صفحات العالم

الخيار الإيراني الصعب: النظام السوري أو مصر


إبراهيم أبو عواد’

إن قمة عدم الانحياز التي عُقدت في إيران لا تستمد أهميتها من فكرة ‘ عدم الانحياز ‘ التي صارت شعاراً براقاً لا وجود له على أرض الواقع. فكل الدول منخرطة في المحاور السياسية والانحياز إلى الشرق أو الغرب، وإيران جزءٌ من هذه القاعدة ولن تكون استثناءً. ولكن أهمية هذه القمة مستمدة من الأحداث التي تَعصف بالمنطقة. وتعيد رسم خريطة السياسات الداخلية والخارجية. فهذه القمةُ جاءت بعد أحداث الربيع العربي الذي لا يزال مستمراً، كما أن توقيتها متزامن مع الثورة السورية، والتهديدات الغربية لإيران والتلويح بالخيار العسكري بسبب برنامجها النووي. وهذه الأحداث المتأججة كفيلة بمنح الزخم لهذه القمة، وتسليط الأضواء عليها رغم معرفة الجميع مسبقاً أن قراراتها حِبر على ورق، لا تقدِّم شيئاً ولا تؤخِّره.

وبما أن إيران هي الحاضنة لهذه القمة التي تحضرها عشرات الدول، فمن الطبيعي أن تسعى إلى استثمار هذا الحدث الذي لا يأتي كل يوم. وهذا الاستثمار السياسي له عدة جوانب من أبرزها : حصول إيران على الدعم الدولي في مواجهة الغرب بزعامة أمريكا، وكسر طوق العزلة المفروض على إيران. وكأن إيران تقول للغرب إنها رقم صعب لا يمكن تجاوزه، ولا يمكن تهميش الدور الإيراني أو عزله عن الساحة الإقليمية والدولية.

ولا يخفى الجهد الإيراني الدؤوب الساعي إلى انتشال النظام السوري من عزلته المتفاقمة، وذلك عبر إقحامه في المنظومة الدولية. فالوفدُ السوري الذي حضر القمة كان يطمح إلى إعادة الاعتبار للنظام السوري المعزول دولياً. ففي واقع الأمر لا أحد يستقبل الوفود الرسمية السورية سوى روسيا والصين وإيران !. وقد وجد النظام السوري في هذه القمة فرصةً سانحة لإنهاء حالة الحصار التي يَغرق فيها. ولكن الضربة القاصمة غير المتوقعة قد جاءت من الرئيس المصري محمد مرسي الذي أَفسد الفرحةَ الإيرانيةَ وقضى على آمال النظام السوري الذي وقع تحت مرمى سهام النقد والاتهام، فآثر الوفدُ السوري الانسحاب من الجلسة لكي يَحفظ ما تبقى من ماء وجهه.

وقد كان خطاب الرئيس المصري هو الحدث الأبرز في القمة، وخطف الأضواء من الجميع. وصار حديث الصحف العربية والعالمية. فليس من السهل أن تهاجم النظام السوري وأنتَ في قلب طهران وإلى جانبك الرئيس الإيراني !. فالجميع يَعلم أن إيران تحتضن النظام السوري قَوْلاً وفِعلاً، وتنظر إلى سوريا على أنها جزء من المشروع الإيراني، سواءٌ كان مُقاوِماً أو يتغطى بالمقاومة لأهداف أخرى.

وخطابُ الرئيس المصري له أبعاد رمزية عديدة، فقد دَشَّن عودة مصر كقوة إقليمية تتحدث بكل ثقة، وتخوض في القضايا المصيرية دون خوف أو انتظار موافقة البيت الأبيض أو مراعاة المشاعر الإسرائيلية. فمن الواضح أن السياسة المصرية الجديدة صارت تتحرك ضمن دوائر عربية وإقليمية ودولية، وهذا يُذكِّرنا بعصر الرئيس الراحل جمال عبد الناصر وخطاباته الحاسمة التي يَحرص على سماعها الأعداء قبل الأشقاء.

وفي الواقع، إن واضعي السياسة الإيرانية سَقطوا في فخ ‘السذاجة السياسية’، فقد اعتقدوا أن مصر الجديدة ‘الإخوانية’ يمكن جذبها إلى المحور الإيراني بسهولة لقاء مساعدات اقتصادية أو دعم سياسي، ولكنهم اكتشفوا أن القضية أصعب من ذلك بكثير. فالسعي الإيراني الحثيث لإعادة العلاقة مع مصر لن يكون مجانياً، بل له ضريبة باهظة ينبغي على إيران دفعها إذا كانت حريصةً على كسب ود مصر (قلب العروبة والإسلام). ويبدو أن إيران أدركت أن الجمع بين النظام السوري ومصر كالجمع بين النار والماء. وأن أمامَها خياراً بالغ الصعوبة. فإذا اختارت النظامَ السوري فسوف تنتحر معه سياسياً، وتفقد أية فرصة للدخول في المنظومة الإقليمية الجديدة التي تقودها مصر باعتبارها مركز الثقل التاريخي للأمة العربية، كما أنها لن تجد لها موطئ قَدَم في المنظومة السياسية الجديدة التي يقودها الإسلاميون (الإخوان المسلمون). وإذا اختارت تكوين علاقاتٍ متينة مع مصر فلا بد أن تتخلى عن النظام السوري، وهذا يُفقد إيران دورَها الإقليمي وطموحها التوسعي. وهكذا فإن إيران تجد نفسها بين نارَيْن.

لكنَّ عالَم السياسة ليس دائماً أبيض أو أَسْود، فهو يحتوي على مناطق رمادية عديدة ونقاط مشتركة وتقاطعات شديدة التعقيد، وكل الدول تبحث عن مصالحها، وهذا أمر منطقي. فكما أن العرب يَريدون صناعة حاضرهم ومستقبلهم بلا تهديدات، وإحداث نهضتهم الخاصة التي تدخلهم في الحضارة الكَوْنية، فكذلك إيران تريد تثبيت وجودها ونفوذها بما يضمن مصالحها، وإعادة أمجاد الحضارة الفارسية. وهنا تظهر أهمية الالتقاء في منتصف الطريق، والوصول إلى نقاط مشتركة لضمان أمن المنطقة، وإنقاذها من الحروب ذات الصبغة المذهبية أو القَوْمية. فهذه الحروب خسارة للجميع بلا استثناء.

ولا مفر من التقارب المصري الإيراني لتحقيق مصالح شعوب المنطقة. فإيران لم تنزل إلى هذه المنطقة بالبراشوت. وكما أن مصر ذات حضارة عمرها آلاف السنين، فكذلك إيران ذات حضارة ضاربة جذورها في أعماق التاريخ. أضف إلى هذا أن العرب لا يَقدرون على مسح إيران من الخارطة، وإيران لا تستطيع إلغاء العرب من الوجود. إذن، لا بد من الوصول إلى حَلول وسطية. وعلى العرب أن يؤسسوا مشروعَهم الحضاري ويَسعوا إلى نشره من أجل إحداث توازن مع المشروع الإيراني. أمَّا تبادل الشتائم والاتهامات فلن يؤديَ إلا إلى مزيد من سفك الدماء، وتأسيس مجتمعات الكراهية والحقد، وتعميق جذور الطائفية، والنزعات القومية المتطرفة لدى الجانبَيْن.

وما يثير الاستغراب أن عودة العلاقات بين مصر وإيران يُنظَر إليها على أنها قضية عالمية شائكة تثير اللغط واتهامات الخيانة في حين أن الدول الخليجية المتخوفة من إيران تقيم علاقاتٍ دبلوماسية طبيعية مع إيران دون نكير. فمثلاً نجد أن السعودية التي تقدِّم نفسها على أنها قائدة المشروع السُّني في المنطقة تقيم علاقاتٍ دبلوماسية مع إيران، وتستقبل الحجَّاجَ الإيرانيين، ويتبادل الملك السعودي القُبلات مع الرئيس الإيراني بكل أريحية أمام وسائل الإعلام. ونجد دولةً كالإمارات تتهم إيران باحتلال جزء من أراضيها (الجزرُ الثلاث) تقيم علاقات سياسية واقتصادية مع إيران جهاراً نهاراً. فلماذا حرامٌ على مصر أن تتقارب مع إيران وحلالٌ على دول الخليج أن تقيم علاقات مع إيران ؟! .

وعلى الرغم من كل التناقضات الصارخة بين العرب وإيران، فإن بينهما تاريخاً مشتركاً بِحُكم العقيدة والتاريخ والجغرافيا، وعليهما أن يَجدا حلولاً لمشكلاتهم المتفاقمة، أمَّا سياسة الهروب إلى الأمام وتبادل الشتائم من تحت الطاولة فسوف توصل الجميعَ إلى طريق مسدود.

‘ كاتب من الأردن

القدس العربي

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى