الدستور السوري الجديد وسلبياته
لم يعد خافياً على أحد أن النظام السوري يسعى بشتى الوسائل الممكنة إلى إيقاف زحف الثورة الشعبية المطالبة بإسقاطه. فقد حاول النظام بادئ الأمر وقف جماح الثورة عبر سبل عنيفة كالقتل والضرب بيدٍ من حديد. إلا أن تلك المعالجة فشلت. بل زادت من اندفاع الشعب وتوسعت رقعة احتجاجاته. كما حاولت السلطة أن تعالج الموضوع ببعض “الإصلاحات” السياسية بمثابة رشوة لكسب ودّ الشعب الثائر. ووضعُ دستور جديد للبلاد كان أحد تلك الرشوات. وجاء الإستفتاء على هذا الدستور، الذي قامت لجنة مكلفة من قبل السلطة بصياغته، بعد عام تقريباً من بدء الثورة. وحصلت الوثيقة الجديدة على موافقة اكثر من 89 في المئة من الذين شاركوا في الاستفتاء عليه. وكان الإقبال على الإستفتاء جيداً في المناطق التي توصف بالموالية، أي مناطق الساحل مثل اللاذقية وطرطوس وأيضاً السويداء وجزء من حلب وجزء من دمشق والرقة. أما في المناطق التي باتت محسوبة على المعارضة مثل درعا وحماة وإدلب وريف دمشق وحمص وبعض المدن في المحافظات الشرقية، فقلما اشترك الناس في الاستفتاء.
صلاحيات رئاسية واسعة
يتألف الدستور الجديد من 157 مادة أبرزها تعريف النظام السياسي في سورية بأنه ديموقراطي تعددي. وحلت هذه المادة محل المادة الثامنة من الدستور القديم التي تقول إن “حزب البعث العربي الاشتراكي هو الحزب القائد للمجتمع والدولة”، أي أن الوثيقة الجديدة تضع رسمياً حداً لحكم الحزب الواحد الذي امتد نحو نصف قرن.
ويتمتع رئيس الجمهورية بموجب دستور 2012 بصلاحيات تنفيذية وتشريعية واسعة، بحيث لا يوجد مجال من مجالات الحياة السياسية والإقتصادية والأمنية والإجتماعية إلا وله الصلاحيات المطلقة للتدخل فيها، سواء عبر التشريع أو عبر الأوامر والتعليمات الإدارية. فهو الذي يسّمي رئيس الوزراء والوزراء ونوابهم ويقبل إستقالتهم أو يقيلهم. ويحدد رئيس الجمهورية مع مجلس الوزراء السياسة العامة للدولة وله الحق بترأس مجلس الوزراء وطلب تقارير من رئيس الوزراء أو الوزراء. كما له الحق بالاعتراض على القوانين التي يصدرها مجلس الشعب. وهو الذي يعلن الحرب والتعبئة العامة ويعقد الصلح بعد موافقة مجلس الشعب. وهو الذي يعلن حالة الطوارئ ويلغيها. وهو القائد العام للجيش والقوات المسلحة ويصدر جميع القرارات والأوامر اللازمة لممارسة هذه السلطة. ويمكنه حل مجلس الشعب. ويتولى التشريع خارج دورات انعقاد مجلس الشعب وأثناء انعقاده أيضاً. وله أن يتخذ الإجراءات السريعة التي تقتضيها الظروف لمواجهة خطر يهدد الوحدة الوطنية أو سلامة واستقلال البلد أو يعوق مؤسسات الدولة دون ذكر لهذه الإجراءات. وهو الذي يرأس مجلس القضاء الأعلى. وهو الذي يسمي أعضاء المحكمة الدستورية. وهو فوق كل ذلك غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها إلا في حالة الخيانة العظمى. تنص المادة 117 على الحصانة المطلقة لرئيس الجمهورية وتقول: «رئيس الجمهورية غير مسؤول عن الأعمال التي يقوم بها في مباشرة مهامه، إلا في حالة الخيانة العظمى، ويكون طلب اتهامه بقرار من مجلس الشعب بتصويت علني وبأغلبية ثلثي أعضاء المجلس بجلسة خاصة سرية وذلك بناء على اقتراح ثلث أعضاء المجلس على الأقل، وتجري محاكمته أمام المحكمة الدستورية العليا». وهذه المحكمة الدستورية العليا وبحسب المادة 140 من الدستور المقترح يتولى الرئيس تسمية أعضائها السبعة.
كل هذه المواد آنفة الذكر تبرهن عدم جدية النظام بالقيام بأي إصلاح يذكر. لقد تجاوز الرئيس ما كان قد تحدث عنه في خطابه الثالث عندما قال: “إذا كان المطلوب تعديل بعض مواد الدستور فهذا يحتاج إلى مجلس الشعب. أما إذا كان المطلوب إعداد دستور جديد فهذا يحتاج إلى جمعية تأسيسية”. الأمر الذي لم يحصل. فقد تم الاكتفاء بتعيين لجنة على المقاس المطلوب، متجاهلاً وجود معارضة ووجود أزمة تعصف بالبلاد. والغريب في الدستور الجديد هو أنه اشترط على من يترشح لمنصب الرئيس أن يكون سوري المولد ومن أبوين سوريين المولد وأن يكون مقيماً في الجمهورية العربية السورية لمدة عشر سنوات متواصلة. في حين اكتفى الدستور السابق بأن يكون المرشح إلى الرئاسة “عربياً سورياً متمتعاً بحقوقه المدنية والسياسية”. ومن الواضح أيضاً أن جميع السوريين المقيمين في الخارج لأسباب مختلفة سوف يفقدون حق الترشح إلى منصب الرئيس بدلالة عدم استمرارية الإقامة في البلد لمدة عشر سنوات متواصلة.
الدستور ينتقص من حقوق الأقليات
تجاهل الدستور حقوق الأقليات القومية ولم يأتي على ذكرها، رغم أنه أشار في مقدمته إلى وجود مكونات عديدة في المجتمع السوري. وأشار في مادته التاسعة إلى وجود تنوع ثقافي في البلاد. لكنه تجاهل ذكر هذه المكونات والتي هي مكونات قومية وليست ثقافية فحسب ولها بالتالي حقوق قومية كان ينبغي الاعتراف بها دستورياً ومنهم على سبيل المثال لا الحصر الأكراد السوريون الذين عانوا كثيراً من تجاهل حقوقهم رغم أنهم شركاء حقيقيون في الوطن وتركوا عبر التاريخ بصماتهم على تطوره. وهم اليوم مساهمون مع بقية السوريين في الثورة ضد النظام الاستبدادي القائم.
يقول المثل الشعبي “من شابه أباه ما ظُلِم”. ينطبق المثل المذكور على حالة المتحكم بسورية اليوم أشد انطباقاً. فهو على خطى والده الرئيس الراحل حافظ الأسد الذي حكم سورية بـ “السوط والجزرة” طيلة ثلاثين عاماً في ظل دستور فصّله على مقاسه. وها هو الرئيس الإبن اليوم يفصّل دستوراً جديداً على مقاسه أيضاً. هذا ما كتبه المعارض السوري منذر خدام في إحدى مقالاته واصفاً الدستور الجديد بالاقصائي قائلاً: “لقد نجح الرئيس الأب في تمرير دستور لنظام استبدادي بامتياز دون أن يواجه أية اعتراضات تذكر في حينه. واليوم أيضاً سوف ينجح الرئيس الشاب بفرض دستور جديد مفصل على مقاسه لكن بوجود معارضة كبيرة له.” ويشير خدام إلى أن القصر كان يتدخل لحسم خلافات بين أعضاء اللجنة المكلفة يصياغة الدستور بشأن بعض المواد، لا سيما تلك المتعلقة بفصل السلطات وصلاحية الرئيس وطريقة ترشحه وانتخابه ومدة رئاسته وذلك بتوجيه اللجنة لإجراء تصويت عليها فتفوز بالنتيجة إرادة الرئاسة نظراً لأن أغلبية أعضاء اللجنة تأتمر بأوامرها.
قدري جميل رئيس الجبهة الشعبية للتغيير والتحرير التي تضم الحزب السوري القومي الاجتماعي واللجنة الوطنية لوحدة الشيوعيين السوريين ومجموعة شخصيات وطنية. جميل أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور، يعتبر نفسه معارضاً ومقتنع بمشروع الإصلاح الذي أطلقه بشار الأسد، أكد في حوار مع قناة “روسيا اليوم” أن الدستور فقط لا غير يخلق الظروف والشروط الضرورية لبدء الإصلاح ويستطرد قائلاً إن الشرط الضروري يمكن أن يبقى شرطاً دون أن يتحول إلى واقع. لذلك التطبيق يتطلب واقعاً سياسياً له علاقة بالإرادة السياسية. الوضع كان يمكن أن يكون، حسب قول جميل، أقل تعقيداً وأسهل لو تم إقرار الدستور منذ 6 أشهر وتأخير هذه الخطوة دفعت ثمنه سورية. وأعرب جميل عن سعادته بأن نتائج الاستفتاء لم تكن 99.9%. بل جاءت برقم واقعي. ولكن ما يثير السخرية أن قدري جميل نفسه أحد أعضاء لجنة صياغة الدستور دعا بعد أيام قليلة من الإستفتاء للخروج في إعتصام أمام البرلمان السوري اعتراضاً على المادة الثالثة التي تحصر دين رئيس الدولة بالإسلام. ورغم أن الدعوى لم تلق أي ترحيب من الشارع السوري إلا أنها وضعت إشارات واضحة حول الدستور ولجنة صياغته.
وقاطع نشطاء الثورة والحراك الشعبي الإستفتاء بشكل علني وكبير. وحرّضوا الناس على عدم مشاركة دستور القتل والعنف. ودشن نشطاء سوريون على موقع التواصل الاجتماعي فيسبوك حملة “لا لمشروع الدستور السوري الجديد”، لأن هذا المشروع حسب قولهم ليس إلا تغطية على جرائم بشار الأسد ضد الشعب السوري. محمد اليوسف، تاجر أغذية، يعكس رأي الكثير من السوريين حين يقول: “الدستور والاستفتاء عليه ليسا سوى خدعة من النظام ورشوة لنا كشعب وهو كسابقه من الإنتخابات. هذا النظام لا يمكن أن يكون ديمقراطياً واصلاحياً. لقد اعتاد على الفساد ونحن نعرف أنه يزور كل الانتخابات ولا يأبه للشعب. واليوم أيضاً يعيد تفصيل دستور جديد على مقاسه كي نستفتى عليه وهو للأسف دستور القتل والدماء التي نزفت من شعبنا. لم ولن نقبل أي رشوة من النظام.”
الكاتب السوري المعارض حسين العودات وصف في مقالة له الدستور قائلاً: “من حيث المبدأ كان من المفترض أن تضع الدستور هيئة تأسيسية منتخبة من الشعب تشارك فيها مختلف الاتجاهات السياسية والفئات الاقتصادية والاجتماعية. ومختلف تنوعات فئات المجتمع السوري. كي يكون الدستور ملبياً لمطامح الجميع ومصالح الجميع. وتضع هذه الهيئة أسس مشروع الدستور. ثم تكلف لجنة من المختصين والأكاديميين والقانونيين بصياغته وإعداده. ثم بعد ذلك يطرح على الاستفتاء الشعبي. إلا أنه للأسف الدستور واللجنة المعدة لصياغته كانت على مزاج النظام.”
إن الشارع السوري وثورته أحدثَ مفارقة كبيرة في نتائج الإستفتاء بعد مقاطعتهم له. وهو ما أجبر النظام على القول أن عدد الناخبين لم يصل إلى 60% من الشعب. وهذا تحدٍ صريح تعود نتائجه لصالح الشعب وثورته بعدما اعتاد على نتائج قياسية في الماضي. لم يستطع النظام إقناع الشعب السوري برشوة جديدة بل زاد من إصرار الشعب على إسقاطه ولم يدرك النظام حتى اليوم أن الشعب هو الذي سيقرر حياته الجديدة في مجتمع ديمقراطي تعددي.