صفحات الثقافةعزيز تبسي

الدفع نحو الحيرة/ عزيز تبسي *

 

 

قهقهوا طويلاً لحكاية رووها وتداولوها عن أحد رؤساء الوزراء في القرن الماضي، الذي تميز بقباحة شكله، المضافة إلى قبائح عديدة مسلكية، قليلها بيّن ظاهر، وأغلبها مخفي. رووا أنهم وجدوه في الآخرة برفقة الممثلة الأمريكية الراحلة “مارلين مونرو”، فهرعوا من فورهم ليستفسروا من أصحاب الشأن عن هذا الثواب، الذي لا يتناسب قط مع أفاعيل هذا الرجل ووزرائه.. فأجابهم كبير الحرس من فوره “ما رأيتموه، لم يكن عقوبة لرئيس وزرائكم، بل للممثلة الأمريكية الفاسقة”. انتظَر بعدها للحظات ليستمع إلى تعقيبهم، لكنهم لم ينبسوا بأي حرف، استأذنوه ومضوا، اصطفقت الأسئلة في أذهانهم، كأبواب حانات رعاة البقر: ألا يمكن اعتبار هذه العقوبة بمثابة مكافأة لرئيس الوزراء كذلك، أم أنه تدبر أمره هناك كما تدبر الأمور هنا..

التبست الوقائع على الناس، وألحقت بمساهمة منهجية من إعلام يتلاعب بالوقائع.. خالقاً واقعاً ميدانياً ثم الادعاء المبهر بأنه يصفه. وباتت تختلط عليهم الوجوه المتخيلة لأبطالهم التاريخيين وسير حياتهم، بصور وسير الممثلين الذين يؤدون أدوارهم في الأفلام والمسلسلات. وكأن المطلوب هو رؤية ما يسمح برؤيته والاقتناع به على كونه الحقيقة، لا إحدى وجوهها.. الذي قد يكون الوجه الأشد ضحالة وبؤساً وغشاً. ومع تعاقب الأيام، بمرورها القاسي والمرعب، بات من الهين الإجابة على التساؤل الميتافيزيقي عن أسبقية الدجاجة على البيضة أو البيضة على الدجاجة، بعد مقارنته بأسبقية الانتفاضة الشعبية على تنظيم “داعش” أم أسبقية “داعش” على الانتفاضة الشعبية، وعن أسبقية التدخل الخارجي على التظاهرات السلمية أم العكس، أو من الذي يندس بالآخر، المتظاهرون أم الذين يندسون في التظاهرات ويسوقونها إلى حيث لا يريد أهلها، وعن المؤامرات التي تتشبه ببعض المسلسلات الرمضانية التي تتوزع على أجزاء وحلقات تكاد تكون بلانهاية.. يتنهد المرء بحيرة، لفرط توسع هذا الخطاب ونفوذه، ويهمس: أرى  متآمرين ولا أرى مؤامرة!!

أهانهم الشاعر الإغريقي الكفيف هوميروس في إلياذته، حينما كتب بثقة العارف “حتى البلهاء أدركوا الحقيقة”. لم يكونوا في يوم بلهاء، لكنهم تعثروا في الوصول إلى الحقيقة، قبضوا على حقائق صغيرة مبعثرة، وعجزوا عن صياغة جداريتها الراسخة. وماذا لو أدركوها مكتملة غير منقوصة، ماذا سيصنعون بها، أيملكون الشجاعة والقوة التي تحميهم، للإفصاح عنها؟!

لا يمكن الخطأ في تبين علامات الثورات، فالثورات لا تخفي مقاصدها، ويملك أهلها من الجرأة ليوضحوا لأنصارها الخطط والأهداف والأدوات التي يتوجب التعرف عليها والتمسك بها، للوصول إلى خواتمها.. الإنقلابيون هم من يخفون غايتهم. لكن لا تسير الثورات وفق مرتسم خط هندسي مستقيم تعرف بدايته ونهايته والشعوب الثائرة جند مجندة للبرهنة على تصورات وضعت مسبقاً، لاستقامة هذا المرتسم.

لكن ما حصل بعد عامين من انطلاقتها، أمسى خارج إرادة وتصورات وأهداف أهلها، كما أضحت بلادهم، جغرافيا لصراع مصالح دول ومختبرات لسياساتها وأجهزة استخباراتها، كانت أبرز نتائجها إخراجهم من الصراع والحلول محلهم، فأمسوا يراقبون الصراع في سياقه الحربي، باحثين عن مواقعهم به، إن تبقّى لهم مواقع.

***

ترى من أين نبعت الحيرة في إدراك هذه الوقائع المتحركة؟ أمن تلك النسبية المعرفية التي ساهمت في إضفاء طابع منهجي على الشكوكية، وحصار متواصل للحقائق الجلية والمبرهن عليها، التي تدفع الأذهان نحو الارتياب والتحير الدائمين.

أمن الحجب المنهجي للحقائق، وتعقب من يحمل أدلتها وثبوتيتها وبراهينها، لمعاقبته بالتضييق عليه وتهميشه، أو إقصاءه كلياً بالاعتقال أو الصمت، أو دفعه نحو الهجرة.. أي بكل الوسائل التي تجعله خارج العملية التفاعلية لإظهار الحقيقة أو بعضها، أو التشكيك بوقائع تعْرض من جهات حصرية.

أمن الهيمنة على حصص عالية من أدوات الإعلام، التي تعكس القدرات المالية لمن يمولها ويؤمن استمرارها.. مما يدفع لمعاينة طالما يجري تجاهلها والاستخفاف بدورها وقيمتها، أي الارتباط العميق بين الجماعات الحاكمة والإعلام السائد، بوصفه إعلامها.

نحسن الاتجاه إن سلكنا طريق التعقب الجنائي.. حينما يتوجب على المحقق البحث عن الجاني أو الجناة.. هو قاتل أو سارق أو مزور أوراق، لكن يتوفر دوماً من يعيق الوصول إلى الأدلة، فضلاً عن توفير الحماية التي يتمتع بها الجناة، ومنعها عن المحققين. لنأمل باقتياد مرتكبي الجريمة من رسغهم إلى قوس العدالة.

وللحقائق، وفي تلك النسبية سيئة السمعة، وجهان على الأقل، مثل قطعة النقد، لا وجه واحد مثل ثمار اللوز.

– لكننا لا نعرف ما حصل بعد 18 آذار.

– لأنكم تجاهلتم ما حصل قبله.

تتكرر حكاية جلوس الطالبين الجامعيين “الشهيرين”على مقعد في حديقة كليتهما الجامعية، واستعرضهما لإجابتيهما على أسئلة الامتحان، واستكمالهما في النهاية سؤال الحيرة الرابض فوق أنفاسهما: “أنرسب في الامتحان إن لم ننجح فيه”. تحولت هذه السخرية إلى قاعدة فكرية. ما من طريق واضح يمكن اعتماده للوصول إلى المكان المرتجى. لا يعرف الطالب إن كان سينجح إن لم يرسب، كما سيفوت الطلبة في جيل لاحق أن يعرفوا ماذا سيفعلون بعد نجاحهم، بشهادتهم الجامعية المنسوخة بالألوان الأنيقة على الورق المقوى.

لم يعد مهماً انتظار تكرار حكاية الطفل الذي ترك رأسه مرفوعاً وعينيه مفتوحتين، ليرى الملك عارياً، كناية عن رؤيته للحقيقة، حقيقة الملك بوصفه رمزاً للسلطة الكلية. لكن وعلى الرغم من أهمية المعرفة الحسية، لن يستدل على السلطة بالحواس، ولم يعد كافياً الاعتماد على الحواس في معرفتها، ربما لأن السلطات تُظهر ما يجب أن يَظهر للعيون المحدقة، ولأن حال الحكم وتعقيده تجاوز حال تلك الإمارات الإقطاعية الأوروبية المكونة من مجموعة قرى وبلدات، إلى ما هو  أشد تحجباً وكتامة، ولأن الملوك أمسوا أكثر خفة، بعدما تحرروا من أثقال ثيابهم ليظهروا أكثر مرحاً وفكاهة. وبات المطلوب مواجهة مهمة صعبة: تعرية السلطة لا ملوكها وأمرائها، طالما هي لن تجازف قط في تعرية ذاتها.

* كاتب من سوريا

السفير العربي

 

 

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى