الخطاط والتشكيلي السوري منير شعراني يتحدث عن عمارته الخطّية: تتقصّد الجمع بين التجريد الجمالي والرسالة وتُخرج الخطّ من قفص القدسية الذهبي
عقل العويط
عرضت غاليري “آرت أون 56″، الجميزة، آخر تجارب الخطاط والتشكيلي السوري المعروف منير شعراني، وآخر اختباراته التي تنأى بنفسها عن الاستعراض والتقليد والتكرار، لتشيّد مكانة خاصة، تنطلق من اعتبار الخطّ العربي فناً من الفنون الجميلة، عاملةً على إخراجه من حيّز المقدّس، والتعامل معه، وبه، على أساس أنه ينبني على الجماليات المنطلقة من جمال الحروف، لا بأشكالها المنفصلة فحسب بل باتصالها بعضها بالبعض الآخر، وما يُحدثه هذا الاتصال من جماليات تساهم فيها الأشكال العديدة للحروف وطواعيتها للتشكيل. “النهار” التقته على هامش معرضه اللافت، وأجرت معه هذا الحوار:
■ لم تبتعد كثيراً عن بيروت. فمنذ عامين تقريباً كان لك معرض هنا، وتعود اليوم لتقدم عماراتكَ الخطية فيها. لمَ بيروت؟ وما الجديد الذي تقدّمه؟
– بيروت رئة نتنفس منها وفيها. هي فسحة ٌلممارسة قدر من الحريّة التي نفتقدها، نقطة تواصل واتصال. الجديد ضروري لأي معرض جديد، معرضي السابق كان شبه استعادي، ضمّ أعمالاً مختارة من قديمي لأنه كان أوّل معارضي الفرديّة في بيروت، أما معرضي الحالي فهو لأعمالٍ أنجزتها في السنوات الأربع الأخيرة، التي بدأت بالأمل وانتهت بالألم، وانعكست حوادثها على كل شيء، وعلى أعمالي شكلاً وموضوعاً كذلك.
■ على رغم الحداثة، “الاستعراض، التقليدية، التكرار”، سمات لا ينجو منها إلا قلّة ممن يحترفون فن الخطّ العربي. في معرضك لا يستطيع الرائي إلا أن يلتفت إلى حضور التشكيلات التي تُطل صارمةً حيناً أو ليّنة متراقصة حيناً أخر. ما سر نجاتكَ من الاستعراض والتقليد والتكرار؟
– الفنان الحقّ لا يستعرض ولا يقلّد ولا يكرّر. الاستعراض يأخذه إلى موقع الحرفي الماهر ويحول دونه والارتقاء إلى آفاق الفن الرحبة والإبداع والتميّز الحق الذي يتجاوز المُنجز ويضيف إليه. أما التقليد فيجعله على الدوام دائراً في فلك من يقلدهم، ممسوح البصمة، لا شخصية تميزه، كذلك الحال بالنسبة إلى تكرار الموروث والمنجز، أما تكرار الذات فليس إلا تعبيراً معلناً عن نضوب إبداعي وإعلان إفلاس فنيّ.
أحاول دوماً التعامل مع ما سبق لي إنجازه بعين وذهن ناقدين يتابعان كل جديد في الحياة والفن ويتفاعلان معه، لأكتسب معرفة مضافة من شأنها أن تنتقل بأدائي إلى الأمام من حيث الشكل والمحتوى على السواء. فالحياة لا تكفّ عن تعليمنا وتثقيفنا وتطويرنا إن وعينا عطاءها والتقطنا بعين صادقة بيّناتها. أعتقد أن هذا سبب مهم لنجاتي، يضاف إليه يقيني أن ليس هناك نقطة أخيرة في الفن، واقتناعي أن على الفنان أن لا يعمل على تجاوز المُنجَز فحسب، بل عليه أن يعمل دوماً على تجاوز منجزه أيضاً.
■ الحرف نواة الكلمة، والكلمة معدن الخط، ولا فصل بين الكلٍّ ونواته. لم تشتغل على الحرف بذاته، إنما تضعه دائماً في موقعه من الكلمة في سياق عبارة ما. لا شك أن ثمّة قصديّة ما وراء انتقاء العبارات التي تبني عليها عماراتك الخطية. هل هي قصديّة تتعلّق بالمعنى؟ أم قصدية قوامها أشكال الحروف وما يستلزمه تشكيل العبارة؟ بحسب رأيك، من (ما) يضيف إلى مَن (ما)؟ اللوحة للعبارة أم العبارة للوحة؟
– الخط العربي واحد من الفنون الجميلة التي تجمعها أسس واحدة، وتتفرد أنواعها كلٌّ حسب طبيعته بميزات خاصة. من أبرز ميزات فن الخط العربي أنه فنٌ يقوم بناؤه على الجماليات المنطلقة من جمال الحروف لا بأشكالها المنفصلة فحسب بل باتصالها بعضها بالبعض الآخر، وما يحدثه هذا الاتصال من جماليات تساهم فيها الأشكال العديدة للحروف وطواعيتها للتشكيل. يضاف إلى ذلك إمكان المدّ والرجع والتركيب أفقياً وعمودياً بمرونة عالية، وأشكال الحروف الصاعدة والهابطة وذات الكؤوس، وكذلك الطاقة التعبيرية الكامنة في كل نوع من أنواع الخط. أما النقاط فهي تضبط الحركة البصرية، كما يضبط الإيقاعُ الموسيقى سمعياً. ما دام الأمر كذلك فلماذا نتخلى عن إمكان أن يتضافر المعنى مع المبنى لتوصيل جرعة بصرية معرفية في الوقت نفسه؛ بصرية من حيث الجماليات التجريدية التي يمكن الخط أن يمتعنا بها، ومعرفية من خلال العبارة التي نقيم تشكيلنا الخطي الجمالي على حروفها وكلماتها؟ ولماذا لا تكون العبارة هي الذريعة التي تجعلنا نقيم بناءً تشكيلياً، كما فعل المصورون مع الجسد البشري والطبيعة في آلاف الآلاف من الأعمال الفنية الباقية منذ الأزمنة الأولى حتى اليوم؟ّ!
نعم، تتشيّد عمارتي الخطية على عبارات أختارها بقصديّةٍ تقوم على معانيها لا على أشكال حروفها. فأنا أرى أن للفن رسالة مركّبة وأنه لا يقوم على الجماليات المجانية التي لا تتعدى العين. لذا كان واحداً من أوائل أعمالي يتأسس على قول ابن عربي “كلّ فنٍّ لا يفيد علماً لا يعوّل عليه”. قصديتي تقوم على اقتناعي بأن الخط العربي يمكنه الجمع بين التجريد الجمالي والرسالة، أي يمكنه حلّ معادلة الشكل والمضمون التي أثارت ولا تزال الكثير من الجدل. وهي قصديةٌ تستحضر المعاني العميقة الغور المعنيّة بالإنسان والوجود والأسئلة التي تعنيه. فأنا أختار العبارة الجميلة المعنى وأستنطقها لتبوح لي بمواطن الجماليات البصرية التي تنطوي عليها حروفها وكلماتها لأستخرجه وأقيم عليها بناء اللوحة البصري، محاولاً إبراز الشعرية الكامنة في معنى العبارة وتجليها البصري.
أما عمّن يضيف، فأحيلك على ابن الفارض الذي يقول:
ولُطْفُ الأواني في الحقيقة تابعٌ لِلُطْفِ المعاني والمَعاني بها تَنْمُو.
■ ثلاث لوحات تحكي عن الشام، أو اسمح لي بأن أقول “الشآميات الثلاث”، تخصّها بجدار، في مواجهة واضحة مع لاءاتك الثلاث على الجدار المقابل! مع استحضار لعباراتٍ مثل “لا خير في أمرٍ لا يُدَبّره عقل”، “لا إمام سوى العقل”، “لا دين لمن لا عقل له”. ما المقصود من هذه المواجهة وهذا الاستحضار؟
– اللوحات الثلاث تقوم على استحضار شعري لأشعار قيلت في الشام، وصياغتها بصرياً بأشكال تستحضر الطاقة التعبيرية للخط ليقيم منها مع العلاقات الجمالية المبنية على الكلمات البناء التشكيلي لكل لوحة، بشكل يستبطن ما في دمشق من جمال وغنى تعبّر عنه انحناءات الحروف وسموّها وتداخلها وألوانها في علاقات موحية بين الكتلة والفراغ تحاول الوصول إلى شكل يليق بالشام الجميلة وغوطتها التي كانت غنّاء، قبل أن يعصف القمع والطغيان بها وبأمل أبنائها في الحرية والكرامة والوحدة الوطنية، وبمشاركة فعّالة من فقهاء الظلام وحلفائهم المحليين والإقليميين والدوليين، كلٌّ تبعاً لمصالحه وغاياته. في أولى لوحات اللاءات الثلاث، رفض لكل أنواع القمع والإرهاب والعدوان المادي والمعنوي على المواطن ومقدراته من قبل الطغيان أو الطغيان المضاد. أما الثانية ففيها رفض للسلبية بأشكالها، وتعبّر الثالثة عن رفض كل ما ينتقص من حقوق المواطن والوطن الذي نريده للسوريين جميعاً، وقد حاولت أن تكون هذه الثلاثية جاذبة وبعيدة عن الأشكال التقليدية لأعمال تهتم بمثل هذه الأمور.
أما العقل فغيابه هو من أهم أسباب الفشل والتخلف والانحطاط والجهل والمرض والفقر والتبعية والحروب. يزداد الأمر سوءًا عندما يُستغلّ الدين والطائفية والمذهبية في تخدير الناس والتلاعب بعواطفهم وغرائزهم ليتحولوا إلى أدوات للقتل أو مشجعين عليه ويتحولوا إلى مسوخ مستلبة العقل ليس لها من الإنسان الذي يتميز عن الحيوانات بعقله إلا شكله. من هنا كان استحضاري لهذه العبارات.
■ ثلاثية “الحق، الخير، الجمال” وتسبقها لوحة الحريّة وما تعنيه لك، كلها لوحات من القياس الكبير، حضرت بهالاتها الدائرية وبتشكيل جديد لم نألفه في أعمالك من قبل! ماذا وراء ذلك؟
– هذا يعود بنا إلى ما سبق وتكلمنا عنه، ويعود بي إلى عبارة لابن عربي بنيت عليها أحد أعمالي: “الحركة حياة فلا سكون فلا موت ووجود فلا عدم”. ما الجديد في عملٍ مألوف؟! أليس على المبدع أن يكون متجدداً وأن يتعامل بحركية مع إنتاجه؟ ألا ينطوي العمل المألوف على سكون ألا ينطوي على موات؟!
■ لا تزال تعمل من دمشق! كيف ترى النزوح الفني الذي بات واضحاً للفنانين السوريين إلى بيروت ضمن نزوح السوريين الكبير؟ وكيف ترى تقـبُّـل الجمهور اللبناني للعمل الفني السوري؟
– نعم، لا أزال أعمل من دمشق، ولا أرى في ذلك ما يدعو للاستغراب. فالنسبة الغالبة من أهالي دمشق لا تزال تعيش فيها على رغم تردي الأحوال، ولست إلا واحداً من هؤلاء. أما عن النزوح الفني إلى بيروت فأنا أعلم أن بعض الفنانين اضطروا للنزوح للأسباب نفسها التي اضطرت مواطنيهم إلى النزوح لكنهم لم يكونوا بحاجة إلى اللجوء إلى الخيام طالما هم قادرون على العمل والإنتاج والعرض. في الوقت نفسه هجر فنانون آخرون البلد ونقلوا نشاطهم إلى بيروت من دون أن يكون هناك ما يضطرهم لذلك! ولقد استقبلت كثير من صالات العرض أعمال الفنانين السوريين المتميزين بترحيب كبير وأقامت معارض لكثيرين منهم شهدت إقبالاً جيداً من الجمهور اللبناني، كما سوقت أعمالاً لآخرين كان هناك طلب عليها.
■ يرفق اسمك دوماً بـ”خطاط وتشكيلي”. كيف تشرح هذه التسمية؟
– أنا خطاط، وأنا تشكيلي في الوقت نفسه، كما هي الحال بالنسبة للنحات والرسام والحفار، كل واحد من هؤلاء تشكيلي، وأنا خطاط وتشكيلي لأن الخط واحد من الفنون التشكيلية، لكن الناس لم يعتادوا التعامل معه على أنه كذلك، لأنه كُرِّس في أذهان الناس منذ العصر العثماني على أنه فنٌّ ذو وظيفة مقدسة ولا علاقة له بالفنون التشكيلية، أو كمهنة من المهن لا أكثر. أنا أعمل منذ بداياتي على إعادته إلى مكانته الطبيعية بين الفنون التشكيلية، وعلى إخراجه من قفص القدسية الذهبي الذي أعاق تطوّره لقرون عديدة.
■ أخيراً، ما قولك في ما تراه من بعض تشكيلات الخط العربي المنتشرة على بعض الجدران العامة في شوارع بيروت.
– هي ليست تشكيلات بالخط العربي، لكنها تشكيلات بالحروف العربية، ربما كان بعضها يسعى للوصول إلى صيغة عربية بين فن الجداريات والغرافيتي لا تقوم على تقليد المعطى الغربي في هذا المجال من حيث شكله ولا من حيث موضوعه، بل تطمح للوصول إلى صيغة عربية شبابية جديدة تتعاطى مع شؤون عامة على طريقتها وبأساليب ممارسيها، وهذا أمر أميل إلى تشجيعه.
النهار