صفحات العالم

الدواء المر


غسان شربل

لم تتوقع سورية امتداد نار «الربيع العربي» إلى أراضيها. اعتبرت ان سياسة الممانعة التي تمارسها شديدة الالتصاق بمشاعر السوري العادي. تصرفت وكأنها تملك مثل هذه الحصانة. ولعلها راهنت ايضا على الامن الصارم المستمر منذ عقود. وربما اعتقدت ان «الإخوان» لم يستيقظوا بعدُ من الضربة القاصمة التي وُجهت اليهم في بداية الثمانينات، وأن القوى الاخرى في المعارضة لا تمتلك جذوراً في المجتمع.

لم يكن تزايد المظاهر الدينية سراً في المجتمع السوري في السنوات العشر الماضية، لكن السلطات اعتبرت انها نجحت في التعايش معه وتدجينه. موقف سورية من الغزو الاميركي للعراق حرم خطباء الجمعة فرصة تحويل جزء من غضبهم الى الحكومة. ثم ان السلطات السورية التي كانت تناكف اميركا وتعادي اسرائيل، تتحالف مع ايران و «حزب الله» و «حماس». وأكثر من ذلك، فإن سورية تقيم منذ سنوات علاقات استراتيجية مع تركيا وقطر اللتين تربطهما علاقات ممتازة ومميزة بتنظيمات «الاخوان» وما يشبهها.

انشغلت سورية كثيراً بمعارك الخارج. تناست ما كان عليها استخلاصه من «ربيع دمشق» العابر، وتحديداً في ملفين: تخوف الحزب من الاصلاح وتحوله عائقاً أمامه، ومسألة الحريات ومبالغة الامن في إحصاء أنفاس المواطنين. أرجأت النجاحات في معارك الخارج استحقاقات الداخل. وانشغلت السلطة عن ضرورة استباق عودة الاستحقاقات التي لا يمكن ارجاؤها الى ما لا نهاية له.

يعتقد بعضُ مَن رافقوا تلك الحقبة، أن الشبكة الامنية-الحزبية التي شجعت على وأد «ربيع دمشق» نجحت في تعميق الخوف من اي تغيير، ونجحت في ترسيخ الاعتقاد بأن الخارج يحل مشاكل الداخل، وأن العلاقات مع تركيا وقطر وفرنسا يجب ألاّ تمس أبداً جوهر الإقامة على خط الممانعة، بل يجب توظيف عائداتها الاقتصادية والديبلوماسية لتعميق تلك الإقامة، وأن الانفتاح الاقتصادي يجب ألاّ يمس هيمنة الحزب وقبضة الامن.

فجأة، وجدت السلطات السورية نفسها في دوامة الاحتجاجات. تحركت بمزيج من القلق والقسوة. قرأت الشبكةُ الامنية-الحزبية الاحداث على انها رياح وافدة من الخارج، واعتبرت ان النجاح في المواجهة يكمن في الافادة من دروس البلدان الاخرى. استنتجت انه لا بد من منع المحتجين من العثور على ميدان تحرير ومكان دائم للاعتصام، وأن كسب المعركة يفرض منع المليونيات وما هو اقل منها، اي التجمعات التي يمكن ان يتكئ عليها العالم للقول ان النظام دخل في عزلة، وانه لا بد من منع قيام بنغازي سورية قرب هذه الحدود او تلك، لأن قيامها يسهل التدخل الدولي، وان توجيه الضربات القاصمة الى بؤر الاحتجاجات كفيل بمحاصرة النار وإخمادها. ويمكن القول ان السلطات السورية تمكنت من تحقيق ذلك، لكن الثمن كان باهظاً في الداخل، وأكثرَ كلفة في الخارج.

بعد تسعة اشهر على اندلاع الاحتجاجات يتعمق المأزق في سورية وتقترب البلاد من حرب اهلية. تداخلت الازمة السورية مع خطوط التماس المذهبية على مستوى الاقليم. ومنيت سورية بخسائر متتالية لعلاقات كانت توصف بالاستراتيجية، وتواجه اليوم عزلة عربية ودولية. حالت الممانعة الروسية دون صدور قرار من مجلس الامن، لكن من يضمن استمرارها؟ وما هو الثمن؟ هذا من دون ان ننسى ان سورية خسرت معركة الاعلام منذ الاسابيع الاولى للاحتجاجات.

لا شيء يوحي بحسم سريع في المواجهة الدائرة على الارض السورية. كل يوم يحمل مزيداً من الجنازات والمآسي. كل يوم يعمق الاقامة في المأزق. الفكرة الوحيدة المطروحة هي المبادرة العربية. كلما قرأت دمشق بنود المبادرة تذكرت المبادرة الخليجية في اليمن. كلما قرأت شعرت ان الدواء شديد الوطأة. لكن التجارب تقول إن تناول الدواء المرّ قد يكون افضل من البقاء بلا دواء وتعريض الذات للالتهابات والمناطق العازلة والحظر الجوي والجراحات المدمرة.

الحياة

مقالات ذات صلة

اترك تعليقاً

لن يتم نشر عنوان بريدك الإلكتروني. الحقول الإلزامية مشار إليها بـ *

هذا الموقع يستخدم Akismet للحدّ من التعليقات المزعجة والغير مرغوبة. تعرّف على كيفية معالجة بيانات تعليقك.

زر الذهاب إلى الأعلى