ويعودون الى حضن أمهم بهية المصرية سيدة الفصول.

(كاتب مصري)

من أجل كرامة مصر

محمد يحيى الرخاوي

القول الفصل الأول يتعلق بالأخلاق والدين اللذين لم يظهرهما الرئيس المعزول، والدين والأخلاق هما العاملان الرئيسان اللذان أعطيا مرسي أغلبية الأصوات التي حصل عليها. وإليك ما حدث ولا ينكره أحد:

الرجل المتدين القادم لينصر الدين ويحققه يعين نائباً عاماً (منصب رئيسي في منظومة العدالة في البلاد). النائب العام المختلف عليه وعلى منهج تعيينه أصلا يأمر أحد مرؤوسيه بظلم أبرياء. تتذكرون طبعا ما حدث أيام أحداث الاتحادية التي أعقبت الإعلان الدستوري المشؤوم. النائب العام (رجل العدالة) يحاول أن ينقذ ماء وجه الرئيس الذي كذب بخصوص المقبوض عليهم في الأحداث، بأن يأمر المحقق الذي يعمل تحت إمرته بظلم أبرياء زوراً وبهتانا. وما كان من المرؤوس ـ المحقق الشريف ـ إلا أن رفض؛ فنقله النائب العام ليبعده عن مكانه عقاباً، ولكن المحقق الشريف يعلن ما حدث على الملأ، وينتشر الخبر، ويعرفه الجميع؛ فما كان من النائب العام إلا أن تراجع عن النقل، من دون تبرير ولا حياء، وما كان من الرئيس إلا أن أبقى سيادة النائب العام – المكروه أصلا ـ وكأن شيئاً لم يكن.

يا أنصار مرسي، لقد انتخبتموه لأنه متدين وعلى خلق، أليس كذلك؟؟ فهل هذا دين وهل هذه أخلاق؟؟ فإذا تحدثنا بلغة الشرعية التي تتمسكون بها وياليتنا كنا نستطيع الحفاظ عليها: في أي دولة في العالم «شرعي الحكم والأحكام» يمكن أن تمر مثل هذه الجريمة الفضيحة وهذا الخزي وهذا العار؟؟ رجل العدالة يأمر بالتزوير في العدالة، بل ويعاقب مرؤوسه ـ كمان ـ على شرفه وصدقه!!! ثم يتمسك به رئيس الجمهورية!! أي شرعية وأي شريعة وأي شرع؟؟ ألا تعدون من الكبائر ظلم أبرياء بيد من يمثلون منظومة «العدالة» في نظام حكم يدّعي أنه «إسلامي»!! أي عار تلحقونه بالإسلام وبسمعته؟؟ أي شعب ديموقراطي يمكن أن يقبل هذا يوما واحداً؟؟ أي كرامة تبقى لنا ولكم في قبول هذا والتغاضي عن الكذب؟؟ تذكروا: أنا لا أتحدث عن أحداث مختلف عليها ولا على تفسيرها، أنا أتحدث عن جريمة مباشرة ثابتة قطعاً اسمها: إساءة استخدام السلطة»، هل أعطيناه السلطة ليسيء استخدامها بهذه الدرجة ويقول لنا «ألم تنتخبوني؟!!» أوليست لنا كرامة؟؟ أرجوكم الإجابة.

هذا عن الأخلاق والدين؛ فماذا عن الكفاءة؟؟ أعتقد أننا على استعداد لانتخاب من هم أكفأ حتى ولو لم نتفق معهم تماماً في التوجهات؛ ولا أن ننتخب ضعاف الكفاءة ولو حسنت نياتهم (هذا إن حسنت). لقد تمنيت مع كثيرين نجاح الإخوان لمصلحة البلد والناس، حتى ولو لم أنتخبهم، ولو ظللت على قراري بانتخاب غيرهم في الجولة القادمة. ولكن إليك ما حدث؛ فعندما انتخب مرسي كانت الأقوال أن لدى الإخوان كوادر قادرة على العبور بالبلاد من مآزقها، وقادرة على الإدارة والنجاح. فماذا حدث؟؟

مرة أخرى سأتجنب كل ما عليه خلاف وأشير فقط إلى المحسوم غير القابل للتكذيب ولا الدفاع. السيد الرئيس، وبعد أن أمضى أكثر من تسعة أشهر تتيح له الإمساك بناصية الإدارة، لم يستطع أن يحسن التصرف فيما يذاع ولا يذاع من داخل قاعة الاجتماعات التي يترأس بها اجتماعاً يخص، لا أقول الأمن القومي، ولكن شريان حياة وموت مصر: النيل الخالد. أي مستوى من الكفاءة الرئاسية شهدنا عندما وصل لأثيوبيا على الهواء مباشرة أن هذا التافه يقول «نوقع بينهم» وذاك المتخلف يطالب ـ على الهواء ـ «بالتخفي العسكري» وغيره وغيره مما وصف بالتحشيش.

دعك ممن تكلموا من ضعاف العقول، فماذا عن الرئيس المجتمع بهم والذي إن كان يعلم أن الاجتماع مذاع فتلك مصيبة، وإن كان لا يعلم فالمصيبة أعظم. أي مستوى من الكفاءة يدير مصر العظيمة؟ أي مستوى من الكفاءة يدير ملف النيل يعني ملف حياتنا وموتنا جميعاً؟؟ كيف يمكن أن تطلبوا من الناس أن تنتظر؟؟ حتى ولو كان مرسي قد نجح بنسبة 100% في الانتخابات؛ ألا تزول شرعيته بهذا الحدث؟؟ يا جماعة: رئيس بيده ملف حياة مصر يفعل هذا؛ هل نأتمنه على البلد لمدة 3 سنوات أخرى؟؟؟ أين سنكون ساعتها وكيف يمكن تدارك ما يمكن أن يفعله. قيل لي: لقد اعترف الرئيس بوجود أخطاء، ألا يكفي؟ فرددت بأن الخطأ هو أن أطلب منك قهوة سادة فتأتي لي بها زيادة، أو الخطأ هو أن أجرب رفع الجمارك فأفاجأ بنقص السيولة بسبب التهرب وغيره. أما ملف حياة وموت «مصر» فلا يحتمل الخطأ، فما بالك بالهبل والتهريج!! هذا ملف لا يحتمل أن يسمع من بيدهم حل الملف أننا سنوقع بينهم وسنرسل لهم الأسلحة خفية. وحتى إذا كان مثل هذا الكلام يبلغ من «الهبل» ما يجعله غير جاد أصلا، فهل من المطلوب أن نتحمل رئيساً توصف لقاءاته واجتماعاته في مثل هذا الموضوع بالهبل والتحشيش؟؟ أليست لنا كرامة؟؟

من الكرامة ألا يستمر هذا العبث. ومن اللاكرامة ادّعاء المحافظة على الكذب والتزوير والظلم المتعمد وإساءة استخدام السلطة، يضاف إليها الخيبة والضعف، باسم أي شرعية. أرجوكم أن تتذكروا أننا نتكلم فيما ليس عليه خلاف ولا يحتمل التكذيب. حادثتان تكفي أي منهما لإقالة أي حاكم في أي دولة محترمة فإن لم يستقل بأي قدر من الكرامة المتبقية، فلنا أن نقيله حفاظاً على كرامتنا نحن؛ أو ليست لنا كرامة؟؟ أو ليست لمصر سمعة؟؟ أو ليس للإسلام ذاته كرامة وسمعة أهانها هذا الكــذاب ضعيــــف الكفاءة؟؟!!

إذا تحدثت في أي شأن أو حتى حادث أياً كان، في ظروف عدم الاستقرار هذه خاصة، لا يمكن أن تصل لنتيجة. كل ما يمكن أن تأتي به لتقنع من أمامك لن يقنعه، فأزمة الوقود وراءها مؤامرة، والاقتصاد منهار لأن الرئيس لم يحصل على فرصة، والإعلان الدستوري كان ضرورة، ولا يمكن الجزم بمن خطف الجنود وقتل الضباط إلخ إلخ إلخ. إلا أن هذين حدثان لا يمكن إنكارهما، هما حدثان يفصلان ـ فوراً ـ في مسألة شرعية الرئيس المعزول، وليس للكرامة فقط.

(كاتب مصري)

التخلص من السرطان

تدفع مصر الآن ثمن فشل دولتها الذي تجسد تماماً في عصر مبارك. دولة بدأت مسار هبوطها بأزمة 1964 الاقتصادية الهيكلية، ثم هزيمة 1967، ثم تبنيها مضطرة مبدأ خلق طبقة رجال أعمال بعد ظهور قصور قطاعها العام، ثم عجزها عن توفير الخدمات للناس، وصولا في النهاية إلى فقدان القدرة على الكلام السياسي، مكتفية بشعار «الاستقرار من أجل الاستمرار».

الإسلام السياسي تضخم بفعل تفاقم شروخ القصور التاريخي لنظام يوليو، فقدم للناس حلماً أسطورياً فارغاً بدلا من الحلم القوموي الشعبوي الفارغ أيضا؛ وقدم الخدمات/ الرشى الاجتماعية في مستوصفات طبية ودروس تقوية للتلاميذ ورعاية أيتام وإنقاذ ضحايا الكوارث (زلزال 1992 مثلا)، ثم طرح شعاراً فارغاً موازياً: «الإسلام هو الحل».

شكل الإسلام السياسي خطورة أكبر بفعل أنه تشكل (خصوصا في الحالة الإخوانية) كطائفة (بالمعنى اللبناني)، لكن حديثة قائمة على تجنيد الأفراد من الأغلبية المسلمة: نظام لتربية الأعضاء وقراءات معينة وتقاليد سمع وطاعة، فضلا عن أساطير الجماعة التي تصل إلى «أستاذية العالم».

تشكلت «فرقة ناجية» تتقدم لـ«مصر» بأياديها التي بدت بيضاء من خلال عمليات الإحسان الممولة الواسعة، والقطاع الاقتصادي الخاص بها الذي وفر فرص عمل قائمة على الولاء.. وكان الشعار المعبر عن هذا الوضع هو «نحمل الخير لمصر»، الذي ظهر مع الانتخابات البرلمانية بعد الثورة. الجماعة ذات الفروع الدولية تتقدم لمصر من خارجها لتحمل لها الخير: تعبير شفاف واضح غير مقصود أن يكون بهذا الوضوح.

هذا التنظيم ليس حزباً سياسياً، بل هو «مجتمع» خاص داخل المجتمع المصري، دولة داخل الدولة، بجهاز مخابرات ومالية خاصة سرية وجماعات تابعة مسلحة، لكن قليلة العدد من التنظيم الكبير الذي ربما يصل إلى ربع مليون عضو أو أكثر. وهو بانفصاله وتحلقه حول دولة موازية كان أعجز ما يكون عن أن يحتوي الحالة الثورية، أو حتى الرجعية، المصرية. فشل نظامهم بفعل طبيعة الجماعة ذاتها في ممارسة السلطة. فبدلا من أن يبدأ في توسيع وتمتين التحالف الهش الذي أتى به إلى السلطة بأقل من 52% من الأصوات، أبعد الجميع، وفشل في اجتذاب الدولة الأمنية في مشروع ثورة مضادة مشترك.

صلف الإخوان في السلطة وفي كل موقع في المجتمع المصري أصبح لا يُحتمل. والاعتماد على تأييد سلبي من الفقراء وغير المسيسين الباحثين عن الأمان فشل مع فشلهم في إبداء «التواضع» مع حلفائهم من الثوريين أو الرجعيين على السواء. الأمر الذي أدى إلى انتفاضة واسعة ضمت الجميع: أنصار الاستقرار وأنصار الثورة وعناصر من النظام القديم وأجهزة دولة.. اجتمعوا جميعا على هدف واحد: التخلص من هذا السرطان الغريب على الدولة المصرية، كدولة.

أثبتت الأحداث الأخيرة أن ترجمة رشوة الجمهور بزيت وسكر، وبذل وعود كاذبة لقوى سياسية كمهارة تكتيكية، ومحاولة شراء موظفين فاسدين كأداة للحكم لا يمكن ترجمته بشكل مباشر إلى سلطة مستقرة لها هدف وبرنامج ورؤية سوى تمكين الجماعة. كانت الترجمة تتطلب أصلا إعادة كتابة النص الذي قام عليه تنظيم الإخوان عندما أعيد تشكيله في السبعينيات: النص القطبي (نسبة لسيد قطب). كان هذا شبه مستحيل.. لأنه كان يتطلب أصلا ترجمة تنظيم الجماعة إلى حزب سياسي يخضع بطبيعته لأعضائه، والتخلي عن طابعه شبه العسكري القائم على السمع والطاعة (بصرف النظر عن حمل سلاح من عدمه).

حالياً يقوم التنظيم المذكور بالنداء على «الشعب» لينصره.. كمناورة جديدة من الطائفة الإخوانية. لم يستطع الإخوان حل الإشكالية القائمة في خطابهم بين الرؤية الجذرية الطائفية (إسلام على مذهب الجماعة) والشعارات الوطنية والسعي لتولي السلطة في دولة وطنية. نجحت المناورات، لكن فشلت الخطة كلها بسبب عيب جوهري متأصل فيها.

(كاتب مصري)

بين التمصير والسَّوْرَنَة

نبيل سليمان

وصف سمير أمين الزلزال المصري في 25 يناير 2011 بأنه أقل من ثورة وأكثرمن حركة احتجاج. وربما يكون هذا الوصف أكبر مواءمة للزلزال المصري في 30 يونيو 2013 ولكن، سواء صح الوصف أم لا، فما يهمني ألا يصحّ في الزلزال الثاني قول من يقول إنه تصحيح للزلزال الأول، لأن هذا القول ينادي من سوريا (الحركة التصحيحية) التي بدأت منذ 16/11/1970 بتصحيح ما جاء به حزب البعث العربي الاشتراكي منذ 8/3/1963. والخوف أن التصحيح سوف يظل جارياً إلى أن تذهب سوريا بدداً.

وعلى ذمة سمير أمين أن ثمة وثيقة أميركية تتحدث عن خطة الرئيس الأميركي أوباما لإجهاض المد الثوري المصري (2011) خلال مرحلة انتقالية قصيرة، تشهد تعديل الدستور صورياً، وتنظيم انتخابات عاجلة، تُصدِّر الإخوان المسلمين. ولقد تحقق ذلك كله، سواء أكان حديث الوثيقة صحيحاً، أم كان واحدة من الأخيولات المؤامراتية الناشطة والزاخرة في حياتنا السياسية، بل حتى في حياتنا العاطفية.

لقد جعلت تلك الأخيولات من الربيع العربي مؤامرة صهيونية أميركية، وهو الربيع الذي انطلق في عز الشتاء من تونس، وتوالى في مصر واليمن وليبيا وسوريا، من دون أن ننسى لبنان والعراق والبحرين والأردن، حيث تبددت التباشير سريعاً. وقد كنت ولم أزل ممن رأوا في ذلك الربيع انتفاضة أو حراكاً أو زلزالاً أو ثورة أو ما تشاء من الصفات والأسماء، إلا أن يكون مؤامرة، على الرغم من كل ما يثير الشبهة. وببساطة، يكفيني أن تجلجل أبواق نظام ما بالمؤامرة الأميركية أو الشيطانية أو الصهيونية حتى أتشكّك. وها هو أردوغان بالأمس القريب يصف الموَرَان التركي ضد حكومته بالمؤامرة. وها هم الإخوان المسلمون في مصر والأردن وفي تونس (هل يكفي؟) يرددون أن ما يجري في مصر منذ 30/6/2013 ما هو إلا مؤامرة لإنزالهم عن كرسي الحكم. لكنهم يكتفون للمؤامرة بنعت (الخارجية) ولا ينعتونها بالأميركية أو الصهيونية، وهو النعت الذي يرميهم به خصومهم، وبخاصة منهم النظام السوري.

لعل أحداً لا يزال يذكر ما كتب الشاعر الإسرائيلي (روعي تشيكي إراد) في مدونته إبّان 25 يناير: «اليوم كلنا مصريون»، وكذلك ما خاطب به المصريين: «أعتقد أن الأمر المهم أنكم علمتم العالم وعلمتموني التمسك بالتفاؤل»، فيا للهول! ويا للهول الأكبر إذا أضفنا إلى قول روعي قول أوباما: «الثورة المصرية ألهمت الأميركيين»! أليس هذا برهاناً قاطعاً على المؤامرة؟

هكذا لم يبق إلا أن تصدح قناة روسيا اليوم بأن الثورة (25 يناير) هجمة أميركية للإطاحة بنظم وطنية، ومؤامرة خارجية، وتدخّل أجنبي، فتضرب القناة العتيدة مثلاً باللامهنية، لا يضاهيها فيه إلا قناة الجزيرة التي تحولت إلى محام شرس عن الإخوان المسلمين، وليس في مصر وحدها، فتكرس القناة العتيدة بذلك لامهنتيها المريعة فيما تقدمه عن الزلزال السوري، وبخاصة بعد شهوره الأولى عام 2011.

[[[

ومن حديث المؤامرة نمضي إلى حديث العسكرة الذي ظل متلجلجاً وخافتاً في الربيع التونسي، بينما دوّى منذ بداية الربيع المصري. ولعل قصيدة حلمي سالم (العسكر) أن تغني عن كثير، حيث نقرأ: «كنا نخشى العسكر/ونراهم مسكونين بشهوات السلطة/ ونراهم أحذية قاسية الوطء / تدوس الزهرات المنفتحات بحقل الدنيا: /إسلاميين، شيوعيين، وجوديين / ولكن العسكر في مصر الغضبانة صاروا مختلفين / أخذوا ورداً من صبيان الحارات / وحطّوه على ماسورات المدفع / مسرورين وحنّانين / وغنوا أغنية الجمع: / الشعب، الجيش: يدٌ واحدة».

في خطاب الإخوان المسلمين اليوم في مصر، كل السلب الذي في قصيدة حلمي سالم عن عسكر ما قبل (الغضبانة)، بينما هم عسكر (الغضبانة) في الخطاب المعارض للحكم الإخواني. ومما قد ينطوي على دلالات هامة فأهم، اتصالات وزير الدفاع الأميركي ديمبسي بنظيره المصري السيسي، كاتصالات السلفين روبرت غيتس بالمشير الطنطاوي، وكل ذلك في الأيام الأولى للزلزلة. حسناً، فلتنشط المخيلة هنا، حتى لو عادت بالقول إلى المؤامرة: هل من مطرح للمقارنة بين العسكر الانقلابي مرموزاً له بآخر الحرس القديم: المشير الطنطاوي، وبين العسكر غير الانقلابي مرموزاً له بأول الحرس الجديد: ربيب العسكرة الأميركية، أي ربيب المدرسة المدنية والليبرالية؟

سوريا

من مألوف تاريخنا الحديث أن يتصادى بقوة فأقوى في سوريا ما يجري في مصر، متأخراً عدداً محدوداً من السنوات. لكن الأمر اختلف منذ سنتين، إذ هبت سريعاً على سورية رياح 25 يناير. وهنا يأتي حديث العسكرة. ففي الشهور الأولى من عام 2011 طبعت السلمية الزلزلة السورية. غير أن السلمية أخذت تتراجع بسرعة حتى تلاشت تقريباً، وحلّت محلها الجلجلة العسكرية في اختيار النظام للحسم، وفي اختيار أغلب المعارضة السياسية في الخارج، وما قام من تشكيلات عسكرية، سواء بالمنشقين من الجيش أم بمن توافدوا تحت الرايات الإسلامية السوداء من مختلف البلدان.

واليوم، يبدو أن رياح العسكرة الإسلامية السورية تسرع في الهبوب على مصر، فأين المفرّ؟

اليوم، يطوّح مناضل عتيد بصبّي أو فتى على سطح من أسطح الاسكندرية، ويرميه سافلاً، لينادي الصبي أو الفتى أصناءه من سورية (هل تذكرون حمزة الخطيب؟). واليوم تتعالى في أرجاء مصر الرايات السوداء المبشرة بالخلافة الإسلامية والمنذرة بحمامات الدم، لتنادي من سوريا رايات أشد سواداً وأدهى بشيراً ونذيراً. والويل لك ثم الويل من معارض هو بالمرصاد، ليس فقط، وربما ليس أولاً، لنظام أو للقاعدة أو للمسلحين من الإخوان المسلمين ومن أشباههم، بل هو بالمرصاد للسانك، كي يقطعه من (لغاليغه)إذا نسيت أن تلعن النظام بين كل كلمة وتاليتها.

[[[

بين (تمصير) ما يجري في سوريا، وبين (سوْرنة) ما يجري في مصر، أقف حزيناً ومذهولاً، لأنه ما عاد بوسعي أن أسافر إلى مصر بلا تأشيرة مسبقة، وأنا من سافر إليها أول مرة عام 1971 بالبطاقة (الهوية) الشخصية، قبل أن يُطلب من المسافر أن يحمل جواز سفره. وهكذا ستنالني العقوبة التي ينبغي أن تنصب على رأس من هجّ من سوريا إلى مصر معارضاً، لا لينجو برأسه، ولا ليسهم في معارضة النظام السوري، بل ليحرس مقرات الإخوان المسلمين في القاهرة، ومن يدري، ربما ليحمل الكلاشينات إلى جانبهم، أو بدلاً منهم!

في فرح (30 يونيو) استعدت من اللسان الشعبي المصري ما سلق به الإخوان المسلمين في عزّ نشوتهم بالنصر، ورحت أردد تحوير هذا اللسان العبقري لأغنية فيروز: (البنت السلفية) بدلاً من (البنت الشلبية)، وكذلك تحوير أغنية عمرو دياب: (من كم سنة وأنا ميّال) لتصبح (من كم سنة وأنا إخوان). ولم أنس أن الشارع ح يصير حارتين: حريمي ورجالي، وبدلاً من جماعة التكفير والهجرة، حيصير عندنا جماعة التفكير في الهجرة… وعملاً بمبدأ التمصير، فهذا التحوير وهذه النكات هي ما يحتاج اليه السوري للعيش في الربوع التي تخفق فيها الرايات السوداء القبيحة، وحيث أسرع التمصير إلى مدينة الرقة، فأعلنت عصبة من الشباب المعارض للنظام قيام حركة (تمرد) ضد الائتلاف الذي يبدو أن بين الشباب المعارض من ضاق ذرعاً بركوبه عليهم. فمن الشباب السوري من يرى في حركة تمرد المصرية أسوةً حسنة، مثله مثل الشباب التونسي الذي أسرع بحركته (تمرد) وجمع حتى الآن عشرات آلاف التواقيع من أجل التغيير. وختاماً: طيب الله ثرى وذكر نصر حامد أبو زيد الذي صدق بما ذهب إليه من أن الإخوان المسلمين خزّان كبير من خزانات الجماعات العنفية.

(كاتب سوري)

——————

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى