الخيار الذي لم يجرب بعد!! الثورة السورية بين العسكرة والسلمية
دون أن أتهم أحداً بالتخاذل أو سوء النية، ودون أن أتهم أنا بذلك شخصياً، أريد أن نفكر معاً في خياراتنا، فلو سمح الوقت والظرف بوضع هذا الخيار أو ذاك في ميزان التفكير والتعقل دون كيل الاتهامات، فقد قررت أن أكون ممن يفعلون ذلك. ليست الغاية من هذا المقال انتقاد أحد، ولا يحاول هذا النص الإجابة عن جميع الأسئلة، أو طرح الحلول الشافية، ولا يسعى بالتأكيد إلى كي الجراح أو تبسيط ما لا يمكن تبسيطه، أو نصرة تيار على آخر، بل غايته أولاً وأخيراً طرح بعض المسلمات المتداولة للتفكير والنقد، بهدف تقريب وجهات النظر أولاً، وتوضيح مفاهيم يجري تداولها بعيداً عن المنهجية والتحليل، علنا نتوصل لوضع أسس لإستراتجية عمل تضع في حسبانها الأسئلة الصعبة. لن أقوم كما يفعل الكثيرون بترديد فروض الطاعة والشعارات المعروفة: سأقول لكم من البداية: نعم أنا يداي في الماء، وأعيش في أمان، ولا يحق لي أن أُنظر على أحد، أرجموني إن شئتم، لكني مثلكم خائف على مصير أهلي وبلدي، وأريد أن أعبر من خلال الكلمات التالية عن خوفي، لكن بطريقتي الخاصة.
أريد أن أوجه هذا المقال للمثقف السوري بشكل خاص، وأريد أن أتناول بعض المسلمات التي يرددها شبابنا ويختطفها مثقفونا أو بالعكس، على أن أعدكم بأن أفكر في أي رد يأتيني على هذا المقال كما لم أفكر من قبل.
انطلاقاً من الدفاع عن النفس !
أقول لكم بداية، إن شعار الدفاع عن النفس ليس بذلك الوضوح الذي يراه الكثيرون، وليست حدوده واضحة مرسومة كما نرجو، ولم يكن
يوماً كذلك، فتحت هذا الشعار ربما شُنت جميع حروب العالم، هذا المفهوم مطاط لدرجة أن الشعوب والثقافات كلها صاغته بحسب حاجتها وبحسب الضرورة والموقف. تحت العنوان ذاته يدافع الرجل عن بيته لما يدخلون عليه ليقتلوا أولاده، وتحت نفس العنوان يفجر المسلحون مركزاً في مدينة، أو يختطف ثائر غاضب رهينة، أو يطلق رجل النار على حاجز عسكري فيحكم على كل من يتواجد فيه بالموت دونما محاكمة، تحت نفس العنوان احتل الأمريكيون العراق، وتحت نفس العنوان اشتعلت الحربان العالميتان، وتحت الشعار نفسه تحولت كلمات المسيح من لا تقاوموا الشر، إلى (لا تقاوموا الشر … إلا عندما يقاومكم).
بداية، لا يرى اللاعنفيون طريقاً لإيقاف دائرة القتل بين الفعل ورد الفعل إلا بإيقافها من طرف واحد، من طرف الضحية، كما لا ينتظرون من المعتدي أن يتوقف عن اعتدائه لصحوة في ضميره أو تغير في مواقفه. لكني في هذا المقال لن أتحدث عن اللاعنف كمنهج، ولا عن الحالة التي يدافع فيها الرجل فعلاً وبشكل مباشر عن نفسه وعن بيته، بل سأحاول مقاربة خيار تسليح الثورة من مختلف الجوانب التي أستطيع إدراكها. لن أقول لأحد كيف يدافع عن نفسه وعن ذويه عندما يتعرض لهجوم، لكني، وكثيرون مثلي، نعتبر خيار تسليح الثورة منفصلاً تماماً عن ذلك، ونجد في هذا الخيار ضعفاً في المواضع ذاتها على الأقل التي يتهم فيها الخيار السلمي بالضعف، سيما وأن نتائجه المباشرة وغير المباشرة لم تخضع بعد للتحليل والدراسة الوافية. غايتي النظر إلى الخيار من حيث أنه إستراتيجية عمل قد تكون فعالة أو فاشلة، إجبارية أو اختيارية، أخلاقية أو غير أخلاقية، قبل الحكم عليه بالرفض أو القبول من أي طرف.
حول مسألة توقف الثورة لولا قوة السلاح..
كيف يمكن لأحد أن يجزم بأن المظاهرات كانت ستتوقف لولا سلاح الجيش الحر؟ من أين أتى هذا الاستنتاج؟ وما هي الدلائل على ذلك؟ في البداية، لا شك بأنه كانت هناك أوقات تباطأ فيها الحراك الشعبي بشكل عام، وأوقات أخرى تسارع فيها هذا الحراك بشكل ملحوظ، لكني لم أستطع الربط بين ذلك وبين الحماية المسلحة للتظاهر، ولا أجد ذلك منطقياً أصلاً، فالمظاهرات كانت تخرج في كل مكان على التراب السوري ولم يكن الجيش الحر متواجداً في كل مكان بالضرورة. إحصائياً نستطيع التأكيد على أن أعداد المظاهرات وأعداد المشاركين فيها تزايدت بشكل تدريجي منذ اليوم الأول للثورة، وكان هذا التزايد واضحاً في أيام محددة كان أحدها الإعلان عن إضراب الكرامة على سبيل المثال.
ربما تباطأت خارطة التظاهر في أنحاء عديدة من سوريا بعد رمضان الماضي لكنها كانت كالجمر تحت الرمل ينتظر هبة ريح واحدة حتى يشتعل من جديد. في الثورة الإيرانية (1978-1979) كانت أطياف المعارضة تجهد يائسة لحشد الجماهير للمشاركة في المظاهرات دون جدوى، فلم تزد أفضلها عن خمسين ألف متظاهر. إلا أن حريقاً اندلع في سينما (آبادان) في العاصمة وسقط ضحيته 400 قتيل، عندها تصاعدت الاتهامات بالإهمال ضد الحكومة ولم يكن ذلك مرتبطاً بأي شكل بالثورة أو بمحاولة النظام لقمعها، مع ذلك سرعان ما أدت هذه الحادثة إلى احتجاجات ومظاهرات عارمة أشعلت فتيل الثورة من جديد، وأدت إلى سقوط المئات (أو الآلاف حسب روايات أخرى) من القتلى برصاص الأمن في يوم الجمعة الأسود، أحد الأيام السوداء فعلاً في تاريخ الإيرانيين.
لا يمكن الجزم بأن الثورة السورية كانت ستخمد عندما كانت كل المدن السورية تخرج يومياً، والمظاهرات كانت قد بدأت تتحول من تظاهرات مركزة إلى تظاهرات أكثر عدداً وأقل كثافة، وهذا الخيار كان من قبيل التكيف مع قمع الأمن والابتعاد عن المواجهة، وهو خيار محمود إذا نظرنا إليه من حيث عدد الضحايا، ومن حيث استمرارية الثورة. إن الانتشار الأفقي للمظاهرات لا يمكن النظر إليه على أنه تباطؤ في الحراك الشعبي, فإن كنا خسرنا هذا المشهد الرائع للتظاهرات الضخمة في الساحات العامة، إلا أننا كسبناه من جهة أخرى في شكل تكتيك يحمي الجماهير من المواجهة المباشرة مع النظام، ويقلل من الكلفة البشرية العالية لهكذا مواجهة؟
لا بأس حتى ولو لم يعجبك ردي على السؤال الأول أرجو منك الصبر ومتابعة القراءة، علنا نتفق على نقطة أخرى…
الغرق في المزاودات بين الشجاعة والتضحيات
البعض يقول بأن الجيش الحر شجعان ووطنيون وهم كذلك فعلاً، والبعض الآخر يقول بأن السلميين الذين وقفوا عزلاً في مواجهة الرصاص شجعان وهم كذلك بالتأكيد. إطلاق صفة الشجاعة على أحدهما لا ينفي صفة الشجاعة عن الآخر حتى لو اختلفنا في المنهج. من جهة أخرى فإن المبالغة في توصيف القتل والقمع والضحايا والاغتصابات بهدف تجييش العاطفة لصالح الفكرة والتهرب من إثبات منطقيتها وجدواها لا يخدم الحقيقة في شيء، فكلا المنهجين ينطلق من الألم ذاته على الضحايا الأبرياء، وكلاهما يبتغيان الخروج من حالة الألم تلك إلى حالة سلام، أو هكذا آمل، فإذا كان الطرفان على القدر ذاته من الشجاعة، وكانا على القدر ذاته من الوطنية والقلق والحساسية والألم، فهلا وضعنا المزاودات جانباً، ونظرنا إلى هذا الخيار أو ذاك من حيث الصواب والفعالية؟
مسؤولية البحث عن الجدوى والفعالية
(كفاكم كلاماً عن السلمية التي لم تجلب لنا إلا الموت والدمار.. سلميتكم تقتلنا!!)
كيف سنقرر أي الفريقين أفضل من حيث الفعالية والجدوى؟ يتذرع الكثيرون بالقول بأن قتل النظام للمناضلين السلميين دليل على عدم فعالية العمل السلمي، فيقولون مثلاً: (أنظروا كيف استشهد غياث مطر، المناضل السلمي، تحت التعذيب…هذا النظام لا تنفع معه السلمية) هل يوافق هؤلاء من المنطلق ذاته على أن مقتل المشاركين في العمل العسكري دليل على فشل العمل العسكري أيضاً؟ مع التذكير بأن من يسقطون ضحية العمل العسكري خصوصاً من المدنيين أكثر بكثير ممن يسقطون ضحايا العمل السلمي؟.
تقول إحدى الدراسات (إيركا تشينويث وماريا ستيفان – لماذا تنجح المقاومة المدنية- طبعة 2011)[i] التي تناولت 323 ثورة من 1900 وحتى 2006، إن معدلات نجاح الثورات السلمية في التاريخ بلغت 52 بالمئة، مقارنة بـ 28 بالمئة وهي نسبة نجاح الثورات المسلحة. هذه الأرقام وإن كانت تشير ضمنياً إلى أن هناك احتمالاً أيضاً بفشل المقاومة السلمية إلا أنها تثبت أن جدوى العمل السلمي تاريخياً بلغ ضعفي جدوى العمل المسلح. أشارت الدراسة أيضاً إلى أنه بمجرد دخول الخيار المسلح إلى ساحة الثورة تنخفض معدلات نجاحها، وبأن شكل النظام ودرجة القمع التي يمارسها غير مرتبط بنجاح الثورة، وأن العامل الأساسي هو قدرة الجماهير على التنظيم وتغيير التكتيكات المستخدمة.
هذه الأرقام لم تجتذب أحداً من مثقفي الشارع السوري، لم يكن من المهم لأحد أن يفكر أو يفسر لماذا أعطت هذه الدراسات نتائج “غريبة” كهذه، ومغايرة تماماً لما هو متداول، بل سارع الكثيرون إلى الحكم المسبق عليها بعدم الموضوعية والطوباوية، متذرعين بالنتيجة التي تنقضها هذه الدراسات أصلاً وهي أن نظاماً مثل نظام الأسد لا تنفع معه السلمية. مع أن الدراسات هذه شملت أنظمة فاقت في قمعها نظام الأسد، ومن المعروف أن الأسد شئنا أم أبينا لا يتربع بالضرورة على القمة بين قائمة أسوأ الديكتاتوريات في العالم، هو في القائمة فعلاً، لكنه ليس على القمة.
نظام الأسد لا تنفع معه السلمية!!
هذه الفرضية تم تداولها منذ الأيام الأولى للثورة، وفي وقت مبكر جداً قبل أن يكون بإمكان أي أحد الحكم بجدية على جدوى العمل السلمي. هي مثل الفرضيات الأخرى استلهمت قوتها من رتابة التكرار وإعادة التدوير، فهي ترى بأن النصر في العمل السلمي مرتبط بالمستوى الأخلاقي للنظام، ولكنه في الحقيقة مرتبط حصرياً بقدرة الجماهير على الحشد والتنظيم.
إن القاعدة الأساسية في النضال السلمي هي أن القمع يعزز ردة فعل الجماهير ولا يثبطها، وبقدر ما تكره الجماهير النظام، لفرط ظلمه، تتكاتف للخروج ضده، وهذا النوع من التكاتف يسمح لكل من هو قادر بالقول أو الفعل من شتى الاختصاصات والإمكانات والمواهب والأعمار والأجناس بالمشاركة، بينما تسبب العسكرة ارتكاساً مباشراً لكل من ليس قادراً على حمل السلاح (الذي تستطيع فقط فئة عمرية محددة من الذكور المشاركة فيه) أو لا يعتبر الخيار المسلح أخلاقياً. تدعم الدراسات هذه الفرضية بشكل واضح إذ تشير إلى أن الثورات المسلحة في مواجهة قمع الأنظمة نجحت في 20% فقط من المرات، بينما نجحت الثورات السلمية في مواجهة القمع بمعدل 46%[ii].
ليست الغاية من الكفاح السلمي تغيير أفكار النظام أو إصلاحه، وإن كنت أنا ومثلي كثير من اللاعنفيين نؤمن بإمكانية تغيير طيف واسع من الموالين للنظام ممن يعتمد عليهم إلى اليوم في بقائه، لكن الغاية الأولى والأخيرة هي تنظيم العمل الشعبي، فإن نجحت هذه الغاية كان سقوط النظام محتماً، أما إن فشلت السلمية في التنظيم يبقى السؤال الخطير: هل السلمية غير المنظمة أخطر أم سلاح غير منظم؟ لا يستطيع عاقل أن ينكر بأن الخطأ مع السلاح لا يضاهيه الخطأ دونه، ومن غير المعقول أن نعلن الفشل في تنظيم السلمية التي زكتها الأغلبية في بداية الثورة، دون أن نتوقع أن يكون الفشل مضاعفاً في تنظيم التسليح.
من جانب آخر فإن التذرع بعدد الضحايا لإثبات أن النظام لا تنفع مع السلمية يجب أن يقابله النظر في عدد الضحايا في كل النزاعات المسلحة التي شهدها التاريخ، فضلاً عن أن سقوط عدد كبير من الضحايا قد يكون بدوره نتيجة ضعف في التنظيم أو اتباع منهجية في المواجهة كان بالإمكان تجاوزها أو تجنبها، وهو ما سآتي إليه لاحقاً. ومع ذلك فهناك في التاريخ أنظمة اشتهرت في قمعها، ونجح الكفاح المدني في إسقاطها مثل نظام الجنرال محمد ضياء الحق في باكستان، سلوبودان ميلوسيفيتش في صربيا، أوغستو بينوشيه في تشيلي، وسوهارتو في إندونيسيا، ونظام الشاه في إيران الذي قتل من ثلاثة آلاف إلى عشرة آلاف شخص في أقل من مئة يوم، وهو قمع يفوق في تركيزه وتسارعه قمع النظام السوري، ناهيك عن عدم توافر وسائل التكنولوجيا الحديثة في ذلك الوقت لفضح ممارساته كما هي متوفرة لنا اليوم. لكن نظام الشاه سقط ليس بقوة السلاح وإنما بقوة الشعب، ولم يكن حتى بقوة المظاهرات التي كانت هامة جداً بدورها إلا أنها لم تكن بأهمية نشاطات العصيان المدني وأنشطة عدم التعاون على نطاق شعبي واسع.
انتهى وقت العمل السلمي!!
(يا حبيب.. أنتهى وقت السلمية، جربناها وما نجحت.. حان وقت العمل المسلح)..
صديقي.. العمل المسلح جربته البشرية منذ الأزل ولم ينجح يوماً في إرساء حكم ديمقراطي رشيد بل أتى بأنظمة فاقت في قمعها وجبروتها الأنظمة التي سبقته.
بالنظر إلى إحصاءات الثورة منذ بداياتها وعدد الشهداء، كان بالإمكان القول بأن زمن السلمية ولى منذ الأيام الأولى التي سقط فيها المئات من الشهداء. ليس ثمة تاريخ محدد لوقت انتهاء السلمية وإنما هو تاريخ انتهاء الصبر عليها، وهو مرتبط بكل فرد على حدة. حتى أن بعض الشباب كانوا يسألون منذ اليوم الأول للثورة: هل ما زلتم مؤمنين بالسلمية؟ كثيرون كانوا يأملون بنصر سريع ساحق على غرار ما حدث في مصر وتونس، لكن الدراسات التي تناولت ثورات العالم أكدت بأن العمر الوسطي للثورة السلمية قد يكون أطول من ذلك بكثير: فمتوسط عمر الثورات السلمية يبلغ ثلاثة أعوام، وهذا الزمن يبدو مرعباً حقيقة بالنظر إلى أعداد الضحايا ووتيرة القتل والاعتقالات، لكن ما يجب أن يخيفنا حقاً هو متوسط عمر الثورات المسلحة والذي يبلغ حسب الدراسات ذاتها تسعة أعوام.
السلمية تجربة قد تنجح أو تفشل، ولكن لا يتوجب الحكم على تجربة ما بالفشل قبل تطبيقها فعلاً: فنحن لم ننجح بعد في الاتفاق والعمل معاً على حشد إضرابات عامة يشارك فيها الجميع خصوصاً في العاصمتين، ولم نعمل معاً على استهداف دعامات النظام المختلفة، الاقتصادية، والسياسية، والعسكرية، كلٌّ من موقعه واختصاصه، ولم نقم إلى الآن بالعمل بشكل منهجي على التوجه للموالين المقربين للسلطة من السياسيين والفنانين والسفراء والوزراء والمحافظين لتأمين خروجهم وعائلاتهم وحمايتهم من بطش النظام إن فكروا في الانشقاق. لم ننجح في تنظم حملات مقاطعة حقيقية على نطاق واسع يدعمها قياديو الثورة من كبار السياسيين والمثقفين، ولم نستطع إيجاد صيغة من التوافق السياسي، ولا حتى على مستوى العمل الشعبي، لنوجه رسالة للعالم أننا قادرون على قيادة هذه الثورة. بدلاً من أن يحكم المثقفون على النضال السلمي بالفشل عليهم أن يسألوا أنفسهم، وعليهم أن يحاولوا الإجابة أيضاً: لماذا لم تنجح المقاومة المدنية إلى اليوم وما الذي يتوجب القيام به لإنجاحها؟ نعم لم تنجح المقاومة المدنية بعد، لكنها لم تنجح لأنها كانت، وما زالت، يتيمة مهملة من قبل المثقفين والقياديين والسياسيين، إنها تلك الفكرة التي يشكك فيها الكل منذ البداية، انطلاقاً من تجربة خاصة أو إيمان مسبق أو فهم معين، ولكم تمنيت لو تعرضت الخيارات الأخرى لجزء يسير مما يتعرض له الخيار السلمي من تشكيك وقدح ومطالبة بتوفير الدلائل والخطط والإستراتيجيات.
لم تنجح التجربة السلمية بعد في إسقاط النظام، ولا نجحت العسكرية في تحقيق مكاسب على الأرض، لكن فشل الخيار العسكري، أو بأقل تقدير ضعف جدواه في المناطق التي تم تجريبه فيها، يبرره الكثيرون بضعف التمويل والعتاد والدعم، وبأن العمل العسكري سوف يحقق النتائج المرجوة منه لو حصل على الدعم المناسب، لكن الذرائع ذاتها ترفض من قبل الجميع عندما يأتي الأمر للمقاومة المدنية، فلا يسمح لأحد بالتذرع مثلاً بضعف المشاركة والدعم والتمويل والتخطيط، بل يحكم مباشرة على الخيار السلمي بالفشل بحجة أنه مرحلة بدأت وانتهى وقتها دون النظر في أسباب ضعفه، وأجد شخصياً في ذلك ازدواجاً في معايير التقييم بأقل تقدير.
تعاون الخيارين السلمي والعسكري
هل يمكن فعلاً للخيارين العسكري والسلمي أن يتعاونا؟ علينا أن نجيب على هذه السؤال بكل موضوعية ونزاهة فالوضع الراهن لا يسمح بأقل من ذلك. هذا السؤال ربما هو الأكثر حساسية، لأنه خيار المثقف بامتياز، خيار الأغلبية بينهم، إذ يفترض أن هناك من دعاة الخيارين السلمي أو العسكري من يسبب الفرقة وانشقاق الصف بين الثوار وأن الحل لذلك هو في أن نتوحد ونعمل معاً. هذا الافتراض متوازن ودقيق، لكن الحجر الثقيل الآخر الذي أنا بصدد رميه هو أن تصاعد وتيرة العمل المسلح في مكان، سيعني بالضرورة تضاؤل وتيرة العمل السلمي في المكان ذاته. تعزز هذه الفرضية بعض الإحصائيات حول ثورات العالم في القرن الماضي والتي أشارت إلى انخفاض كبير في معدلات المشاركة الشعبية في كل مكان يهيمن فيه صوت الرصاص[iii].
من المنطقي في حالتنا أيضاً الاستنتاج بأنك لو حملت سلاحاً لحماية المظاهرة اليوم، فإن النظام سيأتي بسلاح أقوى للفتك بك وبمن تحمي غداً أو بعد غد. هذا لن يؤدي إلى تقليل عدد الضحايا المدنيين بأي شكل، ودون أن ألقي باللوم على أي طرف، فإن هذا تحديداً ما جرى في حمص ولم يجر مثلاً في بقية المناطق السلمية التي تتعرض للقمع الشديد بدورها لكن ليس لدرجة أن تتوقف فيها الحياة بالمطلق وبشكل كامل ويغادرها سكانها كما حدث في حمص. إن استمرار التظاهر في بقية المناطق السورية وتوقف الحياة بشكل كامل في حمص والمناطق المسلحة كفيل بالإجابة عن هذا السؤال.
إن متطلبات التمويل والدعم بدورها ستفرض على مناصري الثورة الاختيار بين دعم السلاح المكلف جداً ثم الإنفاق على العمل الإغاثي الذي سيكون نتيجة حتمية للعمل المسلح، وبين العمل السلمي الذي يحتاج بدوره لأنواع عديدة من الدعم والتمويل. في أحسن الأحوال، أو أسوئها، سيكون من الصعب التعاون بين العمل العسكري والسلمي من النواحي التمويلية، بل في حال توسيع نطاق العمل العسكري قد يتحول العمل السلمي إلى عمل إغاثي بالمطلق.
هناك سؤال يطرحه الجميع: ماذا تريد من الجندي المنشق أن يفعل إذن؟ أولاً أريده أن يحمي نفسه بأي طريقة ممكنة، أريده أن ينجو بحياته ويفكر في الطريقة الأقل كلفة والأكثر جدوى لإسقاط النظام، وأريده أن يفكر في إخوته المدنيين قبل أي عمل يقوم به.. أما ما لا أريده فهو ما يدعو له كثير من المثقفين: أن يحارب بدلاً عن الجميع وأن يخاطر بحياته مرة ثانية (بعد أن خاطر مرة أولى عندما انشق) عندما يحمل السلاح في مواجهة آلة النظام، وأن يصبر على من تأخر في الانشقاق كما صبر عليه أولئك الذين سبقوه.
المسلمة الرائجة ولكن الخاطئة هي أن الخيار المنطقي الوحيد المتاح أمام الجندي المنشق هو قتال الجيش الذي انشق عنه! وهذا تسليم خاطئ لا يقوم على أساس. بمجرد أن ينشق الجندي لأنه يرفض إطلاق النار على المدنيين، ويرفض ممارسة القتل، عندها سيصبح ملاحقاً من قبل النظام، وحاله هنا لا تختلف عن آلاف النشطاء والثوار الملاحقين في مختلف أنحاء سوريا، والمختفين عن الأنظار، وإن كان أهله وذووه سيتعرضون للأذى فكذلك يخاف الناشطون على أهلهم وذويهم، خصوصاً وأن قتال النظام لن يحمي أهله بأي حال.
ثورة حرية، كرامة، مجتمع مدني، أم انتقام؟
فلنتحدث عن أهداف الثورة بصراحة، ولنتذكر أيضاً لماذا سجن وقتل وعذب الناشطون ليس فقط منذ بداية الثورة بل منذ عقود سوداء من حكم الأسد. هذه التضحيات كلها كانت تسعى لبناء مجتمع مدني سوري يتساوى فيه الناس أمام القانون وتكون صناديق الاقتراع هي الحكم الذي يطيح برئيس ويأتي بحزب، ويرفع قانوناً، ويصنع دستوراً، وتكون حقوق الإنسان، وواجباته، هم المواطن السوري قيادة وشعباً. واليوم نسأل: أين اختفت شعارات الثورة الأولى؟ من يقود هذه الثورة؟ وكيف يتخذ هذا القرار أو ذاك؟، وبأي منهجية نختار هذه الإستراتيجية أو تلك؟، وهل يبرر قمع النظام المفرط كل هذه الدعوات للانتقام والطائفية؟ وما هو دور المثقف في كل ذلك؟
من المشين بداية أن نعلن من كل منبر إعلامي يتوفر لنا أن النظام أجبرنا على كل الخيارات التي نلجؤ لها. كانت الميزة الأساسية لأداء الثورة في بدايتها هي الفعل، والضعف الأساسي في أداء النظام هو في رد الفعل. أما اليوم فالكل يرفض الانتباه إلى تبادل الأدوار هذا فيعلن دون خجل مثلاً أن النظام أجبرنا على التسلح، أن النظام هو الذي يجرنا إلى الطائفية، النظام يسبب الانشقاق بيننا، والنظام يسقطنا في حرب أهلية.. الخ!!
من المخيف بالنسبة لي رؤية المثقف السوري يتغاضى عن كثير من الممارسات والوسائل المشينة ويبررها في سبيل تحقيق أهداف انحرفت عن الأهداف الأساسية للثورة، فينادي بإسقاط النظام بأي وسيلة ممكنة، ويتغاضى عن احتمال فشل الأهداف نتيجة لانحدار الوسائل. لكن التاريخ يعلمنا أن ثمة صلة عضوية بين الوسائل والغايات تكاد تكون قانوناً كونياً، فخلال العقود الثلاثة الماضية أظهرت دراسة أجراها (بيتر آكرمان و كارتانايسكي – طبعة أخيرة 2010( [iv]، بأنه من بين 67 ثورة سلمية حققت خمسون ثورة انتقالاً إلى الديمقراطية، ومن بين 20 ثورة مسلحة، أربع ثورات فقط حققت هذه النتيجة والبقية كلها تعثّرت. أظهرت دراسة أخرى أوسع نطاقاً[v] أن معدلات الانتقال إلى الديمقراطية بعد الثورات المسلحة يكاد ينخفض إلى 4 بالمئة فقط، وأشارت أيضاً إلى أن معظم الدول التي لجأت للعصيان المسلح دخلت في صراعات أهلية مسلحة لمرة واحدة على الأقل خلال السنوات العشرة اللاحقة للثورة! بينما كانت النزاعات الأهلية شبه معدومة بعد الثورات السلمية.
هناك دراسة أخرى أجراها “إيديان صالحيان” بعنوان (ثوار خلف الحدود، الدول المجاورة وتوفير الملاذ لحركات التمرد المسلحة) أشارت إلى أن دعم المنشقين عسكرياً من قبل قوى خارج الحدود يجعل البلاد أكثر عرضة للدخول في حرب أهلية – وتحديداً حرب من النوع الذي يستمر عادة لفترات أطول من الحروب الأهلية الأخرى- فضلاً عن أنه يسهم في زيادة احتمال نشوب نزاع بين الدول أو الانتشار إلى دول مجاورة أخرى.
إما من جهة سقف المطالب، فلا أجد في رفعه أي قدر من الحكمة، ولا أي صلة بالتكتيك، خصوصاً مع طول المدة، فمن لم تسعفه شجاعته للانضمام إلى حركة تطالب بالإصلاح والحرية، لن تبدو بالنسبة له ثورة تطالب بإعدام الرئيس أو الانتقام من طائفة أكثر جاذبية على الإطلاق!. إن إعادة التذكير بالأهداف الأساسية للثورة قد يقنع المثقف والسياسي بإعادة النظر في الوسائل أيضاً، أما الإصرار على خطاب الانتقام والإعدامات فلن يؤجج إلا مزيداً من الغليان الشعبي السلبي، ولا يجب أن نتوقع إخماد هذه النار بسهولة بعد سقوط النظام، وكلما نجحنا في السيطرة على توقدها وتحويل هذه الطاقات المتفجرة من الحقد والغضب إلى المشاركة والتنظيم والعمل، كلما اقتربنا من أهدافنا الأولى، ولا أجد دوراً أهم من هذا الدور يتوجب على المثقف والسياسي السوري تبنيه وتحمل المسؤولية العظيمة تجاهه.
أولويات ضائعة وخيارات محتملة
ما هي الأولوية التي نضعها في اعتبارنا عندما نختار دعم خيار دون غيره والترويج له؟ أهي إسقاط النظام بأي وسيلة؟ أم السعي لإسقاط النظام بوسيلة لا يسقط فيها هذا العدد الكبير من الضحايا؟ الجواب هنا واضح، والسؤال موجه لمن هم على رأس هرم الثقافة والسياسة والإعلام: إلى أي الخيارين علينا أن نوجه الناس؟ وأي الخيارين يجب أن ندعم؟ إلى الخيارات التي تبعد الناس عن خطر المواجهة المباشرة حيث كان ذلك ممكنا؟ أم إلى الخيار الصعب الذي لطالما أثبت فشله، والذي لا يشارك فيه المثقف أصلاً، وأقل ما يمكن وصفه بأنه خطير جداً على من يمارسه وعلى البلد برمتها؟
يحاول دعاة العمل السلمي أن يوضحوا أن هناك وسيلتين للنضال السلمي: التركيز، والتشتيت. وسائل التركيز تتضمن الاعتصامات والمظاهرات وغيرها من النشاطات التي تحشد أكبر عدد من المشاركين في مواجهة مباشرة نسبياً مع النظام. أما وسائل التشتيت فهذه تبحث عن سبل أقل مواجهة تضمن أكبر عدد من المشاركة الشعبية مثل حملات المقاطعة والإضرابات وأنشطة عدم التعاون. بالنسبة للثورة السورية، ارتبط العمل السلمي بشكل كبير بنشاطات التركيز المتمثلة تحديداً في المظاهرات، وهذه النشاطات كانت فعالة جداً في إظهار التضامن الشعبي وفي فضح القمع المفرط، لكن الوسيلة الأخرى التي يفترض بأن تكون أقل كلفة بكثير من الناحية البشرية لم يجر دعمها أو الترويج له بما يكفي.
إن عدم التفكير بالمظاهرة على أنها الخيار الوحيد يتيح المجال لبناء تكتيكات أخرى وإطلاقها في اللحظة المناسبة، كما يساهم في خفض مستوى المواجهة مع السلطة، وضبط أهداف الثورة وشعاراتها، كل هذا يبقي الباب مفتوحاً أمام انضمام المزيد من الناس إلى الحركة الثورية. فيما أدى ويؤدي رفع مستوى المواجهة وسقوفها إلى إغلاق الباب في وجه مثل ذلك الانضمام. إن الانتقال من نشاطات التركيز إلى نشاطات التشتيت لن يعني تباطؤ الثورة بل مزيداً من التنظيم وقليلاً من المواجهة وبالتالي التقليل من عدد الضحايا، وإن وجب علينا الخروج للتظاهر في يوم، فيجب أن نستغل هذا التظاهر في الدعوة والتحضير لنشاطات العصيان والإضراب في يوم آخر.
علينا أن نتذكر بأن النظام مجموعة كبيرة من الناس يقفون على الخط الآخر، لهم مصالحهم ومخاوفهم ويدافعون عنها بكل ما لهم من قوة، منهم من يقف على المحيط القريب جداً من النظام، ومنهم من يقف أبعد قليلاً، ومنهم على الحدود القريبة بين النظام والثورة. التكتيك السليم يفترض العمل على تقليل مساحة هذا الخط المحيط بالنظام وتضييقه إلى الحد الأدنى من خلال الضغط وأحياناً الحوار والتسويق، حتى يفقد النظام الأدوات التي يعتمد عليها في قمعه. هذه المساحة تشمل الضغط الاقتصادي (حملات المقاطعة والإضراب)، والسياسي (مخاطبة الموالين وتعزيز الانشقاقات وتأمين المخارج والحماية عند الضرورة)، الضغط العسكري (من خلال تعزيز الانشقاقات وتأمين الحماية للمنشقين)، وأخيراً توفير البديل من خلال إفراز قيادة سياسية تعمل على دعم الداخل، ومجالس إدارة محلية تدير أمور الناس وتؤمن حاجياتهم بالتنسيق مع القيادة السياسية.
وإذا كان السلميون مطالبين دائماً بتقديم إستراتيجية واضحة، ولمن طالب بذلك كل الحق، أفلا يتوجب على المثقفين من دعاة التسليح تقديم إستراتيجية مشابهة أيضاً؟ أو المطالبة بها بأقل تقدير؟، بحيث يجيبون من خلالها على كثير من الأسئلة التي يجب الإجابة عنها. ليست الغاية من هذه المحاولة أصلاً سوى عدم استسهال خيار دون آخر وعدم الخوض في معركة لم يتم الإعداد لها بشكل علمي ومدروس.
الإضرابات وتقييم التجربة
كنت ضمن الفريق الذي عمل على التخطيط لإضراب الكرامة والترويج له كسلاح جديد للثورة السورية، وأثناء الإعداد لم أكن أتخيل، ولا أي من زملائي، أن تلقى دعوات الإضراب هذا القبول الشعبي الواسع وأن تستمر لهذه المدة الطويلة. لم تكن المشكلة بالنسبة لنا هي توسيع نطاق الإضراب بقدر ما كانت إيقافه (لالتقاط الأنفاس) حتى نتمكن من المواصلة بشكل أفضل وعلى نطاق أوسع. إن تقييم تجربة الإضراب ضروري لفهم جدوى العمل السلمي، وإن كان الإضراب لم يسقط النظام بعد، إلا أن قوته وجدواه باتت وسيلة يؤمن بها الكثيرون بعد أن كانت غائبة تماماً عن الوعي الشعبي بداية الثورة.
يسعى الإضراب للضغط على النخبة الاقتصادية لإحداث شرخ بينها وبين النظام الذي مازال إلى اليوم يستنزفها. في عام 1978، بدأت المعارضة الإيرانية في ثورتها ضد الشاه تنظيم إضرابات عامة بدأت بعمال مصافي النفط وتوسعت لتشمل جميع قطاعات الدولة من صحفيين وعمال شركة الطيران والسكك الحديد والجمارك ومعامل الطاقة والبنوك، وكان الإضراب واسعاً لدرجة أن البنك المركزي فشل في إصدار أذونات الخزينة لتمويل الحكومة لأن شحنة الحبر المستخدمة في طباعة الأذونات كانت محتجزة في الميناء، حيث أن عمال الميناء كانوا بدورهم مضربين عن العمل. وفي ثورة الفلبين ضد حكم ماركوس عام 1984 أنهكت الإضرابات القطاع الاقتصادي فكانت الضربة الأقسى على نظام الحكم ليس الانشقاقات العسكرية بل انشقاق النخبة الاقتصادية الموالية. وحتى النازيون أنفسهم أظهروا ضعفاً في مواجهة رفض الدنماركيين تقديم دعمهم لآلة الحرب النازية خلال الاحتلال الألماني لبلادهم في الحرب العالمية الثانية، ونجحوا في صيف عام 1944 في فرض حالة من الركود التام في بلدهم، وهو ما أجبر الألمان على إنهاء حالة الحظر والحصار المفروضة على البلاد[vi].
لكن أهم ما يقدمه خيار العصيان المدني ليس فقط ذلك الشلل الذي يستطيع أحداثه في بنية النظام، وإنما أيضاً تعزيز التضامن الشعبي من خلال تبادل الدعم بين المواطنين، وكان أحد أمثلته أن قام الشباب بدهان محل أحد التجار الذين شاركوا في الإضراب عندما تعرض للتخريب، أو أهدى رجل سيارته الخاصة لشخص حطم الأمن سيارته، ومن الأمثلة الأخرى كان البدء بتشكيل لجان الشراء المشترك التي تم تنفيذها فعلاً في أكثر من منطقة لتأمين الحاجيات وتوزيعها بشكل جماعي كوسيلة لإدارة الأزمة. هذه النشاطات من شأنها أن تفرز الكثير من العلاقات الإيجابية: فعلى الرغم من أن الإضرابات قد تؤدي إلى ضرر مادي كبير، إلا أن هذا الضرر لا يمكن مقارنته بضحايا النزاع العسكري الذي يؤدي جانبياً بدوره إلى أضرار مادية جسيمة. هناك أيضاً مسألة تعزيز المجتمع المدني، والتدرب على سبل حل الأزمات في المستقبل، حيث تشير الدراسات إلى أن وجود مجتمع مدني نشيط في الدولة يضمن ديمومة الديمقراطية فضلاً عن رفع معايير المعيشة والخدمات في المستقبل مثل الوضع الإداري والحقوقي ومتوسط دخل الفرد وغيرها. كما أن سبل حل النزاعات ضمن المجتمع أثناء الثورة سيعكس شكل الحل بعدها، فإن كانت هذه السبل تقتصر على الإضراب والاعتصام فسنشهد ذلك كثيراً بعد سقوط النظام، وإن كانت الوسائل هي السلاح، فسأترك لكم مساحة لتخيل سبل حل أي أزمة تحدث في المجتمع بعد سقوط النظام.
على عاتق القيادة السياسية
عندما وضعت هذا العنوان، كنت على وشك كتابته على الشكل التالي: (المجلس الوطني ودور القيادة السياسية)، لكني لست متأكداً من أن المجلس الوطني مقبول اليوم قائداً سياسياً للثورة، فليست لدينا اليوم قيادة سياسية تشرف على العمل الثوري في الداخل وتديره، وهناك أسباب كثيرة لذلك، ولن أتناول إلا واحداً منها.
إن نقاط الخلاف التي قضت مضاجع السياسيين السوريين كثيرة، ليس أقلها الانتماءات السياسية والإيديولوجية القديمة، وبعضها المتطرفة، ولا الدعوة للتدخل العسكري الخارجي بين من يؤيده أو من يعارضه. أنفق المعارضون جزءاً كبيراً من وقتهم وجهدهم في طرق الأبواب كلها جاهدين وراء حشد الدعم الدولي لنصرة المظلومين، وهذا الجانب يستحقون عليه كل الشكر، لكن ثمة جانباً مهماً جداً تم إهماله، وهذا الجانب تحديداً هو النقطة الوحيدة التي لا يمكن لهذه القوى أن تختلف عليها، بل يمكن أن تعيد لم الشمل والتوافق بينها: إنه خيار دعم المقاومة الشعبية. لقد انتبهنا إلى أن دعوات الإضراب والحداد والعصيان كانت تلقى أسماعاً قوية من كافة أطياف المعارضة السياسية دون تمييز، وهو ما يدل على احتمال أن تقرب هذه الوسائل بين المتخالفين من خلال التركيز على دعم هذا الخيار وترك الخيارات الخلافية الأخرى لصندوق الاقتراع في المستقبل.
فبدلاً من بذل كل هذا الجهد في السعي وراء دعم خارجي عسكري تكاد كل الدول تقسم لنا بأنها لن توفره، كان يتوجب على هيئة واحدة من المعارضة أن تعمل على هذا الملف، بينما تعمل بقية الأجهزة كلها على دعم الحراك الشعبي السوري وملفاته الكثيرة الأخرى: توفير منبر إعلامي لتوجيه الثورة، والسعي لتوفير هيئة حقوقية واسعة للترافع عن آلاف الناشطين القابعين في السجون، هيئة متخصصة في توثيق جرائم النظام ومتابعتها، هيئة لأطباء الثورة تشرف على توزيع الكادر الطبي على المناطق بحسب الحاجة وتأمين احتياجاتهم، هيئة بحوث تشرف على البحث والتحليل والتخطيط لإستراتيجية الثورة وتضعها بشفافية أمام الناس، وتشرف كذلك على طرح الخيارات السياسية المحتملة وتوضيحها للناس أثناء وبعد سقوط النظام.
لا يتطلب هذا الخيار توحيد المعارضة وإفراز قيادة واحدة لها. جل ما يحتاجه هو العمل في إطار هذا الهدف المقبول شكلاً، والمحمود ضمناً من قبل الجميع، وتوزيع الأدوار وانتخاب قيادات تكنوقراط من كل هيئة بحسب الكفاءة لا الانتماء.
خاتمة:
إن الخيار الذي أحدثكم عنه ليس إيديولوجياً أو أخلاقياً، بل يأمل في طرح نواة متواضعة جداً لبديل عملي حقيقي عن خيار مكلف جداً قد يدخل البلاد في حرب أهلية وصراع لا ينتهي. يملك هذا الخيار سجلاً تاريخياً أبيض، ويستطيع أن يضعنا بأقل تقدير على طريق واحدة توحد صفوفنا، وأن يقرب من وجهات نظر بات من العصي تقريبها بطرق أخرى، وستكون نتائجه على مستقبل الديمقراطية والحكم الرشيد في سورية هامة جداً، بل قد تتحول إلى تجربة تصدر للعالم العربي والمستضعفين في أصقاع الأرض كافة. إن النوايا الحسنة لوحدها لا تصنع نصراً، وليست الأصوات الأعلى هي الأكثر حكمة بالضرورة، واختباء المثقف خلف آلام الناس لا يعفيه من مسؤوليته التاريخية المتمثلة في إظهار البصيرة والتعقل والحكمة في ساعة الغضب والكرب، ولا يكفي بأي حال أن نصلي من أجل السلام ونحن نبذل طاقاتنا وجهودنا وأموالنا في سبيل الحرب.
[i] Why Civil Resistance Works. The Strategic Logic of Nonviolent Conflict
[ii] نفس المصدر
[iii] نفس المصدر
[iv] How Freedom is Won: From Civic Resistance to Durable Democracy. Adrian Karatnycky and Peter Ackerman
[v] Why Civil Resistance Works. The Strategic Logic of Nonviolent Conflict
[vi] A Force More Powerful. A Century of Nonviolent Conflict. Peter Ackerman and Jack DuVall
نورس مجيد- 21 آذار 2012